حين يحاصرنا الحاضر اللئيم بما ننكره ونكرهه ونرفضه سيكون علينا اذن ان نلوذ الى الماضى النبيل نستروح روحه وأفكاره وأيامه عساها تكون عزاء عساها تكون منارا عساها تكون دليلا.فالناس هم الناس والوطن هو الوطن والدين هو الدين ..ما هذا الذى حل علينا فى ليلة ظلامها أحلك سوادا من السواد نفسه .؟ اما القسيس فهو القسيس مرقص سيرجيوس(1882-1964) وأما المنبر فهو الأزهر الشريف مربط فؤاد المصريين وملاذ دينهم ودنياهم .. الذى تنبح حوله الأن وحول علمائه الإجلاء كلاب الشوارع الضالة بغرض اقصاؤه من أى تأثير فى الشأن العام للوطن والدولة والمجتمع..لم يكتفوا (كلبا كلبا )بما فعله الانجليز عام 1913 من سحب إشرافه على المساجد والمنابر لصالح وزارة جديدة(الأوقاف)ولم يكتفوا(كلبا كلبا) بما فعله الضباط الأحرار فى 1961 م من تجريده من كل عوامل قوته واستقلاليته .. لا يذكر التاريخ تأريخا عن ثورة 1919 إلا ويذكر أحد أهم معالم تلك الثورة من أن عالم دين مسيحى اعتلى منبر الأزهر فى سابقة تحدث للمرة الأولى فى تاريخ مصر والأزهر ليخطب فى جموع المصريين معلنًا أنه مصري أولاً ومصري ثانيًا ومصري ثالثًا وأن الوطن لا يعرف مسلمًا ولا قبطيًا..بل يعرف فقط مجاهدين دون تمييز بين عمامة بيضاء وعمامة سوداء..وإذا كان الإنجليز يتمسكون بوجودهم في مصر بحجة حماية الأقباط فليمت الأقباط ويحيا المسلمون أحرارا..وتذكر له ايضا جملته البليغة إنني لن أكف عن النضال ضدكم إلى أن تتحرر بلادي من وجودكم. ..وليحيا الانجليز لأنهم استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجاجتهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة. ولد القمص سرجيوس بجرجا سنة 1882م والتحق بالمدرسة الإكليركية وتخرج في 1903 وتم رسامته كاهنًا عام 1904 على ملوي ثم الفيوم والزقازيق وفي عام 1907 عمل وكيلاً لمطرانية أسيوط حتى 1912 ثم أرسله البطريرك ليصبح وكيلاً لمطرانية الخرطوم وفي السودان بدأ كفاحه ضد الإنجليز. فأصدر هناك مجلةالمنارالمرقسية في 1912 (على نسق منار رشيد رضا)التي تدعو لوحدة المسيحيين والمسلمين في كفاحهم ضد المحتل الذي سيأمر بترحيله من السودان ليغادرها في 1915 متجهًا لمصر ولينخرط فى صفوف الحركة الوطنية حتى يكون دوره الأكبر فيى ثورة 1919 ليكون خطيبها الأول كما وصفه سعد زغلول. ومما يذكر له أنه عندما اعتقلته السلطات الإنجليزية في رفح 80 يوما هو والشيخ مصطفى القاياتى(1879-1927) الذى كان ينبه دائما بقوله إلي: أولوية التكوين الوطنى للجماعة المصرية على الاستقلال السياسي ..وإلى أن التفرقة الدينية أكثر خطرا من الاحتلال ذاته .. وكان يرى فى الشراكة الوطنية بين المصريين على اختلافهم ركنا أساسيا من أركان النهوض الوطني. ينسجم فيها الدين مع الوطنية وتتسق فيها الوطنية مع الدين كما ذكر الحكيم البشرى فى كتابه الاروع( المسلمون والاقباط فى اطار الجماعة الوطنية...أثناء رحلة ال80 يوما فى المنفى هذه أرسل القمص سيرجيوس خطابا للمندوب السامي البريطاني صمؤيل هور(أو هور بن الطور كما كان يسميه المصريون) قال فيه كانت الفرمانات العثمانية إذا القس أرتكب ما يستوجب السجن فليسجن بالبطريركية واذا كان هذا ما منحه الأتراك للأقباط فهل تعتقل دولة الإنجليز رجال الدين المسيحيين؟!. سنذكر له أيضا موقفه الكبير في الاجتماع الذى عقد بالبطريركية عقب تولي يوسف وهبة باشا الوزارة فى نوفمبر 1919..وطالبه ضمن آخرين في برقية برفض المنصب احتراما للوطن المقدس..وقد اصدر وقتهاعدد كبير من الأقباط بيان احتجاج على وزارة وهبة باشا هذه بعنوان بيان إلى الأمة المصرية جاء فيه :علمنا أن صاحب المعالى يوسف وهبة باشا قد قبل فى الظروف القاسية العصيبة التى تجتازها الأمة أن يقوم بتشكيل الوزارة بعد البلاغ الرسمى الأخير الذى تضمن تمسك الإنجليز بالحماية على مصر وحيث إنه لا يمكن تفسير هذا القول إلا بقبول الحماية والعمل تحت لوائها ومعاونة لجنة ملنر فى تقرير مصير البلاد وحيث إنه يُخشى أن يعتبر الإنجليز الذين يسعون جهدهم لتشويه حركتنا الوطنية ووحدتنا القومية قبول الرجل لهذا المنصب بمثابة إرضاء أقباط مصر أو فريق منهم فى وزارته.. فالأقباط يرون أنفسهم مضطرين إلى أن يتقدموا بصفتهم أقباطا لإظهار شعورهم حيال هذا الحادث لذلك هم يعلنون براءتهم من كل رجل أو هيئة تقبل الحماية أو تساعد على تعضيدها فلكل هذه الأسباب يعلن الموقعون على هذا اشتراكهم مع سائر طبقات الأمة المصرية فى الاحتجاج على تشكيل الوزارة الجديدة) . من أشهر الأسماء التى سنرى توقيعها على البيان القمص مرقص سرجيوس وسامى أخنوخ فانوس أحد من قامت على أكتافهم الجامعة المصرية..ووليم مكرم عبيد الذى سيصبح الابن الروحى لسعد زغلول والذى سيعلن فى احتفال عام تخليه عن اسم (ويليام) كى يصبح اسمه مكرم عبيد مصرى الدلالة بالمعنى الكامل .. وفى ديسمبر 1919 تنشرالصحف نبأ محاولة اغتيال رئيس الوزارء يوسف وهبه ويكون الفاعل شاب وطنى من أقباط مصر(عريان يوسف )طالب الطب وكان عنده 19 سنة وقتها ..ونجا رئيس الوزراء الذى أدانه أقباط مصر قبل مسلميها وسرعان ما سقطت وزارته ومضى ليكتب عنه التاريخ هذا الموقف المشين لنفسه اولا وثانيا بعد قبوله الوزارة رغم أنف أبناء الوطن وضد وحدته فاستحق ازدراء الجميع .. سنقرأ فى كتاب الحكيم البشرى (المسلمون والأقباط فى إطار الجماعة الوطنية )أروع وأقوى ما كتب فى هذا المعنى فى كل الأوقات .. من أن القمص سرجيوس تعود على الكتابة فى صحيفة الوطن المتعصبة وكان كثير التباكى على ما آل إليه وضع الأقباط منذ القرن السابع الميلادى(دخول الاسلام مصر)ولكن الثورة تصهر وعيه بلهيبها وتحوله من النقيض إلى النقيض فإذا به مع الشيخين مصطفى القاياتى ومحمود أبوالعيون من أخطب من عرفتهم المنابر والكنائس حضا على جهاد الإنجليز وعملا على توثيق عرى الترابط بين المصريين ولذلك وقف على منبر الأزهر ليقول جملته الشهيرة التى ذكرناها سابقا : إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم فى مصر بحجة حماية القبط فأقول ليمت القبط وليحيا المسلمون أحرارا يقول الحكيم البشرى معلقا على هذه العبارة ..أنهاتحمل أبلغ تعبير عن رفض ما يسمى بالحماية الإنجليزية للأقلية وعن الثقة بترابط المصريين جميعا تقول الحكاية أيضا عن رفض الأقباط القاطع ما ذكر فى اللجنة العامة المشكلة لوضع دستور سنة 1923 لأن يتضمن الدستور أي نص علي تمثيل نسبي في البرلمان وفي سنة 1922 يعقد اجتماع كبير في الكنيسة البطرسية ويقرر المجتمعون بالاجماع رفض الاقتراح وأرسلوا برقيات بذلك إلي جميع المسئولين بالدولة كما ذكر زاهر رياض فى كتابه(المسيحيون والقومية المصرية) تقول الحكاية ايضا انه فى عام 1910 قام شاب مسلم من شباب الحزب الوطنى المتحمس باغتيال بطرس باشا غالى رئيس الوزراء لأدواره المشبوهة فى اتفاقية السودان وحادثة دنشواى ومحاولة تمديد امتياز قناة السويس مدة أربعين سنة لصالح الإنجليز ووقتها روج البعض أن عملية الاغتيال كانت بدافع دينى وأن بطرس غالى لم يُقتل إلا لأنه قبطى وراحت الصحف القبطية وعلى رأسها صحيفتا مصر والوطن تلهب نار الفتنة وتنشر صحيفة مصر سيلاً من البرقيات بعنوان(قلق الأقباط العظيم) تطالبهم فيها بما يجب عليهم فعله فى هذا الظرف العصيب وتدعو للالتجاء لدولة قوية لتكون عضداً لهم وتم الدعوة لعقد مؤتمر عام للأقباط يوم 4 مارس عام 1911 لمناقشة ما آلت إليه أحوالهم وقد أحس البابا كيرلس الخامس(رائد التعليم فى الكنيسة المصرية) بخطورة الأمر إيماناً منه بأن مؤتمرا للأقباط سيفرز مؤتمرا للمسلمين وهكذا..وأيده فى موقفه هذا عقلاء الأمة ومثقفوها .. ....... كل عام واهل مصر كلهم بخير..كل عام وأقباط مصر فى عيون مصر ..رغم الآلام والأحزان والأوجاع .. لقد ترك لنا السيد المسيح سيرة رائعة عظيمة من أروع وأعظم ما فيها تلك المغفرة التى لا حدود لها وذاك الحب الذى لا نهاية له.. ومن لم يعرف المحبة لايعرف الله كما جاء فى انجيل متى