تميز تاريخ الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي Golden Age of Islam بنوع من التوازن بين علوم( الشريعة) و علوم (الطبيعة) ..فإذا كان هناك "أبو حنيفة" و "مالك" و "الشافعي" و" أحمد" و "البخاري" و غيرهم ..فهناك أيضا "الجاحظ" و "الحسن ابن الهيثم" و "هبة الله ابن ملكا البغدادي" و "البيروني" و "ابن سينا" ..و غيرهم من علماء الطب و الطبيعة و الفلك و الرياضيات ، و على أكتاف هؤلاء جميعا قامت واحدة من أعظم و أرقى الحضارات التي عرفتها البشرية . وقد ظل هذا التوازن قائما إلى (حد كبير) حتى سقوط الخلافة العباسية على أيدي التتار و انهيار المؤسسات العلمية الكبرى و على رأسها بيت الحكمة في بغداد . و منذ ذلك الوقت حدث( انحراف) كبير بين المسارين ..مسار علوم الطبيعة و مسار علوم الشريعة ..حيث طغت الدراسات العقدية و الفقهية و اللغوية على العلوم الطبيعية في الوقت الذي قامت فيه أوروبا بترجمة الكتب العلمية العربية وأعادت صياغة ما بها من معارف و علوم بطريقة رياضية حديثة و أضافت إليها أيضا وطورت محتوياتها العلمية من خلال التجارب و الدراسات التي قام بها جيل من العلماء المنشقين على العلوم الكنسية و اللاهوتية .. فحدثت تلك الطفرة التكنولوجية الهائلة و التي كان من نتيجتها أن استيقظ علماء (الفقه و الشريعة) ذات يوم على أصوات (مدافع بونابرت) مع قدوم الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 ميلادية ! و لم ينته الأمر عند ذلك الفارق (التكنولوجي) بين العالم العربي و العالم الغربي .. و احتلال العالم العربي ونهب ثرواته ..بل تجاوز إلى ما هو أخطر و هو عملية احتلال علمي و سطو حضاري على المنجز العربي .. فتمت سرقة الأفكار العلمية الكبرى و النظريات العلمية العربية و نسبتها إلى علماء غربيين مثل جاليليو و كوبرنيكوس و نيوتن. فنظريات مثل ( الجاذبية ) و (قوانين الحركة الشهيرة) (و التطور )مبثوثة في كتب العلماء العرب قبل أن يعرفها الغربيون بقرون . و على الرغم من مرور أكثر من قرنين من الزمان على تلك الصدمة الحضارية الموجعة .. فلم يزل العالم العربي والإسلامي يقبع في غيبوبة حضارية و تكنولوجية طالت كثيرا .و أتصور أن غياب التوازن بين المسارين العلمي التجريبي والشرعي ما زال قائما على الرغم من عشرات الآلاف من الخريجين في مجالات العلوم التطبيقية الذين (تقذف ) بهم الجامعات العربية كل عام . ومازالت حالة الغيبوبة الحضارية و التكنولوجية تسيطر على المشهد العربي نتيجة لتجاهل الإعلام للمنجز الحضاري العربي في عصره الذهبي حتى تصورت الأجيال الجديدة أن التخلف التكنولوجي هو سمة من سمات الشخصية العربية ..فأصبح نموذج " محمد رمضان " ( الأسطورة ) هو المثل الذي ينبغي أن يحتذى . ويبدو أن كثيرا من الأنظمة العربية (تشعر بارتياح) أمام تراجع القيم الأخلاقية و العلمية و استفحال ظاهرة السطحية و التفاهة المسيطرة على الأجيال الجديدة ..فلا توجد إرادة حقيقية أو رغبة في تحديث العقل العربي و إعادة ترتيب سلم أولوياته كي يصبح فاعلا و مساهما في التطور التكنولوجي العالمي . لقد تحول العالم العربي إلى بقع مظلمة من التخلف و الجهل و الفوضى السياسية .. ولا سبيل للخروج من تلك الحالة العبثية إلا بإعادة الاعتبار للمسار العلمي و التكنولوجي من خلال الاهتمام الإعلامي و الفني و التعليمي بالمنجز الحضاري العربي لكي تتولد في الشخصية العربية روح التحدي و الشعور بالمسئولية (العلمية ) كي يحترمنا هذا العالم الذي لا يعرف سوى لغة العلم و القوة .