قد أكون واحدا, من أبناء جيلي المحظوظين, الذي قدر له أن يتعلم, يقرأ ويقترب ويناقش أسماء لامعة وأساتذة كبارا في مختلف أفرع العلوم الإنسانية, ففي أوائل السبعينيات وعندما كنت طالبا في كلية الآداب جامعة القاهرة, لم يكن بعض أبناء جيلي وأنا معهم. يحصر اهتماماته علي ما يدرسه في تخصصه أو كليته الجامعية وكان البعض منا يتابع باهتمام شديد محاضرات وندوات أساتذة كبار في كثير من الكليات الجامعية, أو نقرأ كتبهم وأبحاثهم ومقالاتهم المنشورة في الصحف والمجلات, ونذهب لنناقشهم, ونستمع إليهم, ونختلف باحترام شديد مع بعضهم, وكان صدر وعقل أساتذتنا يتسعان لكل ما نقوله ويديرون حوارا ونقاشا معنا, ويدعوننا لحضور محاضراتهم, كنا نذهب للدكتور عبد الملك عودة أستاذ العلوم السياسية في كلية الاقتصاد, ونتابع عن قرب محاضرات ليست لنا للدكتور محمد انيس المؤرخ المعروف وأستاذ التاريخ في كلية الآداب, ونستمع بشغف إلي ما يقوله الدكتور عبد المنعم تليمة في الأدب. ونناقش أفكار الدكتور محمود إسماعيل أستاذ التاريخ الإسلامي عن الحركات السرية, وننتقل إلي مبني الحقوق لنستمع إلي ما يقوله الدكتور عاطف البنا والدكتور محمود السقا في القانون. وكان الدكتور فؤاد زكريا, أستاذنا في السنة الأولي يحاضر لنا مبادئ الفلسفة, ومع ذلك كنا نحرص علي متابعة محاضراته في الصفوف الأخري وخاصة لقسم الفلسفة, الذي لم نلتحق به. اقتربنا من أستاذنا الكبير, الذي أدرك من الوهلة الأولي طبيعة حديثنا واستخدامنا لمفردات كشفت عن توجهنا الفكري والسياسي, وعرف الرجل أننا ممن ينتمون لأحد التيارات اليسارية التي كانت تموج داخل الأوساط الطلابية وفي الجامعات المصرية في السبعينيات. لم يحاول الأستاذ مهاجمة تلاميذه أو الاعتراض علي ما يفعلونه, أو تسفيه ما يقولونه, وبعد أن رحب بنا كشباب في هذا العمر يقرأ, ويتابع, ويكتب مجلات الحائط, وينظم معارض مكتوبة ومصورة لدعم كفاح الشعوب, ويتظاهر من أجل تحرير الأرض والديقراطية, ابتسم الأستاذ بهدوئه المعتاد قائلا: كل هذا جميل, لكن عليكم, الابتعاد عن الرؤية الحادة, لا تحاصروا فكركم بمقولات ثابتة وجامدة, لا تقبلوا بالمسلمات, اجعلوا منهجكم الحقيقي هو نقد الأشياء والحقائق, باختصار حرروا عقلكم ودعوه يفكر. وبعد هذا اللقاء أصبحت محاضرات ودراسات ومقالات أستاذنا د. فؤاد زكريا, أحد مصادرنا الثقافية وأحد ركائز فكرنا, تذكرت هذا اللقاء الأول, ومقدار تأثيره علي طريقة تفكيري, عندما جاءني النبأ الأليم برحيل المفكر والفيلسوف والأستاذ المعلم الدكتور فؤاد زكريا, الذي غاب عن دنيانا منذ أيام قليلة بعد أن تعرض لأزمة صحية اضطرته للغياب عن الساحة الفكرية خلال السنوات الخمس الماضية, وهي سنوات حاولت فيها أن ألتقي به, وأرتب معه, ملفا خاصا عن حياته وفكره وإسهامه الثقافي والفلسفي لنشره في مجلة الهلال أثناء رئاستي لتحريرها, أو إجراء سلسلة من الحوارات في مجلة أكتوبر, الذي أتشرف برئاسة تحريرها الآن, ولكن حال مرضه دون تحقيق ذلك, ورحل الرجل عن دنيانا في صمت كعادة العلماء والفلاسفة. في ديسمبر عام1927, ولد د. فؤاد زكريا في مدينتي بورسعيد, وتخرج في كلية الآداب عام1949, وحصل علي الماجستير في عام1952, وعلي الدكتوراه بعد أربع سنوات من جامعة عين شمس, عمل أستاذا للفلسفة فيها, وحاضر لطلاب جامعة القاهرة, ثم انتقل للعمل في جامعة الكويت, ولم يشغله عمله الأكاديمي من ترأس تحرير مجلتي الفكر المعاصر, وتراث الانسانية والمساهمة في دعم سلسلة إصدارات عالم المعرفة الثقافية, كمستشار لها. تركزت أفكاره ورؤيته وكل كتاباته علي إبراز قيمة العقل الإنساني, والتفكير العلمي, وامتلك قدرة فذة علي التحليل والفهم بلغة بسيطة بعيدة عن التعقيد, وكتب وترجم عشرات الكتب أبرزها نيتشة ونظرية المعرفة, والإنسان والحضارة, ومشكلات الفكر والثقافة, وجمهورية أفلاطون, والتفكير العلمي, وخطاب إلي العقل العربي, والحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية, والصحوة الإسلامية في ميزان العقل, ثم آفاق الفلسفة, والثقافة العربية وأزمة الخليج. ومنذ اشتغاله بالفكر والفلسفة والثقافة كانت رسالته الوحيدة بل همه الوحيد هو إحياء العقل النقدي, واستقلال فكر الإنسان وعدم خضوعه لسلطة تحد أو تمنع انطلاقه في النقد والتفكير بحرية, ودائما ما كان يدعو لتأسيس ثقافة مصرية وعربية جديدة تهدف إلي تحديث المجتمع, بفهم جديد للواقع والتصدي لمصادرة حق النقد والتفكير والإبداع, مع تحرير العقل المصري والعربي من التعصب وإلغاء الآخر, مع عدم الالتزام بالأيدلوجيات والعقائد والمسلمات الفكرية, والرؤية الحادة التي تحاصر الفكر والتفكير, بمقولات ثابتة وجامدة, مع التمسك بالتفكير العلمي والمعرفة والتسلح بالنظرة العلمية في الأسلوب والتخطيط والعمل, باعتبار ذلك من ضروريات النهضة الحضارية, ودائما ما كان يحذر في كتاباته من ازدواجية الفكر والوقوع في أسر الجمود والحنين إلي الماضي, وفي أحد حواراته, أشار إلي أهمية بناء العقول وإعادة تشكيلها, ولكنه أوضح أن ذلك لا يمكن ان يتم بقرار, بل بصناعة محيط ثقافي يسهم في خلق ثقافة تحترم العقل وحرية التفكير, والإرادة الحرة. وفي رؤية فلسفية لا تخلو من المعاني العميقة, يقول إن هناك فرقا بين معرفة الطريق الذي سنسير فيه, والطريق الذي يجب أن نتجنبه أو نبتعد عنه, وعلينا أن نعرف الفرق أولا, ثم نختار أي طريق نسلك. لقد وهب د. فؤاد زكريا كل حياته لهدف واحد نبيل هو عقل الإنسان, وحقه في التفكير بحرية وبإرادة مستقلة وظل مشروعه الثقافي والفكري ينطلق من أهمية احترام عقل الإنسان وتحريره من كل قيود مع حقه في النقد والرفض الحر لكل القوالب والمسلمات التي تنتقل عبر أجيال دون محاولات لغربلتها ومعرفة أصولها وحقيقتها, وكأنه بذلك قد وضع يده علي مكمن الداء الذي أصاب العقل العربي والذي يحتاج إلي أن يقرأ جيدا ما قاله وكتبه د. فؤاد زكريا هذا الفيلسوف الذي رحل في صمت بعد أن صرخ أكثر من مرة في البرية مطالبا بتحرير عقولنا, وأعتقد أننا في أشد الحاجة الآن لسماع صرخاته.