هل الصدامات الأخيرة التي تشهدها مصر صحية؟ الإجابة قطعًا لا. وبداية، لابد من الإقرار بأن من حق كل مصري أن يختلف مع الإجراءات التكتيكية التي تدير بها السلطة رؤيتها لإدارة الوضع الراهن في مصر، بل وأن يتظاهر ضد هذه الإجراءات، مع التسليم بأن الرؤية الكلية للمعالجة لا يمكن مراجعتها الآن؛ لأن موعد مراجعتها محدد بموعد الانتخابات الرئاسية القادمة، وأيضًا لأن الأرض المحروقة التي ورثها النظام الراهن بحاجة لكثير من الإعداد والحرث لا يمكن مراجعته خلال عام أو عامين. لكن لماذا قلنا إن الصدامات الحادثة غير صحية؟ تحليل حالة نماذجية ليست حال "الأرض المحروقة" ما نريد التوقف عنده، بل يمكن اقتباس أي قضية حازت اهتمام الرأي العام مؤخرًا وتحليلها للتوقف عند سبب رفض هذه المصادمات. ولتكن قضيتنا محل الاختبار والفحص هي قضية المفاوضات التي وقعت مع النائب العام للابتعاد عن منصبه، وهو المطلب الذي حملته الثورة منذ ما قبل خلع الرئيس السابق. ونتيجة لغياب الأولويات لدى القوى الوطنية؛ إذ بنا نجد أن النائب العام نجح في أن يتحول إلى شهيد الديمقراطية، وبعد أن كان المصدر الرئيسي لانهيار حقوق الثورة والثوار؛ إذا به يتحول إلى رمز لاستقلال السلطة القضائية؛ ليس ذلك وحسب؛ بل يتحول أبرز من كرسوا حياتهم للدفاع عن استقلال القضاء إلى متهمين بالعدوان على السلطة القضائية. تلك هي حقيقة المشهد لمن يراه من بعيد. ما أريد التوقف عنده هو أن المسؤولية عن هذا المشهد العام لا تقع على عاتق ذلك الفريق الراقي الذي تصور أن الحوار السياسي البعيد عن العامة هو الأنسب لمواجهة القضية، ذلك الفريق الذي لم يظن أن رجلاً بمكانة المستشار عبد المجيد محمود يمكنه أن يتفق شفاهيًا على شيء ثم يتراجع عنه سعيًا وراء البقاء في منصب لا يريده أهل بلده فيه مهما كان الدعم الذي لقيه. وأفاجئك أخي القارئ أن المسؤولية لا تقع على المستشار عبد المجيد محمود أيضًا، بل تقع على أولئك الذين لم يكن لديهم القدرة على تحديد الأولويات في هذه اللحظة الزمنية، وبدلاً من أن يجددوا رباطهم الوثيق مع الثورة ومطالبها؛ إذا بهم يتسمرون عند مطلب تم تحديده قبلها بشهرين أو يزيد، ضاربين عرض الحائط بمطالب وطن ومشاعر شعب وحال أهالي شهداء قدموا أثمن ما يملكون في سبيل نجاح هذه الثورة. تلك المطالب والمشاعر والأحوال التي قادت إلى ذلك الصدام الذي شهدته جمعة "كشف الحساب". محاولة لتفسير شكل الصدام لا أريد أن أقسو على فصيل من فصائل الوطن؛ حيث مازلت أرى أن ضغوط الفصائل السياسية على الإسلاميين في السلطة ستدفعهم لإخراج أفضل ما لديهم، وهي سنة الله: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض" (البقرة: 251). لكني أعود لأؤكد أن التصور الأفضل للتدافع في هذا الظرف التاريخي لابد وأن ينبني على أرضية الوطن لا أرضية الصراع الفصائلي الذي يكون ضحيته الأولى الوطن والمصريين. قلت إني لا أبغي القسوة في حديثي؛ لكن ما أدلي به هو من باب المكاشفة التي تذكِّر، وقد أمرنا الله أن نذكِّر "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر" (الغاشية: 21-22)، لعل في هذه التذكرة ما يقود إلى حالة من حالات المراجعة التي تقود لحال وطنية أفضل وأرقى تعود بالنموذج الثوري المصري لحال الإضاءة التي وسمتها طيلة الثمانية عشر يومًا الأولى من عمر هذه الثورة المباركة. ووجهة نظري أن ما يحدث اليوم هو نتاج فترة الاستبداد الذي خاضته مصر طيلة فترة ما بعد 1952، حيث ظلت السلطة تقوم بالإقصاء وتدير الأمر بصورة شمولية، ومع تطور الاستجابة الشعبية؛ بدءًا بانتفاضة البسطاء في 1977، ثم اغتيال الرئيس السادات؛ والتي وجهت تحذيرًا قويًا من حيوية الشارع، حيث اتجه النظام المصري في أعقابهما لإتاحة هامش بالغ الضآلة من حرية الحركة، استفاد منه المجتمع السياسي المصري في اتجاهات ثلاثة: الاتجاه الأول: كان اتجاه "الإخوان المسلمين" الذين توجهوا بوجهة النفع وتوجهوا للسياسة بوجهة المعذرة، ودفعوا تكلفة اجتماعية باهظة في سبيل هذين التوجهين. والاتجاه الثاني: كان اتجاه التيار الرئيسي في الحالة السلفية الذي توجه للناس بالعلم وحافظ على جذوة التربية والدعوة واعتزل السياسة إلى حين، وهو أيضًا فصيل دفع تكلفة اجتماعية عالية كان آخرها مقتل السيد بلال (متهمًا زورًا في حادث تفجير كنيسة القديسين) الذي كان، مما دفع السلفيين للمشاركة في الثورة والعمل على إنجاحها. والاتجاه الثالث: كان اتجاه الفصائل اليسارية والليبرالية التي لم تتوجه للشارع بالقدر الكافي لتتحول إلى قوة اجتماعية، لكنها بذلت جهدها الأكبر في المجال السياسي وأدمنت الصراخ في وجه الحاكم، وتركت قواعدها الأساسية تتفلت منها باتجاه فاعليات "الدولة العميقة" (سواء في ذلك الليبراليون أو اليساريون). ولم يخل الأمر من اتجاه بعضها لربط وجودها في المجال السياسي بتدفقات تمويلية غربية حقوقية، وهو ما لا نعيب معظمه، لكننا نلفت إلى نمط من أنماط الاستجابة السياسية التي حدثت خلال الثلاثين عامًا الأخيرة. الحصاد ماذا كان حصاد هذه الأنماط الثلاثة: أ – أما النمط الأول، فتطور ليصل بجماعة الإخوان المسلمين لتتولى سدة الرئاسة وتصبح الحزب الأساسي في مصر. ب – والنمط الثاني اجتهد بعد أن أعادته الثورة للحضن السياسي للوطن، واكتشفنا أن قاعدته الشعبية، وإدراكه لضرورة البناء والتعايش دفعته لتطوير خطابه السياسي بمتوالية أذهلت حتى الإخوان أنفسهم. وقد صار هذ التيار السلفي التيار الثاني على الصعيد السياسي، تجمعه حينا علاقة تحالف مع الفصيل الأبرز، وتباعد بينهما نسبيًا بعض المواقف المبدئية أو التكتيكية. ج – أما الفصائل التي تمثل النمط الثالث فما زالت على حالها، تصرخ في وجه السلطة السياسية، ولا تتوجه للشارع المصري إلا للحصول على المساندة. والحقيقة أني لا أرى أن حصول السيد حمدين صباحي على المركز الثالث في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة نتيجة قوة هذا التيار، بل أراه نتيجة عداء الآلة الإعلامية المصرية الهائلة للإسلاميين، واستمرار منطق الفزاعة الإسلامية. مركزية الوطن هي السبيل من فضل الله علينا أننا عوفينا من مصير روسيا عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث تمكن رموز المرحلة الشيوعية من إعاداة إنتاج وجودهم السياسي، وعادوا إلى الدائرة المركزية للسلطة، لكن ما نترقبه مقارنة بالحالة الروسية أمر بالغ الخطورة. فقد أثبتت دراسات الرأي العام الروسي أن تعريف المواطن الروسي للديمقراطية تطور عما كان عليه قبل 4 سنوات، وبعد أن كان يتحدث عن الحرية ونزاهة الانتخابات وابتعاد أجهزة الأمن عن السياسية أصبح اليوم وفق آخر استطلاعات الرأي التي أجراها أحد المراكز البحثية حيث صار المواطن يعرف الديمقراطية بأنها المساواة في الوقوف أمام القضاء والمساواة في الحصول على فرص عمل والعدالة الاجتماعية.. إلخ. إن الروس اليوم يتوجهون بأنفسهم وجهة شمولية مجددًا. فهل يرغب علمانيو مصر في أن تتجه مصر بنا هذه الوجهة مجددًا. هي دعوة للمراجعة. وهي ليست جديدة على الحالة المصرية. ففصائل إسلامية عدة راجعت نفسها. ورموز يسارية وليبرالية عدة راجعت نفسها. أملي أن يراجع الجميع رؤاهم على أرضية يكون الوطن فيها هو المركز.