الاتجار في أدوية التأمين الصحي «جريمة»    ترامب يتعهد بمقاضاة "بي بي سي": سأطلب تعويضا بالمليارات    كوبري الباجور العلوي، أزمة مستمرة للعام الثاني بسبب أعمال الصيانة (صور)    نشرة أخبار طقس اليوم 15 نوفمبر| الأرصاد تكشف تفاصيل أجواء الساعات المقبلة    عمرو سعد يطمئن الجمهور بعد حادث شقيقه أحمد: "الحمد لله بخير"    إقامة المتاحف ووضع التماثيل فيها جائز شرعًا    حكم شراء سيارة بالتقسيط.. الإفتاء تُجيب    «رحيل المدفعجي».. وفاة محمد صبري لاعب الزمالك السابق تهز قلوب الجماهير    العنف المدرسى    أحمد سعد يتعرض لحادث سير ويخضع لفحوصات عاجلة بالمستشفى    فلسطين.. جيش الاحتلال يعتقل 3 فلسطينيين من مخيم عسكر القديم    ترامب: سنجري اختبارات على أسلحة نووية مثل دول أخرى    ترامب: أشعر بالحزن لرؤية ما حدث في أوروبا بسبب الهجرة    انفراد ل«آخرساعة» من قلب وادي السيليكون بأمريكا.. قناع ذكي يتحكم في أحلامك!    مناقشة رسالة دكتوراه بجامعة حلوان حول دور الرياضة في تعزيز الأمن القومي المصري    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    عضو جمهوري: الإغلاق الحكومي يُعد الأطول في تاريخ الولايات المتحدة    تفاصيل مشروعات السكنية والخدمية بحدائق أكتوبر    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    أموال المصريين غنيمة للعسكر .. غرق مطروح بالأمطار الموسمية يفضح إهدار 2.4 مليار جنيه في كورنيش 2 كم!    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    استقرار سعر الريال السعودي أمام الجنيه المصري خلال تعاملات السبت 15 نوفمبر 2025    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    عمرو عرفة يحتفل بزفاف ابنته بحضور ليلى علوي ومحمد ورامي إمام وحفيد الزعيم    "رقم واحد يا أنصاص" تضع محمد رمضان في ورطة.. تفاصيل    نانسي عجرم: شائعات الطلاق لا تتوقف منذ زواجي.. ولا أقبل أن أعيش غير سعيدة    هولندا تضع قدما في المونديال بالتعادل مع بولندا    مستشار الرئيس الفلسطيني: الطريق نحو السلام الحقيقي يمر عبر إقامة الدولة الفلسطينية    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    شتيجن يطرق باب الرحيل.. ضغوط ألمانية تدفع حارس برشلونة نحو الرحيل في يناير    صدمة في ريال مدريد.. فلورنتينو بيريز يتجه للتنحي    إلى موقعة الحسم.. ألمانيا تهزم لوكسمبورج قبل مواجهة سلوفاكيا على بطاقة التأهل    سيارة طائشة تدهس 3 طلاب أعلى طريق المقطم    عصام صفي الدين: السلوكيات السلبية بالمتاحف نتاج عقود من غياب التربية المتحفية    إبراهيم صلاح ل في الجول: أفضل اللعب أمام الأهلي عن الزمالك.. ونريد الوصول بعيدا في كأس مصر    فرنسا: 5 منصات تجارية تبيع منتجات غير مشروعة    سفير السودان بالاتحاد الأوروبي يشيد بالدور المصري ويشدد على وحدة السودان واستقراره    رئيس قناة السويس: تحسن ملحوظ في حركة الملاحة بالقناة    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    إخماد حريق في مخبز وسوبر ماركت بالسويس    اليوم.. أولى جلسات استئناف المتهمين في حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية    قائد الجيش الثالث: الدور التنموي يكمن في توفير البيئة الآمنة لتنفيذ المشروعات القومية    مصر تبيع أذون خزانة محلية ب99 مليار جنيه في عطاء الخميس.. أعلى من المستهدف بنحو 24%    اليوم.. انقطاع الكهرباء عن 31 قرية وتوابعها بكفر الشيخ لصيانة 19 مغذيا    بيان من مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للرد على مزاعم حالات الوفيات الجماعية    رئيس الطب الوقائى: نوفر جميع التطعيمات حتى للاجئين فى منافذ الدخول لمصر    آخر تطورات الحالة الصحية لطبيب قنا المصاب بطلق ناري طائش    الباز: العزوف تحت شعار "القايمة واحدة" عوار يتحمله الجميع    تربية عين شمس تحتفي بالطلاب الوافدين    «الصحة» تنظم جلسة حول تمكين الشباب في صحة المجتمع    انطلاق برنامج دولة التلاوة عبر الفضائيات بالتعاون بين الأوقاف والمتحدة في تمام التاسعة    تكافؤ الفرص بالشرقية تنفذ 9 ندوات توعوية لمناهضة العنف ضد المرأة    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: صعود المستقلين وتراجع المرأة في المرحلة الأولى لانتخابات النواب    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تناقش النظام الغذائي ونمط الحياة الصحي    صندوق "قادرون باختلاف" يشارك في مؤتمر السياحة الميسرة للأشخاص ذوي الإعاقة    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إلى أين تحملنا ميلشيات الفكر؟
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 06 - 2010

أزعجني كثيرا ما وصلت إليه لغة الصراع ولا أقول لغة الحوار بين أهل الثقافة في مصر الآن.. تحولت مواكب الفكر والعقل والإبداع إلى ميلشيات تستخدم كل ما لديها من إمكانيات الردع والتصفيات رغم أن أعظم ما في الفكر سماحته، وأجمل ما في الحوار لغته رقيا وترفعا.. وكان أعظم ما في مصر هذه النخبة التي شيدت هذا الدور الثقافي والحضاري لرائدة الثقافة العربية.
من يتابع الآن المعارك التي تدور بين من يسمون أنفسهم دعاة الفكر يجدها تعكس خللا في الرؤى.. وسقوطا في لغة الحوار واعتداء صارخا على كل قيم الفكر والثقافة.. لا ينبغي أن نختصر واقعنا الثقافي بكل تراثه التاريخي في تيارين لا ثالث بينهما وبعد ذلك نتصور أن ذلك يخلق مناخا صحيا في الفكر والإبداع.. حين نجد أنفسنا أمام خيارين كلاهما مر تتحول الأقلام إلى سهام.. ويصبح الصراع بديلا عن خلاف الرأي وهنا تفقد النخبة أهم مقومات وجودها في الوعي والفهم والرسالة.
صراع الدين والعلمانية
كان من الظلم للثقافة المصرية العريقة أن تختصر نفسها فى تيارين لا ثالث بينهما.. نحن أمام تيار يرتدى عباءة المعاصرة والحداثة والتنوير ويرفض كل الثوابت ويرى أن الهجوم على الأديان هو طريقة لفرض سيطرته الفكرية، بل والسياسية على واقعنا الثقافى.. وهذا التيار تسانده بقوة مؤسسات الدولة الثقافية فى السنوات الأخيرة..
أما التيار الثانى فهو يرتدى عباءة الدفاع عن الثوابت الدينية والأخلاقية ويقف وراء هذا التيار معظم المؤسسات الدينية والتربوية، بل والتعليمية فى أحيان كثيرة..
إن دعاة التنوير والحداثة يعتقدون أن التخلص من الثوابت هو أول خطوة نحو دولة عصرية قادرة على مواجهة أعباء المستقبل بينما يرى المدافعون عن الثوابت أن دعوات التنوير والحداثة لها أهداف سياسية واضحة وهى تمثل أصواتا لقوى أجنبية تسعى إلى تخريب هذه الأمة وتشويه جذورها الحضارية والثقافية.. بمعنى آخر، هناك تيار يدعو لدولة تحكمها الثوابت الدينية والأخلاقية التى لا غنى عنها فى أى مجتمع من المجتمعات وهذا يعنى باختصار شديد أننا أمام دعاة العلمانية وفصل الدين عن الدولة ودعاة الفكر الدينى بكل تراثه التاريخى والفكرى.
يظهر هذا التناقض الشديد بين تيارين فى المدرسة، حيث يتحدث المدرس عن الآخرة وعذاب القبر بينما يتحدث دعاة المعاصرة عن الشذوذ والحريات وحقوق الإنسان وعبدة الشيطان ولغة الجسد فى الإبداع.
كانت المعارك بين التيارين حتى وقت قريب تتسم بالسخونة الشديدة ولكنها كانت تحتكم أحيانا للعقل ولغة الحوار وآداب الحديث.. ومنذ سنوات بدأت رحلة التجاوزات التى سرعان ما تحولت إلى اتهامات ووجدنا أنفسنا أمام صراع حقيقى لا يستخدم أدوات الفكر وأساليبه ولكنه يلجأ إلى كل ما هو مشروع أو غير مشروع لهزيمة التيار الآخر..
لقد وصل الصراع بين دعاة العلمانية ودعاة الدولة الدينية إلى ساحات القضاء ولم يعد غريبا أن يصدر حكم قضائى يدين قصيدة شعرية أو يتهم كاتبا بالتهجم على الدين.. وأصبحت ساحات القضاء مجالا واسعا للخصومات الفكرية والدينية تصدر فيها الأحكام وتفرض فيها الغرامات..
وقد شجع على هذا المناخ المغالاة فى الهجوم على الدين أو الدفاع الشديد عن المفاهيم العلمانية.. وإذا كانت المجتمعات الأخرى قد شهدت هذه الصراعات بقوة فى أزمنة مضت إلا أن المجتمع المصرى كان يتسم دائما بأن هناك مناطق فكرية تستطيع أن تجذب الغالبية من أصحاب الفكر وهى الوسطية التى تميز بها الفكر المصرى عبر العصور.. كانت هناك كتائب دينية وأخرى علمانية وبينهما مساحة عريضة تقدر ثوابت الدين بكل تأثيرها ولا ترفض الفكر المعاصر بما فيه من منظومة الحداثة.. كانت الشخصية المصرية تميل كثيرا إلى تلك المنظومة الوسطية التى لا تتعارض إطلاقا مع أصول العقائد الدينية والبحث عن مفاهيم معاصرة فى الحريات والدولة المدنية وفتح الآفاق لعقل الإنسان وفكره بما فى ذلك حق الاختلاف والحوار والاعتراف بالآخر.
تيار التنوير يستقوي بالسلطة والعلاقة بالخارج
كانت أمام التيار التنويرى فرص واسعة فى علاقته بالسلطة وقد استخدم أدواتها الثقافية ومسئوليها لتحقيق أهدافه وكان فى مقدمتها تهميش كل ألوان الفكر الأخرى.. ودخل هذا التيار حظيرة الدولة وجنى الكثير من مكاسبها وتحول فى أحيان كثيرة إلى مجموعة من الأبواق التى تدافع بالحق والباطل عن بعض المفاهيم وبعض القرارات والكثير من الأخطاء وهنا اختلطت المصالح بالفكر وفقد هذا التيار الكثير من مكاسبه أمام حسابات خاصة ومكاسب سريعة.
لم يكتف هذا التيار بالسلطة وحدها وما تقدمه من أموال وجوائز وسفريات ومؤتمرات.. بل إنه حاول الاستعانة بقوى خارجية تحت ستار الحوار مع الآخر أو توحيد جبهات المواجهة ضد الإرهاب الفكرى ممثلا فى الدين..
واستطاع هذا التيار أن يكتسب دعما خارجيا غير مسبوق تجسد فى معونات كثيرة تقدمها الدول الغربية للأنشطة الأهلية وجمعيات حقوق الإنسان.. وحاول هذا التيار الاستقواء بهذا الدعم المعنوى والمادى خاصة مع موجات الترحيب المتلاحقة بفرسان هذا التيار على كل المستويات السياسية والفكرية.
ولا شك أن هذا التيار نجح فى إنشاء تشكيلات إعلامية وفكرية وثقافية جمعت بينها لغة المصالح أكثر مما جمعتها لغة الفكر والمبدأ.. بل إن هذا التيار وجد دعما كبيرا من السلطات الأمنية التى رأت أن من واجبها ومسئولياتها أن تكون شريكا فى هذه المواجهة الفكرية وليس الأمنية فقط وقد نجحت أجهزة الأمن فى استقطاب أسماء كثيرة فى الصحافة والإعلام ومؤسسات الفكر للقيام بهذا الدور الغريب..
وربما كان أخطر ما أسفرت عنه هذه العلاقة بين أهل الفكر وسلطات الأمن أن الأدوار كبرت وتجاوزت فى أحيان كثيرة منظومة الأمن الداخلية لتبحث عن سلطات أكبر وأوسع وأشمل وقد نكتشف فى يوم من الأيام أبعاد هذه العلاقة، خاصة فى مجالات الإعلام والفضائيات والنشر والصحافة، لقد تمددت هذه المصالح ووصلت إلى آفاق عالمية من خلال مؤسسات أمنية تسعى لتهجين الفكر واستخدامه فى معارك الأمن والاستقطاب والسياسة.
بالونات فكرية مثيرة للجدل
ولعل ذلك كله يفسر لنا هذه الأضواء السريعة والساطعة التى أحاطت بأسماء كثيرة ورأينا بالونات فكرية تثير الجدل وتحصل على الدعم وتتلقى الجوائز وتترجم أعمالها إلى كل اللغات.
إن صناعة هذه البالونات تدخل فى إطار منظومة أكبر على المستوى السياسى والفكرى والعقائدى.. كان من السهل أن تبدو فى الأفق أضواء فسفورية فى صفحات من الفكر المنحرف أو هدم المقدسات أو تجارة العرى والجنس، وكان من السهل رصد هذه الظواهر التى لم تخجل من الكشف عن نواياها وأهدافها..
وفى هذا السياق وجدنا الهجوم الضارى على الأديان كل الأديان.. ومحاولة تشويه كل الرموز الدينية والسياسية والفكرية.. ومناصرة تيار على آخر وتكوين تربيطات إنسانية بين أصحاب هذا الاتجاه ومحاولة الطعن فى مصداقية كل شىء ابتداء بالشواهد الدينية وانتهاء بالنصوص المقدسة، ورغم كل الإنجازات والمكاسب التى حققها هذا التيار على المستوى الرسمى المحلى بل والعالمى فإنه لم يستطع أن يحقق نفس الدرجة من الإنجاز على المستوى الجماهيرى بين المواطنين وبقى محدود التأثير فى قطاعات كبيرة من البشر.
الأصوليون يستندون للشارع
فى الجانب الآخر من المعركة يقف تيار آخر لا ندرى بماذا نسميه هل هو اتجاه دينى أو تراثى أو أصولى، والغريب أنه لا يدافع عن الإسلام وحده ولكنه يتصدى لكل من يحارب فكرة الأديان تحت دعوى ضرورة الفصل بين الدين والسياسة.. فى هذا التيار تجمعت أسماء كثيرة إسلامية وقبطية من الوسطيين والمتشددين.. كان هذا التيار يرى أن أخطر ما فى هذه المواجهة هو تشويه صورة الأديان نصا وفكرا وعقيدة، والتشكيك فى كل رموزها..
وقد استخدم هذا التيار وسائل عديدة فى هذه المواجهة.. أول هذه الوسائل تلك العلاقة الحميمة بين الشارع المصرى والأديان السماوية.. إن المصريين مؤمنون بالفطرة.. ويمكن أن تلقى التراب على أى شىء فى مصر إلا أن تهدر قدسية عقيدة أو مكان أو رمز من الرموز.. ولم ينجح تيار التنوير فى استقطاب الشارع المصرى بكل طبقاته، خاصة أن الطبقة الوسطى الذى كان من الممكن أن تكون أرضا خصبة لهذا التيار قد تراجع دورها وفقدت الكثير من رصيدها وتأثيرها ووجودها أمام فساد منظومة التعليم وتراجع قيمة الثقافة.
يمكن أن يقال إن المعركة بين التيارين لم تكن متوازنة لأن الشارع بطبيعة تكوينه يميل أكثر إلى الفكر التقليدى، وفى مقدمة ذلك موقفه من الأديان.
من أخطر المجالات التى نجح فيها هذا التيار المحافظ المدارس والجامعات.. لقد تخرجت أجيال كاملة فى كليات التربية التى عملت بالتدريس وكانت صاحبة الدور الأكبر فى نشر هذا التيار الدينى المحافظ فى فكر الأجيال الجديدة، وانتقل ذلك بالضرورة إلى الجامعات، وكانت هى الأرض الخصبة التى انتشر فيها فكر المحافظين.
الدولة تخلط بين عداء الإخوان والموقف من الدين
وبجانب هذا النجاح كان انتشار الفضائيات الدينية أخطر إنجازات هذا الفكر، خاصة أمام انتشار الأمية وحالة التردى التى أصابت واقع مصر الثقافى، والغريب فى الأمر أن هذا الصراع الدامى بين دعاة التنوير والمحافظين استخدم كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة فى هذه المعركة بل إن الدولة وهى تخوض حربها ضد جماعة الإخوان المسلمين قد خلطت الأوراق ولم تفرق بين عدائها للإخوان وموقفها من الأديان.. سقطت المؤسسات الثقافية فى هذا الخطأ التاريخى حين وضعت نفسها طرفا فى لعبة تقودها أطراف خارجية لتشويه الثقافة العربية تاريخا وحاضرا ومستقبلا.
كان من الخطأ الشديد أن يصبح كل من له علاقة بالدين إرهابيا وأن تتحول الطقوس الدينية إلى اتهامات وإدانات وأن تتغير أحداث التاريخ فى المناهج الدراسية وأن يطالب البعض بحذف بعض الآيات القرآنية التى تتحدث عن عقائد أخرى، خاصة ما يتعلق ببنى إسرائيل من أجل اتفاقية السلام..
كان من الممكن أن نسعى إلى ترشيد الفكر الدينى المتطرف دون أن نهاجم ثوابت العقيدة، وكان من الممكن أن نسعى إلى استخدام العقل والدعوة لذلك بصورة أفضل ولكن البعض تصور أن الهجوم على الدين يعنى المعاصرة وأن تشويه صورة العقائد هو الحداثة، وظهرت بعض النفوس المريضة وكأن بينها وبين الأديان ثأرا قديما فاستخدمت كل أساليب الهدم والتدمير ضد الثوابت الدينية..
ومع ارتفاع نسبة الأمية ومع اتساع مساحات الخلل الفكرية والانحطاط الثقافى، كان الهجوم على الدين سلوكا وحشيا افتقد الأمانة والمصداقية والنوايا الحسنة، وقبل هذا افتقد الطرفان لغة الحوار التى ينبغى أن تكون هى المعيار السليم بين رأى وآخر وتدفقت أموال نفطية كثيرة على الفضائيات الدينية، وعلى الجانب الآخر تدفقت أموال غريبة كثيرة على دعاة التنوير والحداثة.. وكانت الثقافة المصرية هى الضحية.. وكان العقل المصرى أكبر الخاسرين..
الحوار والوسطية ضحية معارك الدين والتنوير
وأمام دعاة التنوير والحداثة والمدافعين عن التراث والثوابت دارت معارك طاحنة كان الضحية فيها اتجاه وسطى يؤمن بالحوار ولا يفتقد الثوابت ولا يتعارض مع الحداثة.. ولكن هذا الاتجاه تراجع مع الضغوط التى حاصرته من هنا وهناك.. وللأسف الشديد فإن المؤسسات الثقافية لعبت دورا غاية فى السوء فى إشعال هذه المعارك دفاعا وهجوما ودعما، وكانت الضحية فى كل الأحوال هى واقع ثقافى تشرذم وترهل وفقد أهم مقوماته وهى التنوع والحوار..
وأمام غياب النشاط السياسى وتراجع دور الأحزاب السياسية وأمام تحريم النشاط السياسى فى الجامعات المصرية.. وأمام الفراغ الدينى والفكرى بين الأجيال الجديدة استخدم كل فريق أدواته الإعلامية فى هذا الصراع ما بين الإعلام التقليدى من الصحافة والفضائيات والإعلام الحديث ممثلا فى الإنترنت وما بعده، وهنا اتسعت المواجهة ووصت إلى مناطق أبعد ما تكون عن الرأى والفكر والحوار..
أمام هذه الانقسامات والمعارك والتحديات والهجوم المتبادل غابت لغة الحوار واختفت تلك الأصوات العاقلة التى تملك القدرة على إعادة التوازن للمناخ الثقافى المتأزم، وللأسف الشديد فإن الأجهزة الثقافية المسئولة شجعت هذا التوجه حين أبعدت بعض التوجهات واستقطبت توجهات أخرى، وأصبح هناك ما يشبه القطيعة بين مثقفى الوطن الواحد..
أسلحة غير مشروعة في معارك فكرية
تحولت الثقافة المصرية إلى جزر أطلق عليها البعض الاتجاهات السلفية التى تقف وراء ثوابت الدين بينما انطلق اتجاه آخر، يتصور أن الدين هو الخطر الحقيقى على تقدم المجتمع.. ومع قضايا الإرهاب كان من السهل جدا أن تتحول المواجهة إلى حرب فكرية بين ميلشيات تتصور أن بقاء الآخر هو أكبر تهديد لها.
وحين غابت لغة الحوار المترفع القائم على العقل والمنطق زاد حجم المهاترات واتسعت درجة الاتهامات وتحولت الحياة الثقافية إلى خنادق فكرية وكل قطيع يسعى لتصفية الآخر وليس الحوار مع هذا الآخر.
وجدنا دعوات صريحة بتصفية كل تيارات فكرية تعادى جبهة التنوير..
ودعوات أكثر صراحة بتكفير الكثير من رموز هذا التيار والتشكيك فى ولائهم على المستوى الدينى والوطنى، بل وصل الأمر إلى إصدار الفتاوى وإسقاط الجنسيات والاستعانة بمؤسسات حقوق الإنسان العالمية.. لقد تحول هذا الصراع الدامى بين أصحاب الفكر من السلفين والتنويرين إلى ميلشيات حملت السلاح ضد بعضها، فهذا يطالب بتكفير ذاك وهذا يطالب السلطة بأن تكون أكثر حسما فى مواجهة دعاة الرأى من الإرهابيين..
وما بين الإرهاب والتكفير سقطت وسطية الفكر المصري التي قام عليها دور مصر الثقافي قرنا كاملا من الزمان، ومع سقوط هذه الوسطية سقطت النخبة المصرية في هذا الصراع الذي تدخلت فيه عناصر كثيرة، ابتداء بأجهزة الأمن والثقافة وانتهاء بالاستقواء بمؤسسات وأموال ومعونات خارجية. ولا شك أن هذا الصراع دخل بنا إلى مناطق غير آمنة على كل مستويات الفكر والأمن.
كان من أخطر نتائج هذا الصراع الدامي أن لغة المصالح تجاوزت كثيرا لغة الفكر، خاصة أن أموالا كثيرة تدفقت بين أنصار كل تيار. أموال الحكومات والمؤسسات والجوائز والأسفار والمنح والفضائيات والهبات القادمة من كل جانب.
تدفقت أموال من مؤسسات غربية كثيرة لدعم أنصار الحداثة.. وتدفقت أموال أخرى من مؤسسات عربية خاصة وحكومية ووصلت الأرقام والحسابات إلى مستويات خيالية، وهنا سقطت قدسية الفكر وسماحة الرأى ووجدنا عمليات تجنيد واستقطاب وشراء شملت أسماء كثيرة من أصحاب الفكر وأساتذة الجامعات..
تضاؤل فكري أضاع فرص الحوار
هنا أيضا تدخلت السلطة الثقافية تحت دعوى الدفاع عن الفكر وثقافة الوطن ودعاة التقدم ولكنها فى الحقيقة كانت تدافع من خلالهم عن سياسات خاطئة وأهداف مشبوهة وعمليات نهب للمال العام تسترت فى معارك الفكر والثقافة، وللأسف الشديد فقد سقطت فى مستنقع الدفاع عن هذه المواكب الفاسدة أقلام كثيرة كانت يوما محل تقدير واحترام ونزاهة، ولكن يبدو أن طوفان الفساد كان هو الأقوى.
إن صورة المثقفين المصريين سواء من وقفوا فى حظيرة الدولة من دعاة التنوير أو من استعانوا بسلطة الأديان تعكس حالة من حالات التراجع فى الفكر والحوار.. ولعل أخطر ما فى هذه المواجهة أن كل فريق من الفريقين المتصارعين لا يرى حقا للآخر فى البقاء.
إن كل فريق يسعى لتدمير الآخر تماما وليس الحوار معه وحين يسود منطق التصفيات بين أهل الفكر يختفى الحوار وتفسد النخبة.. وتسود الغوغائية ولا يسمع أحد صوت الآخر..
من ينقذ النخبة المصرية العريقة من ميلشيات المثقفين وحروبهم الوهمية ولغة المصالح التى أفسدت كل شىء؟!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.