يتصور كثيرون أن النظريات العلمية Scientific theories بشكل عام تحظى باتفاق وإجماع المجتمع العلمي و الأكاديمي ، وأنها تنتمي إلى الحقول المعرفية الموضوعية Objective و المحايدة Neutral ، ولا تحوي أي قدر من الذاتية Subjectivity أو الأيدلوجيا Ideology ، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة .. فهناك الكثير من النظريات العلمية التي لم تستقر بعد ، كما أنها تتطور وتتغير باستمرار من أجل الوصول إلى (التفسير) الأكثر صمودا أمام الاختبار العلمي ، كما أن الخلاف (العلمي) بين علماء (العلوم الطبيعية) natural science لا يقل في كثير من الأحيان عن الخلاف (الفقهي) بين علماء الشريعة حتى بلغت المعارك العلمية والفلسفية ذروتها حول نظرية المعرفة Epistemology theory وحول ما هو (علمي) و(غير علمي) ، وبخاصة مع تنامي سيطرة الفلسفة الوضعية المنطقية Logical Positivism على المشهد العلمي في القرن العشرين ، ومحاولة إقصائها لكل ما لا يخضع للملاحظة Observation و التجربة Experiment ، و هو ما يسمى بالعلم التجريبي Empirical Science ، ولذلك وجه أتباع هذه الفلسفة هجوما لاذعا )للمثالية الألمانية( و بخاصة مثالية هيجل (1770-1831)، ولكل الفلسفات و الأفكار التي لا تخضع للتجربة والاختبار ، ومنها (فكرة و جود خالق للكون ). ومن هنا يمكن أن نشير إلى أحد أوجه قصور (المناهج التعليمية) في بلادنا أنها تدرس(النظرية العلمية) باعتبارها منتجا نهائيا مستقرا دون أن تلتفت إلى (تاريخ تطور تلك النظرية) ، وأنها مازالت في طور البحث وفي مرحلة الاختبار ، و دون أن تشرح كيف تولدت الفكرة أو الفرضية ؟، وهل هي جزء من السياق الثقافي و المعرفي ؟ وما الاعتراضات التي وجهت إليها ؟. إن تدريس (تاريخ العلم) History of Science لا يقل أهمية عن تدريس (العلم) ذاته إن لم يكن أكثر أهمية. فإذا كانت نسبية أينشتاين بهذه (القداسة) ، فإن هناك من مشاهير العلماء من كان له موقف سلبي منها مثل العالم الشهير ( تسلا) الذي شبهها ( بمتسول أنيق) ، كما أبدى (كارل بوبر) الكثير من التحفظات عليها . فهناك فرق كبير بين )الملاحظة( observation وهي أمر (مشترك) بين البشر ، وبين( تفسير) تلك الملاحظة Interpretation ، و هو أمر يختلف باختلاف الأفراد و الثقافات و القدرة على وضع التصور المناسب . فالجاذبية Gravity مثلا وهي من أشهر الظواهر الكونية وهي أمر مشاهد بالحس ، لكن (ماهية) الجاذبية ، و(تفسير) الجاذبية عند نيوتن ليس هو التفسير نفسه عند أينشتاين .. و كلاهما يختلف عن تفسير بور .. و أنصار نظرية (ميكانيكا الكم ) Quantum Mechanics التي كان أينشتاين يعترض عليها بشدة ! و كذلك الحال بالنسبة لنظرية الانفجار العظيم Big Bang التي يروج لها الإعلام الغربي بشكل مثير رغم اعتراض عالم كبير مثل هالتون آرب Arp Halton وعدد غير قليل من العلماء ..حتى ألف أحد تلاميذ آرب وهو إيريك لنر Eric Lerner كتابا بعنوان : الانفجار العظيم لم يحدث أبدا The Big Bang never happened ..وقد بلغ الأمر لدرجة أن تهدد بعض المؤسسات العلمية هالتون آرب بطرده من عمله الوظيفي إن لم يكف عن نقد نظرية الانفجار العظيم . فما الذي يحدث إذن في المجتمع العلمي ؟ وكيف تطورت الفلسفة الغربية و الفكر الغربي بهذه الطريقة الدراماتيكية خلال القرون الثلاثة الأخيرة ؟ ربما كان مناسبا و نحن نتأمل تلك الموجة الإلحادية العنيفة أن نبدأ من كتابات الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت Auguste Comte – (1798-1857) و الذي كان له دور كبير في وضع أسس الوضعية Objectivism التي لا تعترف بعلوم (اللاهوت Theology ) ولا (الغيبيات Metaphysics (، لأنها لا تخضع للتجربة و لا لمبدأ التحقق Verification Principal . و من خلال كتب كونت و مقالاته إضافة إلى غيره من العلماء ، تأثر عدد كبير من المفكرين و الفلاسفة بتلك الرؤية و الفلسفة الجديدة التي كان من أهدافها إزاحة (الفكرة الدينية) عن المشهد الاجتماعي و الثقافي والعلمي ، ومن نتائجها إنكار(فرضية) وجود الخالق ، لأنه وفقا لفلسفتهم التجريبية لا يمكن وضع تلك الفرضية تحت الاختبار . ومن الشخصيات البارزة التي ساهمت في التأسيس للوضعية المنطقية وللإلحاد الجديد ، لودفيج فيتجنشتاين Ludwig Wittgenstein(1889-1951) والفيزيائي الشهير إرنست ماخ Ernst Mach (1839-1916) . و كان لكتابات برتراند راسل أثر واضح في التمهيد لإنكار الخالق بوضوح و دون مراوغة .كما تكونت جماعة علمية عرفت باسم حلقة فيينا Vienna Circle (1924-1936) ، وكانت تضم مجموعة من الباحثين في تخصصات مختلفة في الفيزياء و الكيمياء و الرياضيات والاقتصاد.. ومنهم موريتس شليك Moritz Schlick ، هانز هان Hans Hahn ، أوتو نيوراث Otto Neurath ، كورت جودل Kurt Gödel وغيرهم .و لكن مرتكزات تلك الفلسفة القائمة على (الحواس) و(التجربة) أثارت ضدها العديد من الخصوم .. ومنهم الفيلسوف الألماني (الميتافيزيقي) مارتن هايدجر، وقد جرت بعض المناظرات بينه وبين مؤيدي تلك الفلسفة . كما تلقت تلك المدرسة العديد من الضربات العلمية على يد توماس كون وكارل بوبر و غيرهما من العلماء ، حتى تراجع عنها بعض منظريها و المدافعين عنها مثل كارل همبل Karl Hempel ..ف(المشاهدة) وحدها لا تكفي .. ولكن لابد من وجود طرق علمية أخرى ك(الاستنتاج) inference و الحدس intuition وهو الأمر الذي دفع العالم الاسترالي جون باسمور John Passmore عام 1967 إلى إعلان موت الفلسفة الإلحادية ( الوضعية المنطقية ) ، وأنها مجرد حركة فلسفية شأنها شأن بقية الحركات الفلسفية التي ظهرت و تلاشت . وبدأت المصالحة بين الدين و العلم تعود إلى وضعها القديم على يد مجموعة من العلماء المؤمنين ومنهم هيلاري بوتنام Hilary Putnam في كتابه للحقيقة وجوه كثيرة The many faces of realism 1987 ، وبعد أن توارت أيدلوجيا الإلحاد لعدة عقود إذا بها تعاود الظهور مرة أخرى لتسيطر على المشهد الإعلامي و العلمي على يد حفنة من العلماء الذين لم يأتوا بجديد غير أنهم، يصبون الخمر القديمة في زجاجات جديدة !