لعل أكثر ما يحرج المشتغلين بحقل الفلسفة والدراسات الفلسفية في المجال العربي, ويصيبهم بنوع من الضيق والإحباط, حين يتوقفون أمام قضية العلاقة بين الفلسفة والمجتمع. ويتساءلون عن هذه العلاقة: أثرها وتأثيرها, شكلها ونمطها, واقعها وحاضرها, مصيرها ومستقبلها, إلي غير ذلك من صور وأبعاد. وعند التأمل في هذه العلاقة من جهة الفلسفة, سرعان ما يجد هؤلاء المشتغلون أن لا تأثير لهذه الفلسفة, ولا حضور في الاجتماع العربي, ويكاد دورها ليس فقط يتقلص أو يتراجع, وإنما يكاد ينعدم ويتلاشي. ومن جهة المجتمع, سرعان ما يجد هؤلاء أيضا, أن لا إقبال للناس علي الفلسفة, وليست لهم علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد, لا رواية ولا دراية, فلهم عالمهم الذي يعرفونه ويحسون به, ولها عالمها الذي لا يعرفونه ولا يحسون به, والفرق بين هذين العالمين هو الفرق بين عالم العامة وعالم الخاصة. والمفارقة الغريبة, أن واقع الحال في هذه العلاقة لا يصدق علي عموم الناس فحسب, بل يكاد يجري ويمتد حتي إلي المؤسسات الجامعية والوسط الجامعي, الذي لا يعرف للفلسفة أثرا وتأثيرا علي هذه المؤسسات, وعلي هذا الوسط, فقد أصبحت الفلسفة غريبة حتي في معاقل العلم والمعرفة, غريبة علي اللسان والبيان, فلا يكاد أحد يأتي علي ذكرها, ولا تكاد تخطر علي بال أحد, ولا تجول في فكر أحد, وكأنها باتت من التسميات القديمة والبالية وغير المألوفة, ومن ينطق بها قد يشعر بغربة, ويوصف بالعودة إلي الأزمنة القديمة. وكأن في نظر البعض, أن الفلسفة تناسب كبار السن ولا تناسب الشباب, تناسب كبار السن لأنهم أميل إلي عالم الفكر والمعرفة والحكمة, ولا تناسب الشباب لأنهم أميل إلي عالم السرعة والبساطة والحركة, وأن من ينشغل بالفلسفة من الشباب هم في انطباع هؤلاء, أناس يغلب عليهم الانغلاق والانعزال, والبعد عن متع الحياة ومباهجها, وقد يقال عنهم أيضا أنهم مضطربون ومعقدون وتقليديون وإلي غير ذلك, ولكن لا يقال عنهم أنهم أناس جادون ومجتهدون ومثابرون, ويدركون قيمة الزمن, وينظرون إلي المستقبل بطموح كبير. ولا يختلف هؤلاء المشتغلون بالفلسفة والدراسات الفلسفية, علي أن هذه الصور هي من تجليات أزمة الفلسفة في المجال العربي, الأزمة التي باعدت بين الفلسفة والمجتمع, وجعلت الفلسفة غريبة عن المجتمع, وجعلت المجتمع ينظر بغرابة إلي الفلسفة. ومن التحليلات التي وجدت أنها تستوقف الانتباه في تفسير هذه الأزمة, ما أشار إليه الباحث اللبناني وأستاذ الفلسفة الغربية الدكتور عادل ضاهر, في ورقة له بعنوان( دور الفلسفة في المجتمع العربي), تقدم بها إلي المؤتمر الفلسفي العربي الأول المنعقد في العاصمة الأردنية عمان سنة1983 م. في هذه الورقة, اعتبر الدكتور ضاهر أن هناك ثلاث عقبات أعاقت دور الفلسفة في المجتمع العربي وأصابتها بالأزمة, وفي مقدمة هذه العقبات والتي ركز عليها الدكتور ضاهر باهتمام شديد, هي طبيعة الثقافة الفلسفية المكتسبة من الجامعات الغربية عند المشتغلين بالفلسفة في المجال العربي, التي رسخت تصورا للفلسفة عند هؤلاء يجردها من وظيفتها الاجتماعية, ومن تواصلها النقدي مع المجتمع. وحسب تصور الدكتور ضاهر, فإن العقبة الأولي وجودها منوط بترسخ نظرة معينة للفلسفة في أذهان فلاسفتنا العرب, نتيجة تأثرهم بطرق التفكير الفلسفي في الغرب, وأن كيفية فهمنا للفلسفة وللدور أو الأدوار التي يجب أن توكل إلي عملية التفلسف, تعكس علي العموم التصور السائد للفلسفة في الغرب. ومع أن الدكتور ضاهر ومنعا للتضليل حسب قوله, لا يقصد أن هناك وحدة أو شبه وحدة للنظر الفلسفي في الغرب, ولا اتفاقا حول الأغراض المحددة للفلسفة أو حول طرق التفلسف, وما يقصده أن معظم التيارات الفلسفية في الغرب وفي القرن العشرين تحديدا, لم تعد تري للفلسفة أية وظيفة نقدية, وليس لها أي دور سياسي أو اجتماعي, وأن هناك شبه اتفاق بين الفلاسفة المعاصرين في الغرب, علي أن الفلسفة ليست أداة مناسبة للنقد السياسي والاجتماعي, وأنها ينبغي أن تكون محايدة أخلاقيا وسياسيا واجتماعيا. وبسبب هذه النظرة كما يضيف الدكتور ضاهر, أصبحت الاتجاهات الفلسفية السائدة في الغرب يطغي عليها الاهتمام بأسئلة من النادر جدا أن تلمس حياة الإنسان والشؤون المتعلقة بمصيره, وذلك لأن الفلسفة من حيث هي طريقة معينة في التحليل والتركيب والتقويم, ليست صالحة لتناول أسئلة من نوع ما النظام الاجتماعي الأصلح لحياة الإنسان؟ وما المجتمع الفاضل؟ وغيرهما؟... فهناك من الفلاسفة والمفكرين الغربيين, من يري أن الفيلسوف لا يجوز له أن يستعمل فلسفته للبرهنة علي نتائج سياسية, وهناك من يري أن الفلسفة ليست كلاما علي العالم, بل هي كلام علي( كلامنا نحن عن العالم), إلي جانب ما يراه الفلاسفة التحليليون الذين أخذوا يدعون إلي ما يعرف بالصفاء الفلسفي, والذي يعني في منظورهم ليس فقط تحييد الفلسفة في جميع الشؤون السياسية والاجتماعية والأخلاقية, بل تحييدها أيضا بالنسبة للشؤون الفلسفية ذاتها. هذا في الغرب, وتساءل الدكتور ضاهر وهل يختلف وضع الفلسفة عندنا؟ يجيب قاطعا بالنفي, ويري أن جوابه جاء مبنيا علي مسح عام للقضايا التي تستأثر باهتمام المشتغلين بالفلسفة عندنا, والتي لا تختلف حسب قوله عن القضايا التي تثار اليوم في الفلسفة الغربية. وفي تصوري إن الإشكالية في هذا الموقف, لا ترجع إلي الفلاسفة الغربيين بقدر ما ترجع إلي المشتغلين بالفلسفة عندنا, لا ترجع إلي الفلاسفة الغربيين باعتبار أن هؤلاء حين جردوا الفلسفة من وظيفتها النقدية اجتماعيا وسياسيا, حصل هذا الأمر في ظل وجود أنظمة ومؤسسات وتشريعات وقوانين قادرة وفاعلة في تأمين الحياة الكريمة للإنسان هناك, بخلاف واقع الحال في المجال العربي, الذي يفتقد إلي مثل هذه النظم والمؤسسات والتشريعات والقوانين, وهذا يعني أنه إذا كان يحق للفلاسفة الغربيين تجريد الفلسفة من وظيفتها النقدية والاجتماعية, فإنه لا يحق للفلاسفة عندنا تجريد الفلسفة من هذا الدور, ومن هذه الوظيفة. لمزيد من مقالات د. زكى الميلاد