تعرضنا في المقالين السابقين لبعض ما وجدناه من خلل في منهج الدكتور الهلالي وها نحن نستكمل بعض ما في منهجه من خلل. سادسًا: كيف يرجح العامي بين الفتاوى؟
من المعلوم أن العامي لا مذهب له، وإنما مذهبه مذهب من يفتيه. ويراد بالعامي: من لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام، والقدرة على الموازنة بينها، ومعرفة قويها من ضعيفها. فهذا ليس له مذهب، لأن اختيار مذهب يعني ترجيح أصوله على أصول غيره.
وهذا لا يقدر عليه إلا العالم المتمكن الذي بلغ درجة النظر والترجيح. وأما من عداه فهو العامي الذي قالوا: إن مذهبه مذهب من يفتيه من العلماء، فكلما عرضت له قضية يجهل حكمها سأل عنها أي عالم من علماء الشرع المعتبرين، فأفتاه بحكمها وفق اجتهاده إن كان مجتهدا، أو وفق مذهبه إن كان مقلدا، فعلى السائل أن يأخذ بفتواه ويتبعه فيما أجابه فيه، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل:43]، وقال الرسول الكريم في شأن قوم: "هلا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال".
وإذا نشأ المسلم العامي في بلد وجد كل علمائه يتبعون مذهبًا معينًا، كمذهب مالك في بلاد المغرب العربي: ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا والسودان وغرب إفريقيا، وكمذهب أبي حنيفة في بلاد الترك والبالقان والهند وباكستان وبنجلادش وأفغانستان، ومذهب الشافعي في شرق إفريقيا وماليزيا وإندونيسيا ومذهب أحمد في الخليج، فلا مانع أن يتبع المذهب السائد في بلده؛ لأنه في الواقع يتبع علماء البلدة، وهذا مذهبهم.
ولكن يجب عليه ألا يتعصب لمذهبه، ولا ينتقص المذاهب الأخرى، وإذا ظهر له ضعف مذهبه، ووهن أدلته في مسألة من المسائل، وقوة مذهب آخر، فعليه أن يدع مذهبه في هذه المسألة الضعيفة الدليل، ويتبع المذهب القوي والراجح. فالمسلم الحق أسير الدليل يتبعه حيثما كان. وإذا كانت الأدلة متكافئة يرجِّح الإنسان الأيسر, وخصوصا عند الحاجة، فقد يُفتى بالرأي الأيسر لشدة الحاجة إليه, ولعموم البلوى.
قال الطوفي: (إن استوى المجتهدان عند المستفتي في الفضيلة، واختلفا عليه في الجواب، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: يتبع أيهما شاء مخيرا لعدم المرجح. الثاني: يأخذ بأشد القولين، لأن الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي، كما يروى في الأثر. وفي الحكمة: إذا ترددت بين أمرين، فاجتنب أقربهما من هواك... الثالث: يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة، كقوله - عز وجل -:{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]، وقوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: لا ضرر ولا ضرار، وقوله - عليه السلام -: بعثت بالحنيفية السمحة السهلة) [شرح مختصر الروضة (3/669)].
سابعا: حديث (استفت نفسك):
ودائما ما يذكر د. الهلالي: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس". وهو من أحاديث الأربعين النووي، وقد قال المناوي: "استفت نفسك": المطمئنة الموهوبة نورا يفرق بين الحق والباطل والصدق والكذب)[في فيض القدير (1/495)].
وقال الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه (8/117) : (وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس" فذلك في الواقعة التي تتعارض فيها الشُّبه والرِّيَب، قال الغزالي: واستفتاء القلب إنما هو حيث أباح الشيء، أما حيث حرم فيجب الامتناع، ثم لا يعول على كل قلب، فرب موسوس ينفي كل شيء، ورب مساهل نظر إلى كل شيء، فلا اعتبار بهذين القلبين، وإنما الاعتبار بقلب العالِم الموفَّق المراقب لدقائق الأحوال، فهو المحكُّ الذي تُمتحن به حقائق الصُّوَر، وما أعزَّ هذا القلب!".
ثامنًا: هل المفتي وصيٌّ على المستفتي؟
ودائما ما يدندن الدكتور الهلالي بأن المفتي الذي يرجح رأيا، يكون قد نصب نفسه وصيا على دين المستفتي!! وهذا الكلام لم يقل به أحد في القديم والحديت، بل دأب المفتين أن يرجِّحوا رأيًا على رأي لقوة أدلته، فرأي المفتي ليس حقًّا في حد ذاته، إلا بمقدار ما اعتمد عليه من الأدلة الصحيحة.
قال محمد بن رشد: (قوله (أي مالك): لم تكن فتيا الناس أن يقال هذا حلال وهذا حرام. معناه فيما يرون باجتهادهم أنه حلال أو حرام، إذ قد يخالفهم غيرهم من العلماء في اجتهادهم. فإذا قال المجتهد فيما يراه باجتهاده حلالا أو حراما: إنه حلال أو حرام. أوهم السامع بأنه حلال أو حرام عند الجميع، فيحتاج أن يقيد قوله بأن يقول: هو حلال عندي أو حرام عندي. وهذا على القول بأن كل مجتهد مصيب للحق عند الله في حق اجتهاده. وأما على مذهب من يرى أن الحق في واحد، وأن المجتهد قد يخطئه وقد يصيبه، فلا يصح له أن يقول فيما يؤديه إليه اجتهاده من تحليل أو تحريم: هذا حلال أو حرام بحال. إذ لا يدري على مذهبه لعله عند الله بخلاف ما قاله، فالصواب أن يقول: أرى هذا مباحا، أو أراه محظورا فيما تعبدني الله به في خاصة نفسي، وأن أفتي به. وإن علم أن السائل يكتفي منه بأن يقول له فيما يرى أنه لا يحل له: أكره هذا، ولم أكن لأصنع هذا، ويكف بذاك عن استباحة ذلك الشيء، ساغ له أن يقتصر على ذلك القول فيه، وبالله التوفيق) [البيان والتحصيل (18/339)].
وفي الختام نلخص ما ذكرناه في المقالات الثلاث من نقاط: المفتي خبير في علوم الشريعة، وليس وصيا ولا كاهنا، هل يجوز عرض المسألة على العامة دون ترجيح؟ عدم جواز العمل بالأقوال من غير نظر في الترجيح، تتبع زلات العلماء، العمل بالقول الضعيف، كيف يرجح العامي بين الفتاوى، حديث: (استفت نفسك)، هل المفتي وصيٌّ على المستفتي؟
وبيان عوار هذا المنهج وأنه خلاف إجماع الأمة، وأن أصحاب هذا المنهج جعلوا من الإسلام دين بلا شريعة.
وقد رددت على الدكتور الهلالي في فتوى عن الأضحية بينت فيها أن الرأي الذي قال به من جواز الأضحية بديك، أنه رأي ضعيف، بل شاذ.
واللهّ أسأل أن يغفر لنا وله ويلهمنا الرشد والصواب.