بطول الحقبة الكلاسيكية كان السؤال الفلسفى أنطولوجيا بالأساس، يدور حول الوجود، ما سره، وما أصله، ما هو مغزى الخلق ومصير المخلوقات، قبل أن يفرض الهم المعرفى نفسه على الفلسفة، فى الحقبة الحديثة، ليدور السؤال الفلسفى حول قدرتنا على تعقل الكون وإدراك العالم وكشف أسرار الطبيعة، وهنا أخذت الفلسفة النقدية مع العظيم كانط، تتجاوز البحث التقليدى عن الله، أو عن الوجود الحق للأشياء، وتطالب أولا وقبل كل شيء، بفحص العقل الإنسانى نفسه، باعتباره تلك الأداة أو الملكة التى يقوم الإنسان من خلالها بتحصيل المعرفة، لنتأكد من كونه أداة صالحة لها أم لا، قادرة عليها على نحو مطلق أم بشكل محدود؟. غير أن كثيرين من المهتمين بالفلسفة أو المؤرخين لها، قد استغل هذه التحول فيما بعد للقول ب (نهاية الفلسفة)، وذلك عبر موجتين أساسيتين: الموجة الأولى جاءت فى وقت مبكر كثيرا، من قبل كارل ماركس الذى قال بتلك النهاية منذ النصف الثانى للقرن التاسع عشر، باعتبار أن الفلسفة ليست إلى مستودع طموحات البشر الحالمين، وبفعل بلوغ المادية الجدلية محطتها النهائية، حيث يكمن المجتمع الشيوعى، الذى سيتحرر فيه الإنسان من سطوة رأس المال، ويتحرر فيه الوعى من سطوة الأحلام والأوهام، فإن الرغبة فى التفلسف سوف تتوقف أو تنتهى، إذ لم يعد ما يذكى عملها كنشاط عقلى. وهنا يتبدى لنا أن ماركس قد نظر للفلسفة وكأنها مجرد إيديولوجيا تعكس (أحلام الإنسان وأوهامه) ورغبته فى الخلاص من سطوة القوى المسيطرة عليه، أى أنه اعتبرها أفيون العقول بقدر ما أن الدين هو أفيون الشعوب. وبقدر ما التقدم العلمى، وعبر التصدى لمشكلات الإنسان الكبرى كالخوف والجهل والاغتراب، يمكنه القضاء على الدين، وبالأحرى حاجة الإنسان إلى الله فى نظره، فإن التقدم التاريخى سوف يقضى على حاجة العقل إلى الوعى، وبالأحرى حاجة الإنسان إلى التفلسف. أما الموجة الثانية فجاءت فى وقت مبكر من القرن العشرين، تحديا فى ثلاثيناته، من قبيل تيار الوضعية المنطقية، الذى طالب بدور وحيد للنشاط الفلسفى، هو العمل كخادم للعلم التجريبى، يبحث فى قضاياه الكلية، ويمده بالفروض النظرية، ويختبر نتائجه العملية. لم تقل الوضعية صراحة بنهاية الفلسفة، ولكن ما الذى تعنيه النهاية أكثر من الدفع بها إلى فقدان استقلالها الذاتى، والاكتفاء بالدوران فى فلك العلم التجريبى، ومن وضع السؤال الفلسفى الذى كان يدور حول الوجود كله، بسعته ورحابته، فى أنبوب اختبار التجريبية الحديثة، على ضيقه ودقته وصرامته. وكما ولدت بعض أهم الفلسفات بعد نبوءة ماركس دليلا على استمرار الوعى الفلسفى، فلم يطل الوقت بعد محاولة الوضعية المنطقية حتى انفجرت الفلسفة مجددا فى وجه متحديها. بل إن الفلسفة مارست أقصى درجات مكرها عندما بنت على ما اعتبره الوضعيون المنطقيون مجالا وحيدا لها (الفكر العلمى) تيارا جديدا سرعان ما حمل اسم (فلسفة العلم) وبالخصوص مع اسهامات رموزه الكبار فى النصف الثانى من القرن العشرين من قبيل جاستون باشلار، وتوماس كون، وكارل بوبر، أولئك الذين نظّروا لمفهوم القطيعة العلمية، وحاولوا تفسير مغزى التحولات التاريخية الكبرى من منظور الطفرات المعرفية، فأضاءوا مساحات مبهمة فى تاريخ العلم، بل وقدموا تعليلات عميقة لكيفية تشكل وتطور الفكر الإنسانى برمته، وفى القلب منه الفكر الفلسفى، على نحو ألهم وغذى علم تاريخ الأفكار، أحد العلوم التى صارت بالغة الأهمية، والتى تتفتقر إليها الثقافة العربية إلى درجة مربكة، تثير لديها تلك الإشكالية التى كان محمد عابد الجابرى قد أسماها باللاتزامن الثقافى العربى، وتعنى تداخل الأزمنة الثقافية معا فى العصر الواحد، من دون ترتيب منطقى، ولا تقدم تاريخى، ولعلها الإشكالية التى تفسر بعمق علاقة التقليد بالحداثة، وظواهر كالإسلام السياسي، وغيره من إشكاليات تعكس ملمح اللاتاريخية فى الفكر العربى المعاصر. على هذا النحو يتبين كيف أن الفلسفة، كنشاط جوهرى منشغل بالإنسان وموقعه فى الوجود لا يمكن أن تنتهى أبدا، وأن تبريرات القائلين بتلك النهاية المزعومة، هى مجرد انعكاس لقدرة العلم الحديث، على اقتناص بعض القضايا التى طالما اعتبرت قضايا فلسفية، وتم ترسيمها ضمن الفضاء الفلسفى، فإذا بها تدخل إلى الفضاء العلمى من قبيل القضايا الكوسمولوجية، حيث العلاقة مع الكون والطبيعة. لقد دخلت الفلسفة، كنشاط عقلى قديم متجدد، فى صراع مع العلم التجريبى، كنشاط حديث، فلم تهزم هزيمة نكراء كما تصور البعض، ولكنها لم تخرج سليمة تماما كما يصر البعض الآخر، بل خسرت أشياء، ونالت منها كدمات. لقد خسرت، مثلا، ادعاءها بالقدرة المطلقة على تفسير الوجود كله، بعد أن انسحبت من يديها القضايا الكوسمولوجية. كما نالت الكدمات من جل الفلاسفة المعاصرين، فأفقدتهم الشعور المغرور بالقدرة على بناء أنساق عقلية مكتملة، تفسر الوجود من ألفه إلى يائه، بدءا من الموقف الأنطولوجى، مرورا بالمعرفى، وصولا إلى الأخلاقى والسياسي، فتحت ضغط التقدم العلمى خصوصا فى الفيزياء، والقدرة التكنولوجية على الكشف والاتصال، تنامى تواضع الفلاسفة، وتآكلت ظاهرة الفيلسوف الشامل فى الفكر العالمى، بانتصاف القرن العشرين على الأقل، فلم يعد هناك من يشبه ديكارت وسبينوزا وكانط وهيجل أو ماركس، أو حتى كيركيجارد، وفى المقابل نمت ظاهرة ما يمكن أن نسميه ب (المفكر المتفلسف) أو الفيلسوف المتخصص على شاكلة بيار بورديو، مثلا، الذى صرف جل اهتمامه إلى معالجة قضية جزئية كالعلاقة بين وسائل الإعلام وبين الديمقراطية فى المجتمع الحديث، متتبعا كيفية صناعة الشمولية (جوهريا) فى قلب أكثر القوالب التى اعتبرت تجسيدا لتطور الديمقراطية السياسية. إنها فكرة مهمة، أطنب الرجل فى شرحها فى أكثر من خمسة عشر كتابا، قدم خلالها إضاءات كاشفة لزوايا غامضة، ومناطق معقدة من التجربة الإنسانية المعاصرة. ولكنها تبقى فكرة جزئية، لا تصنع نسقا كالنسق النقدى الكانطى، أو الجدلى الهيجيلى مثلا. لقد صارت الفلسفة أكثر عملية وربما فائدة، ولكن الفيلسوف صار أكثر تواضعا وأقل غرورا، ولعل ذلك لا يمثل نهاية حقيقية للفلسفة، ولا هزيمة كاملة للفيلسوف، بقدر ما يعكس تطورا موضوعيا ربما مثل جوهرا للتقدم التاريخى.. المزيد من التخصص وتقسيم العمل. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم