اشتباك مثير ومهم حدث الأسبوع الماضى بين حركة (التوحيد والإصلاح) وحزب (العدالة والتنمية) فى المغرب، وذلك على خلفية حضور(عوفير برنشتاين) للجلسة الافتتاحية للمؤتمر العام السابع.. والذى كان مستشارا سابقا لإسحق رابين.. ويعرف عنه أنه من مناصرى الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس ويحمل جواز سفر فلسطينى من السلطة الفلسطينية.. خالد مشعل رئيس المكتب السياسى لحركة حماس كان حاضرا أيضا. حركة التوحيد والإصلاح رأت أن ذلك تطبيعا واختراقا صهيونيا كان ينبغى أن تنتبه إليه قيادات الحزب المعروف عنها مواقفها الثابتة من رفض التطبيع.. وأصدرت بيانا تتهم فيه الحزب بالتطبيع مع الكيان الصهيونى. من يعرف مكونات المشهد السياسى فى المغرب يجد نفسه مضطرا للسؤال عن موقف حزب العدالة والتنمية وهو بلا شك مثير للاستفهام على الرغم من البيان الذى أصدره الحزب يصف فيه (برنشتاين) بأوصاف مفيدة للقضية الفلسطينية. وهو بخطوته هذه يفتح أفقا جديدا فى مجال الجهاد والنضال من أجل الحق العربى فى فلسطين.. كثيرون يرون ذلك خطوة جيدة للأمام فى اتجاه تطوير وسائل الصراع العربى - الإسرائيلى فى فلسطين.. وكان الدكتور المسيرى من أنصار هذه الخطوة إذ كان يرى ضرورة التعاون مع الشخصيات اليهودية الداعية للسلام وكان يفتح زاوية الرؤية إلى أبعد من ذلك بضرورة تأسيس لجان للدفاع عن حقوق اليهود فى أنحاء العالم وكان يرى أن العداء لليهود هو الوجه الآخر للصهيونية ومن يفعل ذلك يخدم الصهيونية من حيث لا يدرى.. نحن هنا أمام موقف (سياسى) بالثلاثة.. يقلب المشهد تماما أمام الآلة الإعلامية الغربية التى تصورنا كأعداء لليهود لا لشىء إلا لكونهم يهودا.. لكن كى يتحقق ذلك يحتاج الأمر إلى وقت.. ووعى غير الوعى.. ورجال غير الرجال.. الموقف المبدأى الثابت لحركة التوحيد والإصلاح هو أيضا موقف (دعوى) بالثلاثة.. تجاه قضية شغلت نصف عمر الحركة الإسلامية إن لم يكن كل عمرها. والقضية الفلسطينية فى حقيقة الأمر لم تأخذ بعدها الشعبى الكبير إلا من خلال الإسلام.. الأداء المزرى للحركات الفلسطينية اليسارية كان تخبطا عشوائيا خارج التاريخ.. وبالتالى كان ينتظر لها الفشل، هذا إذا أحسنّا بها الظنون وتصورنا أنها كانت فى الأصل حركات نضال حقيقى ولم تكن حركات (ارتزاق). وبالمناسبة.. أنا من كوكبة (أقصى المدينة) الذين يرون فى (الإسلام) زاد الوجود الإنسانى كله وأن أى حركة إصلاحية خارج المدار الإسلامى ما هى إلا خلل كبير فى معرفة الحقائق وضبتها وتوازنها.. يضيع فيه العمر الزمنى والفكرى ضياعا ضيوعا.. والعاقل من اتعظ بنفسه والسعيد من اتعظ بغيره وللموضوع آلاف الشجون. دعونا نتأمل موقف حركة التوحيد والإصلاح ونسأل: هل كان فيه مسارعة متعجلة أما كان الأمر قابلا لترحيله إلى دائرة (المسكوت عنه)؟ خاصة أن خالد مشعل كان حاضرا.. ليس مطلوبا من المهندس محمد الحمداوى (أمين حركة التوحيد والإصلاح) وإخوانه استقبال برنشتاين والترحيب به وهو الأمر الذى يعكس صلابة الموقف الدعوى الثابت.. كما أنه لم يكن مطلوبا التعريض بموقف حزب العدالة والتنمية.. وليسير فى طريقه بين إصابة وخطأ واستدراك وتصويب طالما أن الأمر فى نطاق (النوافل السياسية).. والموقف الأخير فى طبيعيته من نافلة النوافل.. لا يفوتنا أن نذكر أن رأس الدبلوماسية المغربية الدكتور سعد الدين العثمانى كان الأمين العام السابق لحزب (العدالة والتنمية) وهو الطبيب النفسى والمفكر العميق والسياسى الراسخ الرأس والقدم.. والدكتور سعد الدين _ على فكرة _ ممن يمارسون السياسة بوعى معرفى كبير.. وثقافته الشرعية لا تقل عن ثقافته التاريخية والفكرية.. والمفترض أنه من جيل السبعينيات.. وهذا الجيل فى المغرب وتونس يتميز فيه أبناء الحركة الإسلامية بالوعى المعرفى والدراية السياسية مع تراكم التجربة والخبرة.. فطبيعى أن ترى منهم هذا الأداء المميز.. الأمر فى مصر كان بعيدا عن ذلك _ للأسف _ فأغلب جيل السبعينيات يعتمد على قليل من (الخبرة اليومية المضافة) مع كثير من (الوعى التنظيمى المحكم).. ثم دخل (المال) كعنصر متحرك.. لكنى أطالع فى الأجيال اللاحقة روحا جديدة ومختلفة اختلافا تاما.. حين أراهم أقرأ فى عيونهم ميلاد النهار. هم فقط ينتظرون أن يخلى لهم جيل السبعينيات المشهد.. ذلك الجيل الذى تأثر كثيرا بالسادات فى (ثقافته) وبمبارك فى (إدارته).. لا أقصد بذلك وصفهم (بالسطحية والاستبداد).. لكنهم فى كل الأحوال فرطوا كثيرا فى الاستعداد الجيد لتحمل المسئولية.. لم يدركوا أن (المعرفة قوة) ولم ينتبهوا كثيرا إلى ضرورة الإعداد (من قوة).. قد يطول الوقت بهم فى المشهد لكنه فى نهاية الأمر لن يصح إلا الصحيح. وقد تورق الأغصان بعد ذبولها * ويبدو ضياء البدر فى ظلمة الوهن. فى مصر أرى أن التجربة مقبلة على تطور نوعى مهم للغاية.. ولعل موقف السيد الرئيس فى الاستقلال التام _ الذى كان مفاجأه للجميع _ سيشكل دفعة قوية لحزب (الحرية والعدالة) فى الانطلاق إلى غايته بعيدا عن سيطرة (الأعيان والكبراء).. الذين حذرنا منهم الأستاذ البنا.. وسيكون لنا فى ذلك حديثا مطولا. لعل الموضوع يدفعنا جميعا إلى الغوص عميقا فى تجربة (الخمس سنوات) الأخيرة للأستاذ الشهيد من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى استشهاده.. وعن استخلاصات التجربة عبر عقدين (28-1948م) وعن مقابلاته للمفكرين والمثقفين الذين دعاهم صراحة لمشاركته (حمله الثقيل).. وعن تأثره بتجربة الجمعية (الفابية) بإنجلترا فى تجربتها مع (حزب العمال) حين أصبحت تمثل (الهيئة الأيديولوجية) له.. وكيف استطاعوا هزيمة تشرشل فى انتخابات 1945م بعد تحوله إلى أسطورة سياسية. لكن ذلك لم يتحقق ولم يهتم تلاميذه الاهتمام الكافى بتلك (الأفكار الحية) كما أنهم صدموا بموته صدمة ذاهلة.. وتطورت الأمور إلى ما نحن فيه الآن. هل نسأل مع محمود درويش (لوعدت يوما إلى ما كان.. هل أجد الشىء الذى كان والشىء الذى سيكون؟؟) سامح الله أصدقاءنا وإخواننا الأعزاء فى المغرب.. فقد فتحوا علينا جرحا قديما جديدا.