رحل يوم 11 مارس 2010عن عالمنا وحياتنا الثقافية والأكاديمية العربية واحد من أبرع من أنجبتهم مصر فى القرن العشرين.. رحل الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا قبل أيام رحلته الأبدية بعد أن عاش عمرا مديداً، وهو يثرى مجتمعنا بكل ما هو مفيد وضرورى لتأسيس مستقبلنا وبناء الأجيال القادمة.. إننى بالوقت الذى أكتب تأبينى له، لا يسعنى إلا أن أتقدم بعميق الحزن والأسى إلى عائلته الكريمة، وإلى كل من عرفه من المثقفين وزملائه الأساتذة معبراً لهم عن صدق العواطف لفقد رجل نحن بأمس الحاجة إليه اليوم.. فى مثل هذه الظروف العصيبة التى تمر بها مجتمعاتنا، وما تتعرض له من عصف وتراجع وانسحاقات.. لقد كان فؤاد زكريا، صوتا مدويا ضد التخلف والتقاليد البالية والأفكار المعتوهة.. وضد كل القادة الذين ليس لهم إلا الثرثرة وقمع الحريات.. دعونى اليوم قرائى الأعزاء أكتب شيئاً أزعم أنه من الأهمية بمكان أن يقال بحق أستاذنا فؤاد زكريا، وقد ضمنتها عنه فصلة دراسية فى كتابى الموسوم: «نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية» قبل قرابة عشر سنوات. * سيرة مختزلة عن حياته وإنتاجه ولد فؤاد بمدينة بورت سعيد فى ديسمبر 1927 ، ودرس فيها، ثم أكمل دراسته فى قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة 1949 ، ثم نال الماجستير 1952 وحصل على الدكتوراه عام 1956 فى الفلسفة بجامعة عين شمس، عمل أستاذاً رئيساً لقسم الفلسفة بجامعة عين شمس حتى 1974 ، عمل أستاذاً للفسلفة ورئيساً لقسمها فى جامعة الكويت (1974-1991)، ترأس تحرير مجلتى «الفكر المعاصر»، و«تراث الإنسانية» فى مصر. عمل مستشاراً لشئون الثقافة والعلوم الإنسانية فى اللجنة الوطنية لليونسكو بالقاهرة وتولى منصب مستشار تحرير سلسلة عالم المعرفة الكويتية. نشر عدة كتب مهمة عن نيتشه 1956 ، وعن نظرية المعرفة والموقف الطبيعى للإنسان، 1962 ، وعن اسبينوزا، وكتاب «الإنسان والحضارة»، وكتاب «آراء نقدية فى مشكلات الفكر والثقافة» عام 1975 ، وكتاب «التفكير العلمى» 1978 ، وكتاب «خطاب إلى العقل العربى» 1978 ، وكتاب «كم عمر الغضب: هيكل وأزمة العقل العربى» 1984 ، وكتاب «الحقيقة والوهم فى الحركة الإسلامية المعاصرة» 1986 وكتاب «الصحوة الإسلامية فى ميزان العقل» 1987 وكتاب «آفاق الفسلفة» 1988 ، وكتاب «الثقافة العربية وأزمة الخليج» 1991 ، ولقد قام بترجمة عدة كتب منها: كتاب ب. موى: المنطق وفلسفة العلوم «جزآن» 1962 ، وكتاب «ر. متس: الفلسفة الإنجليزية فى مائة عام» 1963 ، وكتاب «ه.رايشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية»، وكتاب «تاسوعيات أفلوطين» 1970 وكتاب «ه.ماركيز: العقل والثورة» 1970 ، وكتاب «أرنولد هاوزر: الفن والمجتمع عبر التاريخ (جزآن)» 1973 ، وأخيراً كتاب «براتراند رسل: حكمة الغرب»، سلسلة عالم المعرفة، وللرجل جملة كبيرة من المقالات والدراسات المنشورة فى أكثر من مكان.. ولم يقتصر فى معالجاته على الفلسفة، قديمة أم حديثة، بل راح يناضل ضد التخلف، وينتقد بجرأة وقوة كل الذين انتهكوا حياتنا الثقافية، ومزقوا نسيجنا السياسى، وبعثروا تفكيرنا وقيمنا.. وقادوا مجتمعاتنا إلى المخيال الجمعى الطوباوى تحت مسميات دينية أو تحزبات أيديولوجية. * فؤاد زكريا: آخر العنقود يعد الأستاذ الراحل فؤاد زكريا آخر سلسلة رجالات المعرفة العربية الذين أثروا حياتنا وثقافتنا العربية على امتداد النصف الثانى من القرن العشرين.. ولقد عاش الرجل جملة من التحديات السياسية والفكررية والأيديولوجية طوال نصف قرن مضى، أى منذ تخرجه بشهادة عليا عام 1956 وحتى رحيله 2010 ، لكنه لم يكن صامتا على تمرير الأخطاء، ولم يكن مراوغا فى التخلص من مواجهة الحقائق، ولم يكن أكاديميا جامدا على قوالبه.. بل سعى بحيوية ونشاط ليلجم كل الطوباويين الذين يعيشون حياتهم على الأوهام، ويدعو إلى بناء تفكير علمى لا تنازل عنه أبدا.. بل ولا حق مشخصاً أزمة كل من الثقافة والإعلام العربيين برده الشجاع على محمد حسنين هيكل فى كتاب سماه «كم عمر الغضب»، وفيه يوضح أن هيكل يجسد أزمة الثقافة العربية اليوم.. بل إن زكريا قد تخطى الانتقاد، ونجح فى تفكيك نمط لا أخلاقى فى التفكير المتشكل على الفوبيا والأكذوبة، وكان فؤاد زكريا يرى أنه خطر جدا على ثقافتنا العربية المعاصرة! * رجل الفلسفة والمعرفة إن لغة فؤاد زكريا سهلة وميسرة ومشوقة وقريبة للفهم، وهو يعالج أخطر القضايا التى نعيشها منذ ثلاثين سنة.. لقد كان الرجل راصدا ماهرا لعدة ظواهر تبلورت فى زمن يمثل البلادة والغباء، إذ يمثله أناس دعاة وكذبة ومارقون ومنافقون.. وكان محللا بارعا، وشارحا معللا للأسباب والمسببات.. فهو ينطلق من رؤية محددة وواضحة سماها ب«التفكير العلمى» إنها الرؤية التى آمن بها، ونجح فى إبراز ملامحها وتثبيت أسسها ومرتكزاتها وأساليبها المعتمدة وميادينها الحيوية التى يتحرك فى خضمها.. مرورا بأطوارها المهمة التى ينبغى التعرف عليها، ووصولا إلى فاعليتها ومقدرة نضجها وحل إشكالياتها.. لقد أراد فؤاد زكريا، وبمصداقية تبدو عنده أكبر من عند غيره أن يحمل كل الناس فى مجتمعاتنا تفكيرا علميا، ليس فى تفسير الظواهر الكبيرة، بل فى معالجة كل الجزئيات من أجل انتشال تلك المجتمعات من حضيض الجهل والخرافة، ولم يقل فؤاد زكريا أن التفكير العلمى ينحصر بالضرورة عند العلماء، ذلك إن الأخيرين يفكرون فى مشكلات متخصصة للغاية لا يمكن للآخرين الخوض فيها نظرا لرموزها واصطلاحاتها.. ولكن التفكير العلمى هو تنظيم العقل، وقدرته على الإجابة عن جملة أسئلة، باستطاعة الإنسان إن نجح فى نظام أفكاره أن يجيب عنها... إنها أسئلة يفرضها واقع اليوم الذى يزداد تعقيدا مع مرور الزمن.. وتتضمن مثلا مجريات حياتنا اليومية وأعمالنا المهنية وعلاقاتنا الاجتماعية وأساليبنا السياسية وإعلامياتنا الحقيقية.. أى باختصار: كيف نتعامل مع محيطنا، إن التفكير العلمى ينبغى أن يكون منظما، ويبنى على أسس ومبادئ يتم تطبيقها كل لحظة وتغدو منغرسة فى الوعى الباطن من دون أن يشعرنا أحد بذلك.. وهنا تلتقى إرادة الناس طواعية من أجل تغيير العقل السائد! إن التوصل إلى حقائق الأشياء لا يتم أبداً بأية وسائل بديلة غير العقل الذى يصقله التفكير العلمى. * رجل المواجهات الصعبة لقد استخدم فؤاد زكريا أدوات العقل فى كل معاركه التى خاضها بشجاعة منقطعة النظير.. وأنه لم يعر أى أهمية لكل الذين طعنوا فيه وهاجموه واتهموه بشتى التهم.. كان مناضلا حقيقيا ضد أولئك الأقزام الذين شتموه على المنابر، وضد صانع الأكاذيب ومفبركات التضليل الإعلامى، وضد المستبدين والجهلة الذين يسيطرون على أجهزة الإعلام ويتسلطون على أعمدة الثقافة الهشة! كان ناقدا ومحاربا أى خطاب يحجب الحقائق ويشوه الوقائع ويزور السير والأخبار.. كان ضد أى خطاب يقف بالضد من تقدم الحياة وتمدنها.. دعا إلى العلمانية وقال بفصل الدين عن السلطة والعمل السياسى ووقف ضد الخطاب الدينى وتلقى ضراوة كل من الغزالى والشعراوى والقرضاوى وغيرهم.. ناهيكم عن معارك أخرى خاضها ضد اليمين واليسار من كل التيارات.. لقد انتقد حكم عبدالناصر وانتقد السادات أيام حكمه، لكنه عاد ودافع عنه ضد محمد حسنين هيكل الذى اعتبره ظاهرة خطيرة فى ثقافتنا العربية! ووقف ضد فواجع العقل على أيدى الإسلاميين، كما انتقد اليسار لوحده أيام كان اليسار قويا. * هل استوعبنا درس فؤاد زكريا؟ لقد نجح فؤاد زكريا فى أن ينزل الفلسفة من أقفاصها العاجية إلى حيث الميادين العامة، وأعتقد أنه كان يتابع حركات الفلاسفة الجدد فى فرنسا، ويتعلم من خطواتهم الحثيثة وتطبيقها فى دولة الكويت ودوره فى إنجازاتها الثقافية الكثيرة، مترجما ومؤلفا من نوع خاص.. لم ألتق بالرجل أبداً، ولكن كنت كالآخرين أتابع خطواته الرائعة وأفكاره الجريئة ومعاركه القاسية.. فضلا عن حواراته الممتعة ومعالجاته النقدية لمشكلات الفكر والثقافة والحياة. لقد رحل فؤاد زكريا، والتحق بركب الراحلين من الأساتذة العرب المتميزين من جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية.. رحل بعد أن أشعل شموعا وضاءة تنير الطريق للأجيال القادمة، وتعلمهم كيف نخوض المعارك بالمنطق والحجج العلمية وبالأدلة والبراهين القوية الدامغة.. وسواء اقتربنا من الأشخاص أو من الأفكار، فينبغى أن تكون الحرية ويكون العقل من الأسس التى لا يمكن أن نتنازل عنها أبدا إزاء كل المشعوذين والكذابين والدجالين.. إزاء كل المستبدين والطغاة.. إزاء كل الطوباويين والشعاراتيين والمؤدلجين.. علينا بالعقل وبالتفكير العلمى أداة لحل كل المشكلات، وأن العقل لا يعمل بحرية أبداً إن لم يجد الإنسان الذى بإمكانه أن يحركه بكل أمانة وعلم وحيادية وموضوعية كى يتم تغيير العالم، فهل استوعبنا درس الراحل الكبير فؤاد زكريا؟.