الصراع بين حرية التعبير والثوابت الدينية لا يتوقف.. ولن يتوقف.. فدعاة الفريق الأول لا يعترفون بالمقدس، ودعاة الفريق الثانى ملتزمون به، وما بين الفريقين، جدل مستمر، حاول ويحاول كثير من الفلاسفة والكتاب والدعاة والمفكرين حسمه، أو على الأقل التوفيق بينهما بما يشبه الهدنة. الكاتب والمؤرخ والمفكر الكبير طارق البشرى خص «الشروق» بدراسة مهمة عن هذه القضية موضحا الفارق بين الحق فى التعبير والتمسك بالثوابت الدينية. من حين لآخر، وكما عهدنا فيه، يطل علينا الكاتب الكبير والمفكر والمؤرخ، المستشار طارق البشرى، نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق بكتابات ودراسات تثرى المكتبة الفكرية بالعديد من الآراء والتحليلات التى يستفيد منها المثقفون والدارسون والمهمومون بأمر هذه الأمة. كتب المستشار البشرى، دراسة متأنية فى ماهية الحق فى التعبير وعلاقته بالثوابت الدينية بعدما أصبح الخلاف، بل والنزاع بين الشقين كبيرا، فبعبارات فلسفية ومفردات أدبية خالصة وضح البشرى الفارق الكبير بين فريقى الدفاع عن الحق فى التعبير. فقد وصف الفريق الأول بأنه يشترط لتحقق الحرية فى التعبير ألا تعوقها ثوابت الدين ومقدساته أو حتى متدينيه لأنه من أصحاب المرجعية الوضعية، واعتبر الفريق الثانى يرى أن الحق فى التعبير مشروط بالحفاظ على الحد الأدنى من أدب التعامل مع ثوابت الدين ومقدساته ومسلماته التى خلق البشر فوجدوها منهاجا لأسلافهم لأن مرجعيتهم دينهم، مع الإشارة إلى أن الأمر الذى دعاه مؤخرا لكتابة الدراسة يتكرر فى مصر منذ سبعينيات القرن الماضى. وعلى الرغم من تأكيده أن الخلاف بين الفريقين لن يُحل، حتى وإن بدا فى الظاهر أن الأمر قد انتهى، فإنه وكما يقول فى دراسته «أبيّن هذه المسألة لكى تتضح الفروق بين المعانى، فالحق ينبغى أن يُقتضى، وإذا تعارض حقان وكانا متساويين فى الأحقية. وجب إزالة التعارض بينهما بما يحفظهما معا أو يحفظ أكبر قدر منهما معا، أما الرُخص فهى تدور فى إطار المُباح والجائز، والحريات تقف عند حدود الحقوق أى إن حريتى تقف عند أعتاب حق غيرى، وحريتى فى الحركة والتَنقل تقف عند حدود ملك غيرى أرضا كان أو سكنا».. وها هى الدراسة كما كتبها صاحبها: أسباب الدراسة فى السنتين الماضيتين أثير موضوع «الحق فى التعبير» وعلاقته «بالثوابت الدينية»، أثير ذلك فى صور ملموسة تتعلق بما ورد ببعض القصص والروايات من عبارات لا يمكن للنفس المؤمنة بالدين أن تتقبل قراءتها أو سماعها أو تلقيها بأى وسيلة من وسائل الأداء والتلقى، سواء بالنسبة للذات الإلهية والرسالة النبوية، أو بالنسبة لما يقع بعامة فى قلب المؤمن موقع التسليم والخشوع. وهذه المسألة ذاتها ترددت من قبل فى مجالات قصصية وفكرية خارج مصر وفى داخلها، وكانت أقرب للمعارك الفكرية اشتد فيها الخصام، وذلك على مدى العقدين الماضيين، وهذا يعنى أن ما وقع فى السنتين الأخيرتين بمصر لم يكن مُحدثا ولا طارئا، إنما تكررت وقائع متشابهة منه على طول عقدى الثمانينيات والتسعينيات. تبدأ الموجة بكتاب أو قصة تكتشف، وتعلو بصخب الخلاف ثم تهبط لا لأن المشكلة حلت فإن أمرا من ذلك لا يحل وإنما تهبط لأن أحداثا أخرى صرفت الناس، أو لأن الحديث صار تكرارا بغير عائد يعود أو قناعة تجد أو اقترابا يحدث أو تباعدا يزيد هو مثل حوادث الحدود بين البلاد المتحاربة. حدث ثم تبادل لإطلاق النيران ثم سكوت، وفى كل الأحوال يظل الترقب قائما، على أن الجديد عندنا الآن أن جمعية الثقافة والحوار طرحت الموضوع فى مؤتمر عن «الحق فى التعبير» ليجرى التداول الفكرى بشأنه بعيدا عن الأحداث المثيرة وعن أجواء المعارك الفكرية، ومشكلة المعارك الفكرية أنها مثل معارك الحروب القتالية، تستقطب فيها المواقف وتجنح إلى المفاصلة، وتغلق فيها الحدود، وتستبعد منها مساعى التوفيق وإمكانات الاحتكام إلى مبدأ أو منهج بحثى يتراضى الأطراف على قبول نتائجه. كما أن المعيار الذى يسود لا يتعلق بالخطأ والصواب بقدر ما يتعلق بالنصر والهزيمة. ومشكلة المعارك الفكرية أنها مثل معارك الحروب القتالية، تستقطب فيها المواقف وتجنح إلى المفاصلة، وتغلق فيها الحدود، وتستبعد منها مساعى التوفيق وإمكانات الاحتكام إلى مبدأ أو منهج بحثى يتراضى الأطراف على قبول نتائجه. كما أن المعيار الذى يسود لا يتعلق بالخطأ والصواب بقدر ما يتعلق بالنصر والهزيمة ومن هنا جاء طرح «جمعية مصر للثقافة والحوار» هذا الموضوع للتداول بعيدا عن الأحداث المثيرة والمناسبات «القتالية»؛ وهو ما يمكن من إتاحة الحديث الموضوعى والبحث عن المعايير التى تسهم فى تبين أوضاع الاحتكام فى هذا الشأن، ومن هنا ترد محاولاتى التى أضعها فى هذا السياق. الفرق بين حق التعبير وثوابت الدين أول ما يرد الحديث بشأنه هو: ما «الحق فى التعبير»؟ وما «الثوابت الدينية»؟ وإن تبين طبيعة كل منهما هو أولى خطوات البحث فى حدود العلاقة بينهما فالحق هو ما ثبت ووجب، أى هو الواجب الثابت، ويطلق على المال والملك والوجود الثابت، وبمقتضى كونه واجبا ثابتا فهو يكون معينا أو قابلا للتعيين. والحق فى الفكر الوضعى هو سلطة يخولها القانون للشخص على شىء معين مثل حق الملكية، وهو سلطة تخول شخصا مطالبة شخص آخر بإعطاء شىء أو بعمل أو بامتناع عن عمل، أو هو مصلحة يحميها القانون كما يقول البعض، وعلى كل الأحوال فهو بمقتضى أى من هذه التعريفات ينبغى أن يكون معينا. فالحق يكون على أمر محدود كامتلاك شيء بعينه، أما ما يسمى «الحق فى التملك» فهو «رخصة» وليس حقا بالمعنى المتعين، والرخصة وجه من وجوه الإجازة، هى مكنة إتيان فعل ما، هى وجه من وجوه الإباحة، وهى تشير إلى المعنى الذى يستخدم له اليوم لفظ «الحرية» فنقول بحرية التملك والتعاقد أو حرية الاعتقاد والتعبير بمعنى أن الأمر يقع فى مجال الجائز من الأمور. ولا يقال إنه بموجب حريتى فى الحركة يكون لى أن أقتحم بيت جارى، ولا يكون بموجب رخصتى فى التملك فإنه يمكننى أن أبيع ملك غيرى، وبالمثل فإن حريتى فى التعبير، لا تكفل لى سب غيرى بأن أنسب له ما يُشينه، ولا تَكفل لى القذف فى حقه بأن ألصق به من الجرائم ما لم يثبت أنه ارتكبها، فأضعه فى موضع التهمة دون شبهة. وللإنسان حرم وعصم، فالدول مثلا لا تمتلك البحار والمحيطات وليس لها عليها سيادة، ولكن لكل دولة مساحة فى البحر تعتبر مياها إقليمية، هى هذه المساحة المتعارف على أن الغريب الداخل فيها بغير إذن يمكنه أن يهدد أمن هذه الدولة، وعرف نظام مثيل لذلك فى البوادى، فكان للقبيلة «حمى» يحوطها خارج نطاق سكنها وعملها، وللبيت «حمى» يحوطه خارج أسواره. ومن ثم فإن الرخص والمباحات، أى الحريات تقف عند حدود حقوق الآخرين فلا يحل انتهاك حق للغير باسم الحرية، ما دام حقا معترفا به من الجماعة أو الدولة. وكذلك فإن هذه الحريات تقف عند حدود العصم والحرم التى للغير، أى هذا النطاق الذى يحيط بالغير وبحقوقهم، ولا يحق انتهاكه طبقا لما تتعارف عليه الجماعة المعنية. «مرجعية كل منهما» لا أريد أن أقصر حديثى فى بيان المسألة المثارة وهى «حق التعبير والثوابت الدينية» على الموقف الدينى فقط؛ لأنه فى إطار الفكر الدينى لا تثور مشكلة فى هذا المجال إلا فى إطار الفروع، للبحث مثلا فيما هى الثوابت وما لا يُعتبر منها. المسألة هنا تقوم لا بين حق التعبير وثوابت الدين بمعنيهما المتبادر، ولكنها تقوم بين مرجعيتين فكريتين. المرجعية المتحصنة فى ثوابت الدين، والمرجعية الوضعية التى تستخدم «حق التعبير» بوصفه مقدسا أوجده البشر فى تاريخهم الحديث ليحل محل المرجعية الدينية ذاتها، أى أنها تستخدم هذا «الحق» لإزاحة ثوابت الدين. ونحن عندما نتكلم عن ثوابت الدين، إنما تصدر عن المرجعية الدينية وعن أصولها، والمرجعية الدينية تلزم المتدين، واختياره لتدينه يلزمه إراديا بحراسة ثوابت ما يتدين به، ولا تقوم لديه مشكلة فى احتكامه إلى ثوابت ما يريد أن يحفظه، كما لا تقوم مشكلة لدى من يتحاور معه من المتدينين، لاستقرار توافقهما على الاحتكام إلى ما يتوافقون على حفظه من ثوابت وأصول ومرجعيات. إنما تقوم المشكلة عندما لا يكون الطرف الآخر فى الحوار مُتدينا، وعندما يكون صادرا عن مرجعية وضعية يريد لها السيادة، هنا يدور الجدال على محورين متوازيين لا يلتقيان، ولا يستطع المتدين أن يلزم غير المتدين بموجبات التدين، وبحاكمية لا يقبلها غير المتدينين ولا يقبلون حكمها، ولعل البعض منهم يجتهد فى سعيه إلى نفيها. وما دام الوضع الاجتماعى المُشترك، والعيش المُشترك، يفرض علينا أن نتحاور ونتجادل، فعلينا أن نسعى إلى استخراج معايير للاحتكام تمكن من المجادلة بالتى هى أحسن.
بيانات حقوق الإنسان إننا إذا استندنا إلى بيانات حقوق الإنسان التى صيغت فى إطار المرجعية الفكرية للثقافة الغربية، وصارت هى الإطار الذى تترسم به الحقوق فى هذه الثقافة، نلحظ ما يلى: أن البيان العالمى لحقوق الإنسان الذى أصدرته الأممالمتحدة فى 10 ديسمبر سنة 1948، نص فى المادة الثانية منه على أن «لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات الواردة فى هذا الإعلان، دون أى تمييز. كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأى» فهو يميز بين «الحقوق» وبين «الحريات» فالعطف كما يقال يقتضى المُغايرة، وعطف الحريات على الحقوق فى تمتع الإنسان بها يفيد أن لكل من اللفظين صلاحيته الخاصة، بما يؤكد ما سبق ذكره عن التمييز بين الحق وبين الرخصة أو الإباحة. ثم إن المادة الثامنة عشرة من ذات البيان تنص على أن «لكل شخص الحق فى حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها، سواء أكان ذلك سرّا أم مع الجماعة» كما تَنص المادة التاسعة عشرة «لكل شخص الحق فى حرية الرأى والتعبير. ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أى تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأى وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية». ويلاحظ على هذين النصين، أنه من وجهة نظرنا، نحن المتدينين بدين الإسلام، أن لدينا تحفظات تتعلق بحرية ترك المسلم لدينه، على تفاصيل، ليس المجال مجال الحديث عنها ولا ذكر الخلافات بشأنها. ولكن ما أريد الإشارة إليه، فيما يتعلق بما أثيره هنا، هو أن كلا النصين السابقين، يضربان الأمثلة على ما يقصدان بحرية التفكير وحرية الدين وحرية الرأى والتعبير، هذه الحريات تتعلق بتغيير الدين أو العقيدة وبحرية الإعراب عن ذلك وحرية التعليم وممارسة الشعائر ومراعاتها، كما أن حرية الرأى والتعبير تشمل حرية اعتناق الرأى واستقاء الأنباء والأفكار وإذاعتها. والمفهوم أن ضرب المثل وإن كان يفيد عدم قصر الحكم والمعنى المبدئى على حالة المثل المضروب، وأنه يجيز القياس عليه، فإن القياس هنا يكون قاصرا على ما هو من جنس المثل المضروب. وإن كل الأمثلة الواردة بالنصين، سواء عن حرية التفكير والدين أو حرية الرأى والاعتقاد، إنما تفيد الاعتناق والممارسة بالتلقى والإعراب، فهى تقف من دون ما يمس الآخرين، اعتداء على أى من حقوقهم، وانتهاكا لأى من الحرم والعصم التى تمس هذه الحقوق. ويؤكد هذا المعنى أيضا، أن «الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية» التى صدرت عن الأممالمتحدة فى 1976 أوردت عددا من الأحكام المُتعلقة بهذا الأمر، والمادة 17 منها تشير إلى حرمات الشخص وعصمه وحقه فى حماية القانون لها، فتنص فقرتها الأولى: «لا يجوز التدخل بشكل تعسفى أو غير قانونى بخصوصيات أحد أو بعائلته أو ببيته أو مراسلاته. كما لا يجوز التعرض بشكل غير قانونى لشرفه وسمعته»، وتنص فى فقرتها الثانية: «لكل شخص الحق فى حماية القانون ضد مثل هذا التدخل أو التعرض». والمادة 20 فى فقرتها الثانية تؤكد على حماية هذه الحرمات بشكل جماعى وتنص «تمنع بحكم القانون كل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية من شأنها أن تشكل تحريضا على التمييز أو المعاداة أو العنف».
حقوق الفرد وحقوق الجماعة ومن ناحية أخرى، فإن الحرية فى التعبير هى أمر مكفول للشخص أو للفرد، ونحن نلحظ أن هذين اللفظين هما ما استخدم كل من إعلان حقوق الإنسان والاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية، ومن الطبيعى أن الجماعات يتكون كل منها من أفراد، ومن ثم فإن الحقوق والحريات المكفولة للفرد تصدق أيضا على الجمع من الأفراد. هذا من نوافل الأقوال، إن ما أقصد الإشارة إليه أن حق الفرد إن تعارض مع حق الجماعة، وجب بذل الجهد للتوفيق بينهما، فإن لم يمكن التوفيق، أو فيما لم يمكن فيه التوفيق، وجب تقديم حق الجماعة، وكان حق الجماعة أولى بالمراعاة من حق الفرد. لأن ما يتعلق بالنفع العام للناس ويعود على مجموع الأفراد والجماعات إنما ينسب إلى الله تعالى، من قبيل التعظيم لهذا الحق (لأن الله سبحانه مستغن عن الناس وجماعاتهم) ومن قبيل ألا يختص بهذا الحق واحد من الطغاة والجبابرة، فيدعى لنفسه القوامة عليه بسبب شيوعه. كما أننا نعرف أن ما يهم الجماعة مما يعتبر فى مرتبة الحاجات إنما ينزل بوصفه الجماعى منزلة الضرورات.. وهكذا. ومن حيث الفكر الوضعى، فإنه يكفى فى هذا المجال ما أوردته الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق الدينية والسياسية، إذ قررت فى الفقرتين الأولى والثانية من المادة 18 حرية الفكر والضمير والديانة للفرد، وعدم جواز الإخضاع للإكراه فى هذا الشأن ثم نصت الفقرة 3 من المادة ذاتها «تخضع حرية الفرد فى التعبير عن ديانته أو معتقداته فقط للقيود المنصوص عليها فى القانون والتى تستوجبها السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة، أو الأخلاق أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية» فإن لفظ «العامة» أو «العام»، الموصوف به أى من النظام أو السلامة أو الصحة، صريح الدلالة فى تعلقه بالجماعة، وهو يفيد خضوع حرية الفرد فى أى من ذلك لما تستوجبه مصلحة الجماعة. وكذلك فإن المادة 19 من ذات الاتفاقية بعد أن أقرت حق الفرد فى اتخاذ الرأى وحريته فى التعبير، وما يشمله ذلك بالصيغة السابق إيرادها فى بيان حقوق الإنسان، بعد ذلك نصت الفقرة 3 على أن ممارسة هذه الحرية ترتبط «بواجبات ومسئوليات خاصة»، ومن ثم «فإنها قد تخضع لقيود معينة، ولكن فقط بالاستناد إلى نصوص القانون، والتى تكون ضرورية: أ من أجل احترام حقوق وسمعة الآخرين. ب من أجل حماية الأمن الوطنى أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق. وبذلك يظهر أن الحقوق والحريات المذكورة ترتبط بواجبات ومسئوليات، فهى من بدئها ليست حقوقا طليقة من كل قيد، وإنها تخضع للقيود الضرورية، وإن هذه الضرورات لا يكفى بشأنها عدم المساس بحقوق الغير وسمعتهم، إنما يتعين أن تكون من أجل «احترام» هؤلاء الغير واحترام سمعتهم، وإنها مُقيدة بحقوق الجماعة، أمنا ونظاما وصحة وأخلاقا. ومن هذا يبدو أن حق الفرد وحريته فى التعبير إنما يتغير ويخضع لحقوق الجماعة ولما لها من حرم وعصم.
ثوابت الدين لا تحتمل النقصان بقيت نقطة أخرى، فإن الحق فى التعبير أو الحرية المتعلقة به هى أمر بشرى، وأمور البشر نسبية، وهى دائما محدودة بقيود تتعلق بحقوق الغير وحرياتهم، والأمر البشرى يحتمل الزيادة والنقصان وترد عليه الضوابط والحدود. ونحن إذا راجعنا أى دستور من الدساتير، نلحظ أن الحقوق العامة والرخص يرد الإقرار الدستورى بها مضبوطة بضوابط التنظيم والتنسيق، من حيث الواجبات والأعباء، ومن حيث حقوق الآخرين ورخصهم، ومن حيث المصالح العامة للجماعة ونظامها، والصياغات فى ذلك تضيق وتتسع وتشتد وتخف، ولكنها دائما موجودة بحكم لزوم الضبط والتنظيم للأنشطة البشرية. أما عن الثوابت الدينية، فأولها بطبيعة الحال الإيمان بوجود الذات الإلهية، فضلا عن الرسالة النبوية، والله سبحانه مطلق الوجود مطلق القدرة مطلق التنزيه، والقرآن هو كلام الله أنزله الروح الأمين على محمد صلى الله عليه وسلم نزل إلينا من الغيب، وهذه هى الثوابت الأساسية فى دين الإسلام، وبالنسبة للمسيحية يرد هنا أيضا ما يتعلق بما يؤمن به المسيحيون مُتعلقا بالوجود الإلهى وبصفات السيد المسيح، فنحن فى هذا الصدد نكون إزاء حقائق وتصورات إيمانية مطلقة. والمطلق لا يحتمل النقص ولا الزيادة، ولا ترد عليه تجزئة ولا تبعيض، وهو إذا انجرح فلا يبقى منه شىء، لذلك نهينا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؛ لأن الكفر ببعضه ولو بكلمة منه أو حرف هو كفر به جميعه، ولا يوجد معيار يمكن به إسقاط حرف واحد من القرآن واستبقاء الباقى، ومن يقول إن لفظا فى القرآن ورد غير صحيح. أو أن حكما من أحكام القرآن ورد متعلقا بزمان النزول وحده: فلن تجد معيارا يمكن به قصر هذا القول على ما قيل فيه وعدم انسحابه إلى النص المنزل كله. لذلك نلحظ أن تعريف رجال أصول الفقه للقرآن، يذكر أنه كلام الله سبحانه الذى نزل به الروح الأمين على محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، والمنقول إلينا بالتواتر جيلا عن جيل، وفى التعريف ترد عبارة «والمدون بين دفتى المصحف بدء بأول سورة الفاتحة، وانتهاء بآخر سورة الناس»، وذلك حرصا على ربطه كله بها الوصف الملموس، ثم يزيد مصداق قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) فالحجة على ثبوته وكماله ترد من داخله لا من خارجه، أى ترد بنص فيه. ومن ذلك فإن حقوق البشر وحرياتهم وهى نسبية ينبغى أن تقف عن حدود ما هو مطلق من ثوابت الدين، ولا تداخل بين الأمرين، إنما هى هيمنة المطلق على النسبى، ولا يبقى مطلق إلا بهذا الضابط، والنسبى إذا نقص يستمر الباقى منه موجودا، أما المُطلق فلا يلحقه نقص، وإن نَقُصَ لا يبقى منه باق، ولا مناسبة بين الأمرين، ولا بد من مهيمن، إما أن يهيمن المطلق على النسبى، وهنا يبقى النسبى موجودا ومحدودا فى إطار حاكمية المطلق، أو العكس بأن يُهيمن النسبى على المُطلق فلا يبقى هناك ثوابت دينية. وخلاصة هذا الحديث ما يلى: ثمة ضوابط ملزمة، تتحدد بها العلاقة بين حق التعبير والحرية بشأنه وبين الثوابت الدينية، وهى: أولا: إن الحريات والرخص، تقف عند حدود الحقوق وحدود الحرم والعصم إن الحريات والرخص، تقف عند حدود الحقوق وحدود الحرم والعصم. ثانيا: إن حق الفرد يقف عند حدود حق الجماعة، وحق الجماعة المحدودة يقف عند حدود حق الجماعة الشاملة إن حق الفرد يقف عند حدود حق الجماعة، وحق الجماعة المحدودة يقف عند حدود حق الجماعة الشاملة. ثالثا: إن النسبى من الحقوق والحريات والرخص، مما هو من شئون البشر، يقف عند حدود المُطلق ممن ثوابت الدين إن النسبى من الحقوق والحريات والرُخص، مما هو من شئون البشر، يقف عند حدود المطلق ممن ثوابت الدين. وسنختلف كثيرا عند إعمال هذه الضوابط، عند تبين وجه الصواب عن كل حالة معينة تجد، وعند كل نازلة تنزل، ولكن التوافق على إعمال هذه الضوابط، من شأنه أن يحل كثيرا من الخلافات ومن شأنه أن يتحول به الخلاف إلى اختلاف، ومن شأنه أن يوجد مشتركا عامّا ترد الاختلافات فى إطاره اختلافات فروع غالبا... والحمد لله. ما «الحق فى التعبير»؟ وما «الثوابت الدينية»؟ وإن تبين طبيعة كل منهما هو أول خطوات البحث فى حدود العلاقة بينهما إن الحريات والرخص، تقف عند حدود الحقوق وحدود الحرم والعصم إن حق الفرد يقف عند حدود حق الجماعة، وحق الجماعة المحدودة يقف عند حدود حق الجماعة الشاملة إن النسبى من الحقوق والحريات والرخص، مما هو من شئون البشر، يقف عند حدود المطلق من ثوابت الدين