«أول فرع بجنوب شرق آسيا».. بدء الدراسة رسميًا بجامعة الإسكندرية في ماليزيا (صور)    البورصة المصرية تغلق الجلسة عند مستوى 36100 نقطة    وزير التعليم يوقع مذكرة تفاهم مع شركة يابانية لتعزيز تعليم الموسيقى بالمدارس    اتصال هاتفى بين وزير الخارجية ونظيره اليوناني    صلاح محسن يقود تشكيل المصري ضد بيراميدز في الدوري المصري    حملة مشتركة للكشف تعاطي المواد المخدرة والمخالفات المرورية بشارع الجيش بالمنصورة    بالصور والفيديو سابقة تحدث لأول مرة لفيلم مصري.. برج المملكة يحمل أفيش فيلم درويش لعمرو يوسف    الثلاثاء المقبل.. طرح أول أغنية من ألبوم ويجز الجديد    بعد طرح بوستر فيلم "جوازة في جنازة "تعرف على مواعيد عرضه بمصر والعالم العربي    فابريزيو رومانو يكشف موقف مانشستر سيتي من رحيل نجم الفريق    بعد اعتذار الجونة.. إعادة قرعة الدوري المصري للكرة النسائية (مستند)    جهاز الاتصالات: إيقاف الهواتف التي تجري المكالمات التسويقية الإزعاجية بداية من الأسبوع المقبل    موجة حارة.. حالة الطقس غدًا الأربعاء 20 أغسطس في المنيا ومحافظات الصعيد    بعد سرقة دراجته النارية.. إصابة شاب بطلق ناري على يد مجهولين بقنا    كان بيعدي السكة.. وفاة شخص دهسا تحت عجلات القطار في أسيوط    4374 فُرصة عمل جديدة في 12 محافظة بحد أدنى 7 آلاف جنيه    عائلات المحتجزين الإسرائيليين: نتنياهو يكذب ويضع شروطًا غير قابلة للتنفيذ لإفشال الصفقة    رئيس هيئة الرقابة على الصادرات: تقليص زمن الإفراج الجمركي إلى يومين بنهاية 2025    عمرو يوسف يحتفل بالعرض الخاص لفيلم "درويش" في السعودية    حقيقة إحالة بدرية طلبة للمحاكمة الاقتصادية.. محاميها يكشف التفاصيل    تكليفات بتوفير أصناف العلاج المختلفة بصيدلية مركز طب أسرة صحة أول بأسوان    لأول مرة «بإهناسيا التخصصى».. استئصال ورم كبير متضخم بالغدة الدرقية لمسنة تعاني صعوبة التنفس    نفق وأعمال حفر إسرائيلية جديدة داخل ساحة البراق غرب المسجد الأقصى    وزير الخارجية: الكرة الآن أصبحت في ملعب إسرائيل لوقف إطلاق النار    محمد مطيع رئيسًا للاتحاد الإفريقي للسومو ونائبًا للدولي    كيف تعرف أن الله يحبك؟.. الشيخ خالد الجندى يجيب    الشيخ خالد الجندى: افعلوا هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله    ميلان يخسر خدمات رافاييل لياو في الجولة الأولى للدوري الإيطالي    محافظ الأقصر يلتقي وفد أهالي المدامود ويعلن زيارة ميدانية عاجلة للقرية    «التعليم العالي»: إعلان القائمة المبدئية للمرشحين لمنصب رؤساء 5 جامعات أهلية    مصادر طبية: 40 شهيدًا بنيران الاحتلال في مناطق عدة منذ فجر اليوم    صور.. النقل تحذر من هذه السلوكيات في المترو والقطار الخفيف LRT    "رقص ولحظات رومانسية"..منى زكي وأحمد حلمي في حفل عمرو دياب في الساحل الشمالي    أول تعليق من أشرف زكي بعد تعرض ألفت عمر للسرقة في باريس    تدريب المعلمين على تطبيقات الآلة الحاسبة.. بروتوكول جديد بين "التعليم" و"كاسيو"    بالصور- وزير العدل يفتتح مبنى محكمة الأسرة بكفر الدوار    من هم أبعد الناس عن ربنا؟.. أستاذ بالأزهر يجيب    بي بي سي ترصد طوابير شاحنات المساعدات عند معبر رفح بانتظار دخول غزة    "فاليو" تنجح في إتمام الإصدار السابع عشر لسندات توريق بقيمة 460.7 مليون جنيه    بالصور- افتتاح مقر التأمين الصحي بواحة بلاط في الوادي الجديد    «الوعي»: التحرك المصري القطري يُعيد توجيه مسار الأحداث في غزة ويعرقل أهداف الاحتلال    مدير أوقاف الإسكندرية يترأس لجان اختبارات القبول بمركز إعداد المحفظين    تأجيل محاكمة عاطل بتهمة سرقة طالب بالإكراه ل23 سبتمبر    مواصلة الجهود الأمنية لتحقيق الأمن ومواجهة كافة أشكال الخروج على القانون    استعدادًا للعام الجديد.. 7 توجيهات عاجلة لقيادات التربية والتعليم بالدقهلية    تقديم الخدمات الطبية المجانية ل263 مريضاً بمحافظة كفر الشيخ    فنان شهير يفجر مفاجأة عن السبب الرئيسي وراء وفاة تيمور تيمور    "الموعد والقناة الناقلة".. النصر يصطدم بالاتحاد في نصف نهائي السوبر السعودي    صعود جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل جلسة اليوم    إلغاء إجازة اليوم الوطني السعودي ال95 للقطاعين العام والخاص حقيقة أم شائعة؟    وزير الدولة للاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني: الاقتصاد المصري يحتل أهمية خاصة للاستثمارات    «الري»: منظومة إلكترونية لتراخيص الشواطئ لتسهيل الخدمات للمستثمرين والمواطنين    الداخلية تؤسس مركز نموذجي للأحوال المدنية فى «ميفيدا» بالقاهرة الجديدة    «100 يوم صحة» تقدم 52.9 مليون خدمة طبية مجانية خلال 34 يومًا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 19-8-2025 في محافظة قنا    عماد النحاس يكشف موقف الشناوي من مشاركة شوبير أساسيا    رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2025 بعد انتهاء تسجيل رغبات طلاب الثانوية العامة 2025 للمرحلتين الأولي والثانية    «ثغرة» بيراميدز تغازل المصري البورسعيدي.. كيف يستغلها الكوكي؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إشكالات العقل في فلسفة طه عبد الرحمن (1/4)
نشر في البديل يوم 11 - 09 - 2013


في سياق مقاربة العقل
حضور الهاجس الإصلاحي والهم النهضوي في مشروع طه عبد الرحمن يبدو بارزا وملفتا، يتجلى لنا هذا عند النظر إلى القضايا التي طرقها وحاول أن يجيب عنها من خلال رؤيته الخاصة، إنها نفسها تلك التي خاض فيها الفكر العربي بعد نهضته النسبية؛ أسئلة الحداثة وإعادة قراءة التراث وتجديد النظر في الفكر الديني وإشكالية القيم و معضلة السياسة، فضلا عن أهم سؤال طرح نفسه على الفكر النهضوي، وهو سؤال العقل، فقد كان شائعا في أدبيات الخطاب النهضوي أنه من غير الممكن الحديث عن أية نهضة من غير تجديد النظر في آليات التفكير العربي، دون أن نغفل التنبيه على أن السياق الذي قارب فيه طه عبد الرحمن مشكلة العقل وطبيعة المقاربة نفسها مختلفة عن باقي المقاربات التي سادت في الفكر العربي.
إن ما يمكن أن نسميه "فلسفة العقل" في فكر طه عبد الرحمن تهدف أساسا إلى تعقيل الممارسة الدينية، لذا فهي تختلف على طول الخط عن طبيعة تناول المفكرين العرب لهذا السؤال، سواء من القدامى أو من المعاصرين، ومادامت الأشياء بضدها تتميز كما يقال، فلو نظرنا على سبيل المثال إلى إشكالية العقل عند ابن رشد، لوجدناها مقاربة أنطولوجية تتعالى على أي ارتباط تاريخي أو تخندق في إطار الدفاع عن مضمون إيديولوجي ما، يقول أحدهم عن طبيعة التناول الرشدي للعقل "لقد نظر ابن رشد إلى العقل المادي نظرة أنطولوجية جردته مما يمكن أن يجعله يمت بصلة إلى التاريخ بما ينطوي عليه من تعدد وجدل ونسبية أو ما يربطه بحيثيات التشيع المذهبي أو الانتماء الملي"(1)، أما أكثر الأطروحات المعاصرة رصانة لإشكالية العقل فتقارب الموضوع من وجهة نظر إبستمولوجية (أركون، الجابري)، أي أنها ترنو للكشف عن الأسس المعرفية التي يوظفها العقل العربي في نشاطاته الذهنية و المؤثرات التي توجهها، أما طه عبد الرحمن فينطلق في تنظيراته من الاعتقاد في أن الأخلاق ماهية الإنسان(2)، فالأخلاقية أولى بالإنسان من العقلانية، و لهذا فإشكالات العقل تتفرع عن هذا الأصل، إن إصلاح العقل ليس غاية تراد لذاتها و إنما هي قنطرة لابد من عبورها لتعقيل الممارسة الدينية، تلك الممارسة التي تستحضر القيم و المعاني الأخلاقية ولا تقف عند ظاهر الممارسات الدينية بما يحولها إلى طقوس مفرغة من أي معنى روحي، إن السؤال الأساسي في فلسفة طه عبد الرحمن عبر عنه في أوائل كتبه بقوله "كيف نجعل اليقظة متكاملة لا متنافرة و متجددة لا متحجرة؟ أو قل كيف نجعل هذه اليقظة متيقظة؟" (3)، إن مشروع طه عبد الرحمن يهدف لبناء فكر إسلامي متين وقادر على التصدي للتحديات الفكرية التي يواجهها، و طه عبد الرحمن يقدم للفكر الإسلامي السلاح الفكري من أجل الخروج من نفق التبعية والتقليد بوجهه الأصولي و الحداثي .
إذا ففلسفة العقل هي إحدى إشعاعات فلسفة طه الدينية، لكن ثمة فروقات جوهرية بين التناول الطهائي للإشكالية الدينية و الرؤى الأخرى لباقي تيارات الفكر الديني، فكما يقول أحدهم طه عبد الرحمن "سلك مسلك تجديد الدين من باب فلسفي" (4)، وقوام هذا المسلك التوسل بأمتن المناهج العقلية المعاصرة والتمكن من علوم الآلة، بل والاجتهاد في اختراع مناهج خاصة به، وهذه العقلانية التي تسم منهج طه عبد الرحمن مزجها وخصبها بما سماه "التجربة"، فمشروعه الفكري انبثاق لتجذره في الاشتغال والعمل الصوفي، إذ هذا الأخير يوسع مدارك الفكر ويخصب العقل وينضج رؤى الإنسان، إن مشروع طه عبد الرحمن ينبني على " قاعدة فلسفية منطقية صلبة وتجذر مشروعه الفكري في التجربة الصوفية والعزوف الجلي عن الشأن السياسي" (5)، غير أن الباحث لم يكن دقيقا في حديثه عن هذا العزوف السياسي "الجلي"، فطه عبد الرحمن لا يلغي السياسة من اهتماماته الفلسفية، وكتابه الأخير "روح الدين" يفند هذا الرأي، لكنه يرفض أن تكون السياسة مدخلا للإصلاح، فهو يميز في كتاباته بين "التسييس" و "التوعية السياسية"، إن رفض التسييس كواحدة من آفات العقل المسدد متعلق بالمكانة المركزية التي حباها بها "التسييسيون"، إذ أنهم أفردوا "الجانب السياسي بالقدرة على الإصلاح و التغيير" (6) كما يقول، هكذا تبعا لفلسفة طه عبد الرحمن التي تعلي من شأن "العمل" و"الاشتغال" يرفض أن تكون السياسة بما هي "ثقافة قول" مستندا ناجعا للإصلاح
أما الفرق الجوهري الثاني؛ فطه عبد الرحمن يصنف فلسفته الدينية ضمن الأبحاث الحداثية، أما باقي تيارات الفكر الديني في الساحة الثقافية فترفض الحداثة جملة وتفصيلا، ويعلل طه هذا الإدراج بكون "فلسفة الدين" – التي حولها تنصب جل كتاباته- كمبحث فلسفي، لم يظهر إلا في عصر التنوير، ومقاربته تنسجم مع مقتضيات الفكر التنويري الذي استبدل سلطة مؤسسة الكهنوت بالعقل، والتأمل في الإله في علاقته بالإنسان بتأمل الإنسان في علاقته مع الله، يقول "إن عملنا حداثي بموجب منطق الحداثيين، ذلك أن هؤلاء لا يسلمون بالحداثة، إلا لما كان له أصل في الحركة الأنوارية، والفلسفة الدينية لم تبرز إلى حيز الوجود إلا في سياق هذه الحركةالمجددة" (7)، أما هذه الفلسفة الدينية فيفصلها عن علم اللاهوت كون هذا الأخير "يتولى فيه فئة مأذونة ذات سلطة مخصوصة من رجال الدين النظر في ذات الإله وصفاته وعلاقاته بالإنسان والعالم من أجل توضيح معانيها ومقاصدها للفئات الأخرى لكي تأخذ بها من دون سواها، بينما فلسفة الدين لا تتوسل بسلطة مؤسسة الكهنوت، وإنما بسلطة العقل، ولا تتفكر في ذات الإله، وإنما في ذات الإنسان في علاقته بالإله، وبفضل استبدال فلسفة الدين سلطة العقل مكان سلطة الكهنوات واستبدالها النظر الإنساني مكان النظر الإلهي، فإنها تكون عبارة عن ثمرة من ثمار حركة التحرر التي اتصف بها عصر الأنوار" (8).
عوائق إبداع العقل الإسلامي :
1. دعوى كونية الفلسفة
إنشاء العقل الإسلامي لفلسفة تنطبع بطابع الخصوصية وتحمل في أحشائها بذور الكونية بحيث تكون حبلى بقابليتها لاتخاذها كفلسفة عالمية تصبح مهمة صعبة إن لم يع العقل حقيقة العوائق التي تواجهه وتحد من فاعليته، إن ثمة مجموعة من القناعات – ترسخت في نفوس المتفلسفة و أخذت هكذا تسليما دون نقد- لكفيلة بأن تصيب العقل الإسلامي بالعقم و السقم، وما لم يسارع لإبطالها ونقضها فإن العقل الإسلامي سيظل جامدا مقلدا.
من هذه العوائق الفلسفية دعوى كونية الفلسفة، تلك الكونية التي لا تعترف بأي طابع قومي للفلسفة و ترنو لإذابة الفروقات والخصوصيات بغية طرح نمط فلسفي واحد بديل يمهد للهيمنة السياسية. ويمكن التمييز في دعوى الكونية حسب الفلسفة الطهائية بين صورتين؛ الصورة الأولى تنطلق من الزعم بكلية الفلسفة، أي أن قضاياها ومسالكها تخص كل إنسان بما هو إنسان، أي باعتباره كائنا عاقلا، فمادامت الفلسفة تشمل مباحث تخص كل إنسان بغض النظر عن قوميته أو خصوصيته الثقافية، فقد جاز الحديث عن كونية كلية للفلسفة، و الصورة الثانية تتخذ طابعا سياسيا و تنطلق من عالمية الفلسفة، ويقصد بها طه عبد الرحمن "أن مسالكها تعم أقطار الأرض جميعا، بحيث تكون هذه الكونية ذات صبغة جغرافية أو بالأحرى سياسية، نظرا لاقترانها بإرادة النفوذ و السلطة" (9).
و قد انتقد طه عبد الرحمن هذه الدعوى نقدا مزدوج، حيث أورد اعتراضات عامة حول الرأي القائل بكونية الفلسفة، ثم وجه لكل صورة من صور الكونية هذه نقدا خاصا، أي "الكونية الكيانية" و " الكونية السياسية". أما الاعتراضات العامة، فقد انطلق طه عبد الرحمن من التباس الفلسفة بالسياقات التاريخية الاجتماعية، فمن غير شك، الفلسفة كانت ولا تزال تخوض في إشكالات يمليها واقع معين، يجتاز ظروف تاريخية و اجتماعية مخصوصة، ومادامت الفلسفة غير متعالية عن الواقع والتاريخ، بل هي نفسها إفراز لواقع يحمل خصوصيات سوسيوثقافية محددة فلا معنى عندئذ للحديث عن كونية الفلسفة، فحتى لو كان السؤال الفلسفي المطروح واحدا فالمقاربات تختلف من قوم إلى آخر تبعا لمحددات تاريخية و اجتماعية، من هنا لا بد من الإقرار بقومية الفلسفة، يقول طه عبد الرحمن "لابد أن تحمل فلسفة الأمة الواحدة الخصوصية التاريخية والاجتماعية لهذه الأمة كما تحمل فلسفة الفرد الواحد خصوصية ظرفه التاريخي ووضعه الاجتماعي" (10).
كما أن الفلسفة مضمون مصاغ في قالب لغوي، و هكذا فهي حتما متأثرة – مهما حاولت أن تتجرد- بالأساليب اللغوية و الأدبية للسان كل أمة، و هذا ما يفسر عسر الترجمة عادة من لغة إلى أخرى و الإخلال بشرط تبليغ دلالة النص كما هي في لغتها، يقول فيلسوفنا في كتابه "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" : "معلوم أن اللغة هي المحل الذي يتشكل فيه القول الفلسفي، و لا تشكل لهذا القول بغير تأثر بمحله اللغوي، و لما كانت الألسن التي وضع بها القول الفلسفي متعددة، جاز أن تختلف المضامين الفلسفية باختلاف الألسن التي تنقلها" (11)، وقد فصل فيلسوفنا في موضع آخر المحددات التي تذهب إلى الاعتقاد في أن تلبس الفلسفة بسياق أدبي لغوي يجعلها فلسفة قومية تختلف عن باقي الفلسفات الأخرى، فقد أورد في كتابه "سؤال العمل" ثلاثة مظاهر تزكي تأثير البيان و اللغة في المضمون الفلسفي، أولها أن المفهوم الفلسفي يشوبه ما يسميه طه عبد الرحمن بالتأثيل، و معناه أن أي مفهوم فلسفي إلا و يتأثر بمدلوله اللغوي، و هذا المدلول في آخر المطاف يبلوره رصيد الأمة التاريخي، فالمفاهيم ليست جامدة، و إنما تتوسع دلالاتها مع التجربة التاريخية لأمة، إن التأثيل إذا هو "وصل المدلول الاصطلاحي أو المفهومي الذي وضع للفظ الفلسفي بأسباب مدلوله اللغوي" (12). بالإضافة إلى التأثيل، ثمة مفهوم آخر ينزع عن الفلسفة طابع الكونية، و هو التمثيل، فالفيلسوف وهو يقدم تعريفاته وشروحاته يتوسل بأمثلة، وهذه الأمثلة مأخوذة من واقع الفيلسوف المتداولة في محيطه، حتى إنه تقرر الأخذ في الممارسة الفسفية بنوع من التعريفات أطلق عليه اسم "التعريف بالمثال" (13)، فضلا عن التخييل، وهو جملة الأساليب البلاغية من استعارة ومجاز التي يوظفها الفيلسوف، وهذه الأساليب تكون موغلة في الخصوصية الأدبية واللغوية للسان ما (14).
الاعتراض الثالث يتجلى في الاختلافات ذات الدلالة العميقة بين مختلف الفلاسفة المنتمين إلى الأمة الواحدة، ففي أمة العرب يقال "الغزالية" و "الرشدية"، وفي أمة اليونان يقال "الأفلاطونية" و"الأرسطية"، وفي أمة الألمان يقال "الكانطية" و"الهيجلية"، هذا فضلا عن التصنيفات القومية، وهي لا ترجع إلى أسباب أكاديمية تصنيفية، بل إنما هي انعكاس لتأثر كل قومية بمجالها التداولى الذي يحدد ماهية فلسفتها، فهكذا، الفلسفة الألمانية ليست ألمانية لأنها تنتمي لقطر جغرافي معين ، بل لكونها تحددت من جملة مبادئ عريضة نسجت خيوطها، ما جعل التصنيف الفلسفي يطلق عليها اسم الفلسفة المثالية الألمانية، وهي بهذه المثالية تختلف عن العقلانية الفرنسية، كما أن للتجريبية الانجليزية قوامها ونسقها الفلسفي الخاص، لهذا يقول طه عبد الرحمن "لا نكون محقين لو ادعينا أن هذا التقسيم من جانبهم هو مجرد تقسيم إجرائي يراد به عرض المادة الفلسفية من غير الإخلال بجوهرها" (15).
بعد هذه الاعتراضات العامة، خصص طه عبد الرحمن وأفرد لكل شبهة تتفرع عن كونية الفلسفة نقدا خاصا، فدعوى الكونية الكيانية للفلسفة التي تقوم على مقدمتين، وحدة الطبيعة الإنسانية ووحدة العقل البشري، هذه الدعوى يتدرج طه عبد الرحمن في نقضها، بدءا من الاستدلال على "انفكاك وحدة العقل عن وحدة الطبيعة الإنسانية" إلى "انفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل"، ثم "انفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفسفة" (16). إن أصل الإشكال في هذه الدعوى هو التوحيد بين وحدة الطبيعة الإنسانية ووحدة العقل، وهو إشكال ناجم عن الاعتقاد في جوهرية العقل، فمادامت الطبيعة الإنسانية واحدة، و العقل متجوهر في هذه الذات، فهو واحد كذلك، بينما الحقيقة التي يستمدها طه مما هو شائع في مجال التداول الإسلامي أن العقل فعالية القلب، وهكذا تبعا للدلالة اللغوية لعضو القلب فهذه الفعالية ستكون متغيرة ومتقلبة، من هنا فلا يلزم من وحدة الطبيعة البشرية على فرض صحتها وحدة العقل، وهذا الدليل كفيل بأن ينقض دعوى كونية الفلسفة في صيغتها الكيانية وينسفها نسفا، أي تلك التي تتكئ على وحدة الكيان العقلي للإنسان.
أما "انفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل" فتفصيلها أنه لا يلزم وحدة الفلسفة من وحدة العقل، ذلك أن ليس كل فاعليات العقل تتجه جميعا إلى نسج خيوط فلسفة واحدة، بل إن أقصى ما يمكن أن ينجم عن وحدة العقل هو الاشتراك في الفلسفة، والاشتراك غير الاتحاد. أما "انفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفلسفة" فبمعنى أنه "لا يلزم عن الاشتراك في الفلسفة بالضرورة وجود جملة من الصفات الفكرية المحددة التي تشترك فيها كل الصفات على نحو واحد" (17).
أما اعتراضاته على دعوى الكونية العالمية والسياسية للفلسفة، فقد فندها طه عبد الرحمن من خلال الواقع الفلسفي كما هو منظور إليه في الغرب الذي يعمل على عولمة فلسلفته، و من خلال الحفر كذلك في جذور هذه الفلسفة التي تثبت أنها موغلة في القومية، بل و كذلك إثبات أن هذه الفلسفة مع قوميتها فهي لا توظف إلا في سياق واحد، و هذا ما يجعل الفلسفة كما هي متداولة الآن غارقة في الخصوصية.
إن أوروبا منذ يقظتها في عصر الأنوار وهي تعمل على نشر فلسفتها باعتبارها من المتاح للبشرية جمعاء، لكنها مع هذه الدعوى لا تخفي نظرتها الاستعلائية باعتبارها الوحيدة التي مارست فعل التفلسف، إلى الحد الذي حمل أحد فلاسفتها على الاعتراض على المقولة "فلسفة أوروبية"، ذلك لأن نسبة صفة الأوروبية للفلسفة تحصيل حاصل، و لغو و حشو لا طائل منه، غير أن الأمر لا يتوقف عند حصر الإبداع الفلسفي في نطاق أوروبي بل تجاوزه "إذ أخذ الألمان ينزعون صفة الأصالة عن نظرائهم من فلاسفة أوروبا، و يخصون بها أنفسهم، و يعتبرون باقي الفلسفات الأوربية عيالا على فكرهم الأصيل، تنقل عنه و تقبس منه، سواء استوعبت مقاصده أو لم تستوعبه" (18)، و في هذا السياق عمل بعض الفلاسفة الألمان على وَصْل فلسفتهم مباشرة بفلسفة اليونان التي تنحدر منها الفلسفة الأوروبية إمعانا في إثبات أن الفلسفة الألمانية وحدها واصلت هذا الإبداع الفلسفي واستأنف النظر الفلسفي.
ثم الملاحظ في هذه الفلسفة الألمانية أنها تأثرت غاية التأثر باليهودية، فألمانيا في القرون الأخيرة كانت موطنا للثقافة اليهودية، كما كانت إسبانيا في القرون الوسطى تحت حكم العرب موطنا للفكر اليهودي، من هنا يمكن الحديث عن "تهويد الفلسفة الألمانية"، و يورد طه عبد الرحمن جملة من الاستدلالات للتنصيص على هذه الحقيقة، مثل تأثر كبار الفلاسفة الألمان بفلاسفة يهود بطريق مباشر أو غير مباشر "كتأثر ليبنتز بابن ميمون عن طريق نيقولاس دي كيوز، و تأثر كانط بسبينوزا.." (19). ثم إن ألمانيا هي التي احتضنت الإصلاح الديني و أرست قواعد المذهب البروتستاني، بحيث جعلت الدين المسيحي أقرب إلى الدين اليهودي، هذا فضلا عن ترجمة "مارتن لوثر" للتوراة ترجمة ألمانية نالت إعجاب اليهود. كما لاحظ طه عبد الرحمن اقتباس الفلاسفة الألمان بعض المفاهيم المحورية و الأفكار الجوهرية من التوراة، سواء صرحوا بذلك أم لم يصرحوا، و سواء احتفظوا لتلك المفاهيم بحمولاتها الدينية أم أضفوا عليها صبغة علمانية. ثم يضرب طه عبد الرحمن المثل بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي اجتمعت فيه كل هذه المقومات التي ذكرها هنا لإبراز دور الديانة اليهودية في بلورة الفلسفة الألمانية، ف "كانط" من جهة تأثر بفلاسفة يهود، و أعجب بالإصلاح الديني، و وجد في التوراة مرجعا نهل منه مجموعة من مفاهيمه و رؤاه الفلسفية (20).
هكذا إذا يمكن أن نتحدث عن تهويد للفضاء الفلسفي العالمي في الوقت الذي يصر فيه الغرب على اعتبار فلسفته بضاعة ممكنة التصدير لأي بقعة من بقاع الأرض بدعوى عالميتها، و هذه من مفارقات الفكر الغربي.
(1) محمد المصباحي، إشكالية العقل عند ابن رشد. بيروت. المركز الثقافي العربي. 1988. ط1. ص7.
(2) طه عبد الرحمن، سؤال العمل : بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2012. ط1. ص 92 و ما بعدها. انظر كذلك في النقطة نفسه :
طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق : مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط3. ص 13 و ما بعدها.
(3) طه عبد الرحمن، العمل الديني و تجديد العقل. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط4. ص 9.
(4) السيد ولد أباه، أعلام الفكر العربي : مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة. بيروت. الشبكة العربية للأبحاث و النشر. 2010. ط1. ص 71.
(5) نفسه، ص 74-75.
(6) طه عبد الرحمن، العمل الديني و تجديد العقل. ص 103.
(7) طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، ص 225.
(8) نفسه، ص224.
(9) طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. الدار البيضاء. المركز الثقافي العربي. 2006. ط2. ص 52.
(10) نفسه، ص53.
(11) نفسه.
(12) طه عبد الرحمن، سؤال العمل، ص 42.
(13) نفسه.
(14) نفسه، ص 43.
(15) طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي. ص 54.
(16) نفسه. ص 55-56.
(17) نفسه، ص 56.
(18) نفسه، ص 59.
(19) نفسه، ص 60.
(20) نفسه، ص 61.
*كاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.