في حديثنا حول الفلسفة العربية الإسلامية الذي يمتد ولا ينقطع تثور كثير من الأسئلة التي لا تجد إجاباتٍ شافيةً ومن ثم تُعلَّق؛ لِتُطرحَ من جديد في عملية اجترارية ربما تكون قليلة النفع، وهذه الأسئلة – دائمًا- ما تتعلق بنشأة الفلسفة العربية الإسلامية كونها اعتمدت في الأساس على ترجمات للفلسفة اليونانية القديمة – شابها ما شابها – وتأثرًا واضحًا – وإن كان محدودًا – بالفلسفات الهندية والفارسية، واعتبار ذلك خارجًا عن السياق الديني والاجتماعي، مما أنتج أسئلةً أخرى عن جدوى ذلك، و أثار عددًا من الشبهات حول الأسباب التي دفعت الفلاسفة العرب الأقدمين إلى الإقدام على رفع قواعد الفلسفة العربية الإسلامية في غير موضع حسب ما رأى كثيرٌ من الفقهاء في الماضي، ومازال الجدل حول هذا الأمر حاضرًا بقوة إلى الآن. لقد حاولت الفلسفة اليونانية القديمة أن تجيب على أسئلة طرحتها بنفسها تتعلق بالوجود، والماهية، والحياة، والمغزى منها، وأصل الكون ونشأته، والعلة الأولى التي هي مصدر كل شيء؛ والعلاقة بين العلة والمعلول التي عرفت بالسببية، وقد حملت هذه الإجابات تبايناتٍ جمةً أثارت من التساؤلات أكثر مما أوضحت من الملتبسات؛ وكان ذلك من أهم الأسباب التي حدت بالفقهاء وكثير من الحكَّام أن ينتبهوا مبكرًا لما اعتبروه خطرًا يهدد الدين، الذي جاء نصه المقدس ( القرآن الكريم) حاسمًا في معظم القضايا التي كانت موضوعًا للتشكك الفلسفي لاثني عشر قرنًا على الأقل . لقد تعاطى الفلاسفة العرب الأقدمون مع تلك القضايا وهم في حال من الانقسام، وربما التشظي الناجم عن مثول النص الديني بسطوته وإطلاقيته كرقيب صارم على ما يطرحونه، من رؤى تتلمس دروب الحقيقة بشكل نسبي؛ ومن ثم قامت تلك الثنائيات المعطِّلة، كالعقل والنقل، والدين والحكمة؛ ليسرف كثيرٌ منهم في محاولات التوفيق، ودرء التعارض فيما بينهما، وكشف الشبهات فيما أُشكِل فهمه فسمي بالمتناقضات! ولا نستطيع أن نجزم أنَّ طريقًا آخر كان يمكن لهم أن يسلكوه في ظل حالة التربص تلك التي كانت سائدة آنئذ وما زالت؛ بل من الواضح أنَّ كثيرًا من الجهود قد بُذلت في سبيل الوصول إلى إنجاز منتج فلسفي عربي تكتب له النجاة من سيف الرقيب المحاذر؛ فكان أن تعددت أشكال الخطاب الفلسفي العربي بين المراوغ، ونصف المعلن، والمعلق، والمهمَّش، والمحتمل، والخفي، و المسكوت عنه؛ وغيرها. ولو أنَّ داعيًا دعا منذ بدء هذا السجال أن لا ضرورة لجعل الفلسفة والدين قيد المواجهة كونهما من حيث المدخل متباينين،حيث أن َّ مدخل الفلسفة عقلي ( تشككي) بينما مدخل الدين إيماني (يقيني)، ومن ثمَّ فهما حقلان متمايزان لا يصح وضعهما على هذا النحو – لكان من الممكن أن تُدخر جهود كبيرة؛ لتبذل في دفع كلا الحقلين إلى الأمام خطوات واسعة، ولكان ذلك قد خرج بنا من المثلث الذي أنتجته تلك الوضعية غير المناسبة وغير الملائمة لإنتاج فلسفة تكون بمثابة قاطرة لأمتنا العربية، هذا المثلث يتضمن أنواعًا ثلاثة ممن اشتغلوا بالفلسفة، أولهم هذا النوع الذي حرص كل الحرص أن يكون موفِّقًا، فانتهى مُلفقًا لعدم استطاعته أن يصنع مزيجًا مقبولا من متناقضين، أما النوع الثاني فهم الذين قبلوا باستقلالية نسبية للخطاب الفلسفي – على مستوى البنية والوظيفة- مع التماهي مع الخطاب الديني بشكل لا يخلو من مخاتلة، أما النوع الثالث فقد رفض الاتكاء على التقية، والمراوغة، والحذر، وعمد إلى المواجهة جهارًا؛ ناقدًا نقدًا شديدًا ومتجاوزًا لكل ما هو خارج الإطار العقلي من الصيغ الذهنية، وفي القلب منها الصيغة الدينية، وهذا النوع وإن كان قد وحَّد البنية الفلسفية والوظيفة على نحو واضح إلا أنَّه قد أوغل في طريق خصومة مُدعاةٍ مع الدين، بحيث بدا- في أحيان كثيرة- هادمًا على نحو صادم. ومن أهم المشكلات التي عانتها الفلسفة العربية الإسلامية في مسيرتها الطويلة، التي بدأت مع مطلع القرن الثالث الهجري، إضافة إلى حالة التربص التي لازمتها من جانب الحلف الفقهي السلطوي – مشكلة الاستقلالية، فمنذ البداية فرضت مجموعة من الظروف عليها أن تمر عبر دهاليز الثقافة الاجتماعية السائدة، وأروقة السياسة، مما حمَّلها أعباءً كانت في غنى عنها، وأسهم بشكل كبير في عدم تفردها ببنية فلسفية واضحة، ووصمها بأنَّها أقرب إلى الحالة الأيدلوجية، التي لا تملك تمايزًا بنيويًا يحفظ لها خصوصيتها، كمكون مستقل من مكونات الفكر العربي، عمومًا وخصوصًا برغم التاريخ، وتاريخية ما يتحدَّر منه من ظاهرات وأحداث. ونستطيع القول أنَّ هذه الظروف غير المواتية، كما فرضت- في أحيان كثيرة- خطابًا فلسفيًا ملتبسًا ومراوغًا، فرضت- أيضا- قُربًا حذرًا من السلطة السياسية، وحالات من المراوحة والشد والجذب؛ حادت بالإنتاج الفلسفي عن غاياته، وخرجت به عن محدداته، ومضت به بعيدًا نحو شكل جديد للفلسفة العربية، هو نسيج مختلط من السياسي والفلسفي الخاضع لمؤثرات الثقافة الاجتماعية وسطوة العامَّة. إنَّ كثيرًا من إشكاليات الفلسفة العربية يتعلق بكونها ظلت نخبوية، ولم تجهد في سبيل توسيع قاعدة المتعاطين معها، ويرجع ذلك لكونها – من حيث البنية – قد قامت على موضوعات قد تم تجاوزها وظيفيًا تحت وطأة الواقع المعاش، وهذا إنَّما حدث بشكل حتمي نتيجة لمبررات الانصراف عن مجالها لمجالات أخرى، هي أكثر ضرورية وإلحاحًا في مسار البحث عن فرصٍ أفضل للحياة، أو الهروب من واقع هو من التعاسة بمكان، وكأنَّ ذلك لم يكن كافيًا إذ أسهمت الثورة المعلوماتية بنصيب وافر في تعميق هذه العزلة؛ ومن ثَمَّ حجب الفلسفة كليًا عن القيام بأي دور في تهيئة المجتمع العربي للنهوض من كبوته الطويلة، فكيف حدث ذلك؟ يرى الدكتور طيب تيزيني أنَّ الثورة المعلوماتية قد أنتجت نمطًًا من العقلانية يمكن تسميته بالعقلانية المنهجية التقنية، التي تحيل النشاط النظري العقلي إلى فعل ذهني منضبط ومحدد أساًسًا، بضوابط وآليات التقائه بوصفها ( مادة خامًا) تستمد منهجيتها واحتمالات نموها وتقدمها من بنيتها الخاصة؛ مما يجعلها- أي العقلانية تلك- ترى في السياق الاجتماعي والوظيفة الاجتماعية أمرين مجردين من أية أهمية بالنسبة إليها. إننا بصدد الحديث عن وضعية جديدة خطرة تفرض مواجهة غير متكافئة بين الفلسفة وتلك العقلانية المدججة بالتقنيات الحديثة، بقصد انتزاع الوظيفة الاجتماعية من الحقل الفلسفي؛ ليصبح ذا طابع مجرد خارج عن سياقاته الثقافية والتاريخية؛ تماشيًا مع رؤى ما بعد الحداثة التي تعتبر الإنسان موضوعًا فقد ذاته وانتهى إلى أن أصبح شيئًا في عالم الأشياء. إنَّ الفلسفة بوصفها الناظمة للقيم والضوابط الأخلاقية والثقافية والاجتماعية، والحاملة للهويات الوطنية والقومية والثقافية؛ بل الهوية الإنسانية ذاتها- قد صارت هي الأخرى هدفًا للتسليع؛ من أجل أن تصبح نسقًا من التفكير المنهجي الذي يؤدي دوره في خدمة السوق الكونية المرجوة! ويعتبر هذا الوضع التعيس للفلسفة في ظل السوق الكونية السلعية، هو أسوأ ما يمكن تصوره، ويمكن تصوره كعقاب صارم للفلسفة على تقصيرها في تشكيل الوعي، والحفاظ على الخصوصية الثقافية، فبرغم أنَّ الفلسفة تتجاوز كثيرًا في موضوعاتها مسألة الخصوصية الثقافية؛ إلا أنها ربما الوحيدة القادرة على الحفاظ عليها بمعزل عن عوامل التماهي مع غيرها من الثقافات، ومن ثَمَّ الاختفاء وفقدان الملمح. ويشير الدكتور طيب تيزيني إلى أن أزمة الفلسفة العربية تبرز في شقين أساسيين أحدهما معرفي والآخر أيدلوجي، المعرفي بمعنى استنفاد القضايا الفلسفية ( التقليدية) التي اكتسبتها في تاريخها الطويل، بكل الشرعية والجدارة، والتي إن انتزعت منها، تفقد نسيجًا أو ربما النسيج الحاسم في بنيتها التاريخية، أو ما يمثل خصوصيتها الفلسفية، أو ما صار خصوصيتها المفتوحة على كل حال، والأيدلوجي بمعنى ما تنطوي عليه الفلسفة من دلالات ومواقف مجتمعية، ومن ثَمَّ باعتبار ما تنيط هي بنفسها من وظائف مجتمعية محددة. والمقصود أنَّ الحقل الفلسفي سيتم تقليصه لحساب العلوم التقنية التي تلتزم منهج القطعية، ومن ثَمَّ تصبح الفلسفة غير معنية بطرح الأسئلة المتعلقة بالكون الكلي، ومحاولة الإجابة عليها في إطار ما هو نسبي، الأمر الثاني وهو الأكثر خطورة أن تعزل الفلسفة عن القيام بدورها في وضع الغايات التي يتوجب على المجتمع أن يسير باتجاهها. في المقابل ينمو الاتجاه بقوة نحو اقتصار الإنتاج الفلسفي على دراسات إنشائية، تتعلق بالتاريخ والتراث العربي، وتستلهم بعض المواقف، والحِكم، والمذاهب، والمدارس، والأنساق المعرفية؛ والقراءات الأيدلوجية، وفي أحيان كثيرة يتم تجاوز ذلك إلى موضوعات تتعلق بالإبداع الأدبي، والشعري، وشذرات من نصوص المتصوفة، والمنطق؛ وشعر الحكمة. أمر آخر يشير إليه الدكتور طيب، وهو على إيجابيته يمثل جانبا هاما من محنة الفلسلفة، وهو ضياع وسرقة الكثير من مخطوطات التاريخ العربي ، فبرغم الجهود التي تبذل من قبل مجموعات من الباحثين بهدف إماطة اللثام عن تلك المخطوطات، وخصوصا ما يتصل منها بالفكر الفلسفي، إلا أن الوضع لا ينبئ عن خير في ظل الاستحواذ الجائر على هذه المخطوطات، من جانب المراكز البحثية الغربية، وتشير التقديرات إلى أن هناك ما يقارب الخمسة ملايين مخطوط عربي محجوزة في المكتبات ومراكز الأبحاث الغربية، ومنها بطبيعة الحال عدد لا يستهان به على الصعيد الفلسفي. في ظل وجود هذه الإشكاليات يبدو مستقبل الفلسفة العربية الإسلامية غامضًا غير مبشرٍ بخير إذ تتعذر الحوافز نحو استمرارية معقولة مع مثول – شبه يومي – للعوائق التي تحول دون إنتاج فلسفي عربي مقبول في حدوده الدنيا،كما أنَّ الظروف الحالية للمجتمع العربي لا توفر الشروط الضرورية لإنتاج فلسفي عربي، غير أنَّ المتغيرات التي حدثت مؤخرًا وما سمي بثورات الربيع العربي، وإمكانية إعادة تشكيل النخب الحاكمة وفق شروط أقل إجحافا- ربما – ينطوي- على محفزات جديدة لا تسهم فقط في توفير بيئة مناسبة لإنتاج فلسفي عربي، وإنما إمكانية إعادة بناء المجتمع العربي برمته على أسس جديدة. وبغض النظر عن تباين الآراء حول ثورات الربيع العربي، بين ناظر لها على أنَّها مؤامرة كونية، ومنتصر لها بحسبها معبرة عن تطلعات الشعب العربي للحرية والفكاك من نير الأنظمة الاستبدادية التابعة- إلا أنّهَا أحيت بإلحاح الحاجة إلى المشروع العربي النهضوي التنويري الذي يروم الخلاص من أسر التبعية؛ معظمًا لخصوصيته التي تحول دون ابتلاعه في فخاخ العولمة، وبالطبع لن يتأتى ذلك من خلال إنتاج فلسفي عربي يتمتع بجانب من الاستقلالية كنسق نظري لا يبتعد عن النسق المادي الاجتماعي إلا بما يتيح له امتلاك القدرة على تقديم رؤى معمقة لما يكتنف هذا النسق من إشكاليات، كما أنَّ التعددية الثقافية داخل مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني ستتيح آفاقًا أكثر رحابة لحوار نقدي يسهم في إنهاء حالة الواحدية التي سيطرت لعقود طويلة بسبب الاستبداد وعبادة الحاكم الفرد، إنَّ هذا الحوار إذا أتيح له أن يتم لابد وأن يكون ذا قدرة على تناول القضايا الفلسفية بشكل حيوي يتناول مشكلات طلاب الفلسفة ويعمق الدراسات الفلسفية في أوساط المتخصصين؛ ليعمل وفق خطة استراتيجية على تأسيس وعي فلسفي عمومي بين فئات الشعب : حفزًا لطاقات الأفراد وإمكاناتهم مما يفسح المجال لإشاعة روح النقد والعقلانية والاستنارة وقبول الرأي الآخر، ومن ثم التعاطي الجاد والعلمي مع المتغيرات على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومما يمكن ذكره على سبيل التحفيز، بعيدًا عن حالة الإحباط التي أنتجها تفريغ تلك الثورات من مضامينها الفلسفية، والالتفاف على أهدافها وغاياتها، بل وتشويهها- الانحسار الواضح للفكر الظلامي المضاد للفلسفة منذ نشأتها، على نحو كبير وهو ما يتيح مساحة كبيرة للعمل على إرساء دعائم المشروع التنويري الذي يحول دون عودة هذا الفكر الظلامي للمثول بقوة في واقعنا العربي. ويُلمح الدكتور تيزيني إلى أنَّ كل ذلك مشروط بنشوء مؤسسات علمية وفكرية عامة تحتضن هذا المنتج وتحميه وتعممه توازيا مع وجود مؤسسات إعلامية ومعلوماتية تسهم بشفافية وعمق في خلق حوار فلسفي مفتوح ليس بين منتجي الفكر الفلسفي فحسب؛ بل كذلك في أوساط منتجي الثقافة بأجناسها وأنماطها المتعددة، كما في أوساط الجمهور المتلقي بفاعلية نقدية وأخيرًا ضمن الناس عمومًا بهدف تحفيزهم على إنتاج وعيهم المطابق. وليس خافيًا أنَّ نشوء هذه المؤسسات يتطلب جهدًا كبيرًا في ظل حالة التردي المتخلفة عن عقود من القهر التي دفعت بالكفاءات بعيدًا جدًا عن مواقع القيادة داخل هذه المؤسسات؛ غير أنَّ العمل على ذلك في ظل ما أحدثته الثورات العربية من خلخلة في بنية الأنظمة لم يعد صعبًا كما كان. ختامًا لا بد أن نؤكد على أن حاجتنا للعمل على استكمال ما بدأه فلاسفتنا الأقدمون، وتبعهم بإحسان عديد من فلاسفتنا المحدثون – حاجة ضرورية وملحَّة وليست ترفًا أو هدرً للوقت والجهد، كما أنَّ العمل على تخليص بنية تلك الفلسفة مما شابها بفعل الأيديولوجي والفقهي والسوسيوثقافي- أمر لا يقل ضرورة وإلحاحًا ، كما أنَّ السير الحثيث نحو تعميق الأثر الإيجابي للإنتاج الفلسفي العربي بتعظيم دوره في النهوض بالمجتمعات العربية وتهيئة قنوات اتصال جيدة وفاعلة مع كافة المجالات العلمية والمجتمعية وما يتماس معها بواقع البشر ومشكلاتهم- هو شأن لا يمكن تغافله أو غض الطرف عنه، إذ أننا نرى أنَّ أصالة الفلسفة ليست متعلقة ببدايات النشأة بقدر ما تتحدد وفق إمكانات تلك الفلسفة على أن تكون قاطرة لأمتها نحو النهوض والتقدم، كما أنها المنوطة بوضع الضوابط المتصلة بإشكالية الأصيل والمعاصر من حيث الجدوى والملاءمة ووفق ما يفرضه الواقع الجديد من شروط صارمة للتحقق ومخاطر واضحة تنبئ بالتلاشي والبدد؛ لذلك فهي أيضًا التي تستطيع أن تجيب على سؤال: من أين ننطلق في سفرنا الطويل نحو المستقبل؟