هذا المقال ليس على النقاب وإن بدا كذلك، وإنما هو على شىء أهم وأخطر: معاركنا- ولكل أمة معارك- متى وكيف نخوضها؟ من المدهش أن الشيخ محمد الغزالى خاض معارك تبدو- فى المنظور الضيق- متناقضة، ولكنها متناسقة فى المنظور الواسع الكبير. الغزالى الذى وقف- مع أستاذه أبى زهرة- كأسدين هصورين فى عصر عبدالناصر لتأكيد الهوية الإسلامية لمصر ووجوب الحجاب الشرعى هو نفسه الغزالى الذى خاض أتون معركة أشد مع مروجى النقاب. معركة يعرف العالمون ببواطن الأمور مبلغ ضراوتها، لكنه برغم الحزن، وظروفه الشخصية المؤلمة بعد وفاة رفيقة الدرب، خاض معركته الأخيرة فى سبيل الفهم الصحيح للدين. حينما اعتبر الغزالى ارتداء النقاب قضاء مبرما على الدعوة الإسلامية بأوروبا لم يكن حاضرا ليشهد ما يحدث فى أوروبا الآن. كل الحكاية أنه- مثل أى إنسان مخلص- كان يرى بنور الله. علامة الإنسان العظيم أن يترك لنا علامات تبقى بعد رحيله، فنارا للسفن التائهة. وعلامة المفكر العظيم أن يرى النهايات من نذر البدايات، ولا يحوجنا أن نكتوى بالنار كى نعرف خاصية الإحراق. وعلامة الفقيه العظيم أن يزن بميزان الذهب الفارق بين الحقيقى والمزيف، فلا يستنفد طاقتنا فى معارك غير ضرورية، فإذا حان الجد خضنا معاركنا الحقيقية بعقل حاضر وقلب جسور. حينما حذر الغزالى من ارتداء النقاب بأوروبا لم يكن النواب البلجيكيون قد صوتوا ضد النقاب، ولم تكن فرنسا قد منعته، ولم تكن الشرطة الفرنسية قد غرّمت امرأة مسلمة لقيادتها سيارتها بالنقاب. ولم تكن صحفية فرنسية قد ارتدت النقاب لمدة 5 أيام وانطلقت فى شوارع باريس لتكتب تجربتها الشخصية وتقول إنه غير عملى، ويدفع للانغلاق. ما كان أغنانا عن هذا كله لو أصغينا للغزالى حين قال إن الأوروبيين يعرفون ملابس الفضيلة فى أزياء الراهبات القريبة إلى الحجاب الشرعى، أما إخفاء الأيدى فى القفازات والوجه وراء النقب وجعل المرأة شبحا معزولا عن الدنيا فذلك ما لم يأمر به الدين. والنقاب فى نهاية الأمر رأى لم تجنح إليه كثرة الفقهاء والمفسرين والمحدثين. حينما ثار رجل فى وجهه معتبرا رأيه خطأ قال الغزالى بهدوء: «لست وحدى الملوم، فإن كبار المفسرين سبقونى إلى هذا الخطأ، كما سبقنى إليه رواة عشرة من الأحاديث الصحاح، وشاركنى فى خطئى أيضا أئمة المذاهب الأربعة. قال الرجل فى دهشة: ماذا تقول؟ أهؤلاء جميعا يفتون بأن وجه المرأة وصوتها ليسا بعورة؟ قلت: نعم! ولكنكم تؤثرون التقاليد السائدة وتتشبثون بآراء غير ثابتة» مكتوب على الحقيقة أن تقع بين النقيضين: الإفراط والتفريط، ومكتوب على حراس الحقيقة أن يخوضوا المعركتين: معركة مع المتنصلين من الدين تحت دعوى التمدين، ومعركة أشد مع مروجى الفهم الضيق للدين تحت دعوى المحافظة. وكان الغزالى فارس المعركتين.