ثمة رفضٌ يكمن في الذهنية الشعبية لكل ما هو فلسفي، بوصفه معقدًا متعاليًا ومفارقًا للواقع، لا يخلو من تسفيهٍ واحتقارٍ للمستقر الراكد من التقاليد الملتبسة بالعقائد والمحتفية مطلقًا بالخرافة. يمكننا- أيضًا- أن ننعتَ تلك الذهنية الشعبية بالتصلب والجمود تجاه ما هو علمي/عقلاني/فلسفي، مع قابلية واضحة لما هو خيالي/فقهي/سلطوي. هذا التصلب والرفض من جهة، والانفتاح والقابلية من جهة أخرى هما ما يشكلان ما يمكن تسميته ببنية الخطاب الشعبي. هذا الخطاب يتمترس – دائمًا- خلف خصوصيته التي يحددها الموروث الاجتماعي والديني، وينظر بعين الريبة والتشكك لكل ما يراه وافدًا دخيلاً ذا عمقٍ ثقافيٍ أو معرفيٍ، في الوقت ذاته فإنَّه لا يمانع في التعاطي مع هذا الوافد الدخيل، إذا كان حسيًا وذا صبغةٍ استهلاكيةٍ. وإذا سلمنا أنَّ الخطاب الفقهي والسياسي النخبوي رافدان مهمان يؤثران تأثيرًا بالغًا في الخطاب الشعبي، و يتصارعان من أجل السيطرة عليه، غير أنَّهما كثيرًا ما يلتقيان في عديد من نقاط الاتفاق أهمها محاصرة قوى التغيير في المجتمع، بوصفها تطرح – ولو بشكل مشوش- رؤية مغايرة للخطاب الفقهي بماضويته وجموده، وللخطاب السلطوي باستبداده وتبعيته. لاشك إذن في أنَّ السيطرة على الخطاب الشعبي ومن ثمَّ استخدامه كأداة طيعة في سبيل إحكام هذا الحصار حول قوى التغيير في المجتمع وإجهاض أي محاولات لها لخلخلة الواقع الراكد- هو أمر من البداهة بمكان. فإذا كانت القوى الحيّة في المجتمع هي المستهدفة بهذا الحلف غير المقدس ؛ فليس ثمة مهرب من إنتاج خطاب خاص بها لا يبتعد عن مفاهيم معينة كالتحرير والتنوير و التثوير، وهي مفاهيم تتأسس فلسفيًا في المقام الأول ، في المقابل سنجد لدى الحلف الفقهي السلطوي ما يوجب تلك الحالة من الحفز الشعبي ضد الفلسفة التي تقوم عليها هذه المفاهيم ؛ تحجيمًا للأثر وتضييقًا لمساحات التأثير بين فئات المجتمع. ليس أيسر إذن من (شيطنة) الفلسفة ووصمها بأنَّها ليست مضادةً للدين فحسب ؛ بل هادمةً له، ويرى د.طيب تيزيني أنَّ هذا الفريق ( الفقهي السلطوي الشعبي) بمستوياته المتعددة استطاع أن يحصر تصوره لإدانة الفلسفة فيما اعتبر ثوابت قطعية وهي: أنَّ الدين ينبني على حقيقة مطلقة كلية هي الوحي . ولما كانت الفلسفة تضع في اعتبارها تعددية المواقف والآراء ونسبية الحقيقة، أي كونها موزعة – من حيث الاحتمال المفتوح- بين الناس جميعًا؛ فإنَّ التصادم بينهما قائم لا محالة.كما أنَّ الدين يقوم على كونه ( دينًا مستقيمًا) لا سبيل إلى التشكيك فيه أو إلى اتخاذ موقف مخالف له، في أساسه . ولما كانت الفلسفة تتضمن تعدد الآراء صار لزامًا تكفير أصحابها حفاظًا على وحدة الأمة ! ومن المعلوم أنَّ الدين ينطلق من (نصوص مقدسة )تمثل مبتدى الموقف ومنتهاه، في حين تحدِّد الفلسفة موضوعها في الكون الكلي المفتوح والخاضع للتغيير ومن ثَمَّ فإنَّه ليس من شأن المناقشة الفلسفية لشئون الكون إلا التشكيك في النصوص المذكورة.وإذا كانت الفلسفة تتأسس-بأحد اعتباراتها- على مبدأ الشك المنهجي في كل شيء وعلى الأخذ بنتائج ذلك؛ فإنَّها والحال كذلك ومنذ البدء، تجد نفسها في حالة صراع مع الدين الذي يرفض أي مناقشة قد تؤدي إلى استبعاد أحد أركانه المُؤَسِّسة. ومن ثَمَّ إذا كانت الفلسفة تنطلق من الحوار المفتوح والحجة والبرهان، فهي بهذا تكون نمطًا من (الديمقراطية العقلية). يحاول الدكتور طيب أن يدحض تلك الثوابت القطعية المُؤَسِّسة لمعاداة الفلسفة، والتي يتم نفثها في روع الشعوب العربية – بإبراز هذا التباين الواضح بين الدين والفلسفة، فيقول: "الدين ليس فلسفة، كما أنَّ الفلسفة ليست دينًا. في هذا الموضع نضع يدنا على أنَّ اختلافًا نسقيًا، أي في المدلول النسقي، قائم بين الاثنين ، إضافة إلى الاختلاف النسقي المنطقي. فهذا ليس ذاك، وذاك ليس هذا. إذن الاختلاف بينهما ذو طابع (ماهوي )شأنهما في ذلك شأن غيرهما من المختلفات في الكون عمومًا". وهو بهذا يُسقط تلك الشبهة المتوهمة تمامًا؛ لأنَّ الاختلاف في الماهية لا يفسح مجالاً للعداوة ولا حتى المنافسة. ويرى د.طيب أنَّ هذا الاختلاف لا بد أن يبرز علاقة التخارج بينهما؛ لكون الأول مطلقًا والثانية نسبية وبمقتضى ذلك فإنَّهما لا يلتقيان إلا من طرف الأول ( المطلق) أما إطلاق حكم قيمة فيما بينهما؛ فننظر إليه على أنَّه أمر زائف. وهذا ما يعني أنَّ لكل منهما مدخلاً مختلفًا، فالمطلق يعتمد المدخل الإيماني بينما تعتمد الفلسفة المدخل العقلي ، ويشير د. تيزيني إلى أنًّ محاولة ابن رشد و(كانط) النظر إلى المطلق الديني الإيماني في ضوء تأويله لجهة النسبي الفلسفي العقلي، قد أقصت فكرة التضاد والتصارع بينهما، تأسيسًا للقول بحقلين مختلفين ومتمايزين نسقيًا ومعرفيًا، ولكنهما قابلين للتعايش من موقع اعتبارين اثنين هما: قدرة العقل على التدليل أنَّه ذو بنية مفتوحة تسمح له بتلقف ما يأتيه من خارج حقله أما الاعتبار الثاني فيتمثل في أنَّ المطلق الديني الإيماني( الإسلامي تحديدًا) يدعو المؤمنين به إلى استخدام ( عقولهم ) من أجل تعرفهم إليه، مما يسمح بالاتجاه لإنتاج قراءات له تقوم على التأويل العقلي، أي على التوجه نحوه على أساس النسبي. لما تقدم فليس ألزم الآن من العمل على تهيئة الخطاب الفلسفي ليكون أكثر قابلية لدى الشعوب العربية ؛ لأننا إذا سلمنا بتحالف الفقهي والسلطوي في سبيل الهيمنة على الشعبي بقصد استخدامه في غير مأرب ، فإنَّنا يجب أن نسلِّم- أيضًا- أنَّنا لم نمسك بعد بهذه الصيغة الفلسفية التي تجعل من خطابنا الفلسفي العربي – عربيًا لا غش فيه.