تشكيل باريس سان جيرمان لمواجهة نيس في الدوري الفرنسي    وزارة النقل تنعى الدكتور هشام عرفات وزير النقل السابق    الحكومة تكشف تفاصيل جديدة عن وصول 14 مليار دولار من أموال صفقة رأس الحكمة    وكلاء وزارة الرياضة يطالبون بزيادة مخصصات دعم مراكز الشباب    بعد تشغيل محطات جديدة.. رئيس هيئة الأنفاق يكشف أسعار تذاكر المترو - فيديو    أبومازن: اجتياح قوات الاحتلال رفح الفلسطينية كارثة يدفع ثمنها الأبرياء    وزارة النقل تنعى هشام عرفات: ساهم في تنفيذ العديد من المشروعات المهمة    مخاطر الإنترنت العميق، ندوة تثقيفية لكلية الدعوة الإسلامية بحضور قيادات الأزهر    صحفي يحرج جوارديولا ويسأله عن رد فعله لحظة انفراد سون بمرمى مانشستر سيتي    رئيس المعاهد الأزهرية يتفقد بيت شباب 15 مايو لاستقبال طلاب ثانوية غزة    المشدد 7 سنوات لمتهم بهتك عرض طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة بكفر الشيخ    «جوزي الجديد أهو».. أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على ظهورها بفستان زفاف (تفاصيل)    طاقم عمل A MAD MAX SAGA في العرض العالمي بمهرجان كان (فيديو)    «الشعب الجمهوري» يهنئ «القاهرة الإخبارية» لفوزها بجائزة التميز الإعلامي العربي    أمير عيد يكشف ل«الوطن» تفاصيل بطولته لمسلسل «دواعي السفر» (فيديو)    هل الحج بالتقسيط حلال؟.. «دار الإفتاء» توضح    أمين الفتوى يحسم الجدل حول سفر المرأة للحج بدون محرم    خالد الجندي: ربنا أمرنا بطاعة الوالدين فى كل الأحوال عدا الشرك بالله    رئيس جامعة المنصورة يناقش خطة عمل القافلة المتكاملة لحلايب وشلاتين    يكفلها الدستور ويضمنها القضاء.. الحقوق القانونية والجنائية لذوي الإعاقة    "الزراعة" و"البترول" يتابعان المشروعات التنموية المشتركة في وادي فيران    الكويت تطالب المجتمع الدولي بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي للامتثال إلى قرارات الشرعية الدولية    محافظ مطروح: ندعم جهود نقابة الأطباء لتطوير منظومة الصحة    زياد السيسي يكشف كواليس تتويجه بذهبية الجائزة الكبرى لسلاح السيف    بث مباشر مباراة بيراميدز وسيراميكا بالدوري المصري لحظة بلحظة | التشكيل    رغم تصدر ال"السرب".. "شقو" يقترب من 70 مليون جنية إيرادات    جامعة قناة السويس ضمن أفضل 400 جامعة دولياً في تصنيف تايمز    الطاهري: القضية الفلسطينية حاضرة في القمة العربية بعدما حصدت زخما بالأمم المتحدة    إصابة 4 مواطنين في مشاجرة بين عائلتين بالفيوم    رجال أعمال الإسكندرية تتفق مع وزارة الهجرة على إقامة شراكة لمواجهة الهجرة غير الشرعية    مدعومة من إحدى الدول.. الأردن يعلن إحباط محاولة تهريب أسلحة من ميليشيات للمملكة    الزراعة: زيادة المساحات المخصصة لمحصول القطن ل130 ألف فدان    فرحة وترقب: استعدادات المسلمين لاستقبال عيد الأضحى 2024    إصابة عامل صيانة إثر سقوطه داخل مصعد بالدقهلية    «تضامن النواب» توافق على موازنة مديريات التضامن الاجتماعي وتصدر 7 توصيات    الحكومة توافق على ترميم مسجدي جوهر اللالا ومسجد قانيباي الرماح بالقاهرة    ماذا قال مدير دار نشر السيفير عن مستوى الأبحاث المصرية؟    أبرزها «الأسد» و«الميزان».. 4 أبراج لا تتحمل الوحدة    مفتي الجمهورية من منتدى كايسيد: الإسلام يعظم المشتركات بين الأديان والتعايش السلمي    تحديد نسبة لاستقدام الأطباء الأجانب.. أبرز تعديلات قانون المنشآت الصحية    صور.. كريم قاسم من كواليس تصوير "ولاد رزق 3"    إسرائيل تتحدى العالم بحرب مأساوية في رفح الفلسطينية    أمين الفتوى: الصلاة النورانية لها قوة كبيرة فى زيادة البركة والرزق    الصحة: تقديم الخدمات الطبية ل898 ألف مريض بمستشفيات الحميات    حكم وشروط الأضحية.. الإفتاء توضح: لا بد أن تبلغ سن الذبح    للنهائى الأفريقي فوائد أخرى.. مصطفى شوبير يستهدف المنتخب من بوابة الترجى    قطع الكهرباء عن عدة مناطق بمدينة بنها الجمعة    "النقد الدولي" يوافق على قروض لدعم اقتصاد غينيا بيساو والرأس الأخضر    «الأمن الاقتصادي»: ضبط 13238 قضية سرقة تيار كهربائي ومخالفة لشروط التعاقد    الصحة تشارك في اليوم التثقيفي لأنيميا البحر المتوسط الخامس والعشرين    ضبط 123 قضية مخدرات في حملة بالدقهلية    أحمد مجدي: السيطرة على غرفة خلع ملابس غزل المحلة وراء العودة للممتاز    بعد الصين.. بوتين يزور فيتنام قريبا    تشاهدون اليوم.. نهائي كأس إيطاليا وبيراميدز يستضيف سيراميكا    وزارة العمل: 945 فرصة عمل لمدرسين وممرضات فى 13 محافظة    قيادي ب«حماس»: مصر بذلت جهودا مشكورة في المفاوضات ونخوض حرب تحرير    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في البحث عن مفاتيح للحياة اللائقة
نشر في صباح الخير يوم 26 - 10 - 2010

السكندريون مثلي يتيهون فخرا لما يشاع عن أن كل سكندري إنما يملك فنارا في مشاعره، يلتقط به صورة لكل الكون عبر مرايا الفنار المتحركة دائريا، فيجذب أي ضوء من سفينة حضارة واردة أو شاردة لتلقي قلاع سفنها علي شواطئ هذه المدينة الساحرة.
هذا ما أفكر فيه دائما حين أتذكر أيام محاضرات اثنين من أساتذة الفن والحياة بآداب الإسكندرية، الأول هو الراحل الكريم د.حسن ظاظا أستاذ فلسفة الفن، والثاني -أطال الله عمره - أستاذنا الفاضل د.أحمد أبوزيد مؤسس دراسة علم السلوك الإنساني «الأنثروبولوجيا».
وسأبدأ بتذكر من رحل، أي الدكتور حسن ظاظا، هذا الذي أجزم أن كل من استمع إلي محاضرة واحدة منه في فلسفة الفن، لابد أن يكون قد امتلك قدرة علي الارتفاع إلي نجمة في السماء ليستكشف كيف تغسل الفنون أعماق البشر، سواء أكان ما يراه من فن، هو الأراجوز الذي يدور في الشوارع، أو هو مشاهد لأي أوبرا راقية تزور مسرح سيد درويش في الإسكندرية، أو الوقوف متفرجا في ساحة سيدي المرسي أبوالعباس ليرقب شدو المتصوفين، أو حين يترك كل ذلك لينضم إلي حلبة الرقص القديمة في كازينو «ستانلي» ليجد نفسه في مواجهة انطلاق وحيوية الإيطاليات واليونانيات من بنات الجاليات الأجنبية التي أقامت في المدينة.
وآه من لحظة لقاء سيف وانلي الضخم وبجانبه شقيقه أدهم الضئيل ورؤية راعي الفنون حسين صبحي وهو يعتني بهما، ومعه مخالي صاحب الإيليت هذا الذي لا يكف عن ترديد جملة أثيرة وهي أن العين سكين يمكنها أن تري ما خلف ألوان أي لوحة من عاطفة إنسانية لا حدود لها، وحين أنقل جملته تلك إلي حسن ظاظا أري إشراقة من الضوء تطل علي ملامحه، فهو من يحدثنا دائما عن أهمية البحث في جوهر الموسيقي في أي شيء، لأن الموسيقي هي أم الفنون جميعا ، حتي ولو كان ما سوف نبحث فيه عن تلك الموسيقي هو كلمات الشاعر العامي المزدحم بالتمرد؛ وهو الشاعر أمين قاعود الذي كنا نلتقطه بصعوبة من شوارع العطارين أو من مقاهي المنشية، كي يزورنا في بوفيه كلية الآداب مساء أي خميس ليلقي أشعاره التي تطاول أشعار أحمد فؤاد نجم، ثم نستمع من بعده إلي أشعار شقيقه فؤاد قاعود الرومانسية، ليقوم أستاذنا حسن ظاظا من بعد ذلك بربط كل ما سمعناه بأحداث الحياة اليومية، بداية من اعتقال أهل اليسار إلي كيفية استعداد اليمين العالمي لجر قيادة الكون إلي الخلف، خصوصا أن ساعة التاريخ كانت تشير إلي هيمنة البترول، وكيف لا يتعلم أصحاب الثروة البترولية أهمية أن يكونوا أهل مسئولية عن تطوير الواقع من المحيط إلي الخليج، فأرادوا حبس الثروة في صناديق الذهب وأن يجعلوا عقارب التاريخ تعود إلي الخلف ليصبح الناس نسخا مكررة من أزمنة مضت. ولو أنهم بتلك الثروة استمعوا إلي صوت «سالم» لرسموا لأنفسهم جدارة ألا يكونوا مجرد تكرار لأنماط جديدة من الهنود الحمر.
وإذا سألنا من هو سالم، فلابد لنا من أن نترك كلمات الأستاذ الدكتور حسن ظاظا، لنتعرف علي سالم من خلال الطيب صالح السخي العطاء، فهو من أوضح أن سالم في القبائل هو الذي يقود القوافل عبر دراسته لحركة النجوم، لا لاستكشاف الطالع كما يحترف أهل العبث بمشاعر البشر الذين يدعون معرفة مستقبل البشر بالتنجيم وقراءة الطالع، ولكن سالم هو الذي يعلم القوافل كيف يمكن السير وسط البلاد وما أخلاقيات أهل الأماكن التي يمرون بها؟ وكيف يتصرفون؟ وما الكيفية التي يديرون بها أحوالهم من زواج وعلاقات وصناعات وأعمال.
وهنا سنلتقي بجوهر عم «سالم» في قيادة القبائل، أي أننا نكون وجها لوجه أمام ما علمه إيانا هذا الذي أدعو له بطول العمر والصحة أستاذنا د.أحمد أبوزيد أستاذ الأنثروبولجيا العظيم، هذا الذي درس قواعد علم السلوك الاجتماعي في إنجلترا، وأرجو ألا أكون مخطئا حين أكتب أنه أول من علمنا أهمية رجل اسمه إيفانز برتشارد وترجم كتابه عن «الأنثروبولجيا»، ومازلت أتذكر كيف كنا نذهب مبكرا للنوم مساء الجمعة من كل أسبوع ، لأن محاضرته لطلبة الفلسفة والاجتماع تبدأ في الثامنة تماما، وغير مسموح لطالب أن يدلف متسللا من الباب الخلفي للمدرج ، فضلا عن أن قيمة محاضراته لم تكن ترتبط لدينا بالنجاح أو الرسوب، ولكن بمعرفة فنون التعرف علي أحوال المجتمعات البشرية، وكيف أن مدرسة الأنثروبولجيا الإنجليزية تهتم بالخطوط العريضة لسلوكيات وعادات أي مجتمع، ولكن الأنثروبولوجيا الأمريكية فهي تجمع كل التفاصيل مهما صغرت أو كبرت.
وحين تركت الجامعة بقيت كلمات الرجل هي دليلي الذي أنتقي به ما أحاول به صناعة ترمومتر أقيس به أي مجتمع جديد أزوره، فمن فنون الرسم إلي فنون التمثيل إلي الأمراض النفسية إلي حالات السجون، تلك هي الأمور التي صنعت بها مفاتيح لاستكشاف أي مجتمع أزوره، وظللت بطبيعة الحال أتابع أي بحث أو مقال ينشره هذا الأستاذ الجليل، والذي لا أعلم مدي علاقته بالأستاذ الآخر د.حسن ظاظا، وإن كنت واثقا أنهما اجتمعا علي محاولة تبسيط أفكار مفكر عظيم في مجال الأنثروبولوجيا هو فريزر، حيث ترجم حسن ظاظا كتاب فريزر عن أساطير العهد القديم وقام بتدريسه مع أفكار بني إسرائيل كاملة لرجال الأمن القومي المصري، واقتحم أستاذنا أحمد أبوزيد موسوعة «الغصن الذهبي» لنفس الباحث فريزر ، ولم يصدر منها سوي الجزء الأول، ووعدني الصديق د.جابر عصفور أن يصدر عن المركز القومي للترجمة بقية الأجزاء التي لا أعرف عددها، وإن كانت الموسوعة هي عن السلوك البشري أيضا ، ولم يكن أحمد أبوزيد ليترجمها إلا لعلاقتها بكيفية النظر إلي تاريخ العادات والتقاليد.
---
والذي دفعني إلي كتابة السطور السابقة تلك الدعوة الكريمة التي وصلتني من الأستاذ الدكتور عماد أبوغازي والمهندس حسام نصار لحضور الجلسة العامة لأعضاء المجلس الأعلي للثقافة ليعرضا عليهم مشاريع وخطوط عريضة ستتم مناقشتها خلال جلسات مؤتمر المثقفين القادم.
وهو المؤتمر الذي أتذكر فيه قول أستاذي فتحي غانم «إن الثقافة تسبق السياسة وتقودها، والفن يستكشف آفاق ما مضي ويقتحم أرض اللحظات التي نعيشها؛ ليقرأ ما هو قادم».
وعندما أجد في الكرسي الأول من الصف الأول الأستاذ الدكتور أحمد أبوزيد الذي اقترب من التسعين وجاء من الإسكندرية ليحضر تلك الجلسة، فلابد أن فيها ما يستحق أن ينتقل إليه رغم أنه يتوكأ علي عكازين نتيجة إصابة في واحدة من ساقيه، وعندما قدمت له نفسي أنا الذي لم أره منذ سنوات بعيدة، شد علي يدي قائلا: إنه يسعد بقراءة ما أكتب. وطبعا كان لابد أن يرتجف القلب بالامتنان عندما تخرج مثل هذه الكلمة من فم هذا الذي لم يستطع نظام سياسي مصري إقناعه بالمشاركة في أي عمل من أعمال البروباجندا اللحظية، فهو من تمرس علي تدريب أجيال علي معرفة الواقع، ولعل نقطة التلاقي بينه وبين فاروق حسني أن كليهما يؤمن بضرورة النظر إلي الخريطة المصرية، وإعادة اكتشاف قراءة صحيحة لإمكاناتها، ولقدرات سكانها، ولكيفية تطوير أسلوب الحياة علي تلك الأرض.
ولعل هذا هو ما دفعه إلي الحضور لتلك الجلسة الكثيفة العضوية تمهيدا لمؤتمر المثقفين القادم، وأهم ما يتميز به هذا المؤتمر أنه لا يمثل تيارا سياسيا معينا، ولكنه يضم كل التيارات العلمية الباحثة عن قراءة للواقع ورسم خريطة للمستقبل.
وإذا كنا عبر السنوات السابقة قد أقمنا بنية ثقافية كبيرة، بداية من ترميم الآثار وبناء المتاحف؛ ومرورا بعشرات المئات من الكتب المترجمة، ووصولا إلي معرفة بعض ما نملك من إمكانيات، إذا كنا قد وصلنا إلي تلك البنية الثقافية، فنحن نعلم أيضا أن التطور الاقتصادي الذي سلكناه تجاه العولمة قد أصابنا بكعكة كبيرة من التقدم في أيدي من نسميهم رجال الأعمال، الذين نطالبهم ليل نهار بالمشاركة الجادة في تنمية هذا المجتمع الذي يتسلل العوز إلي طبقته المتوسطة، والذي يرزح تحت وطأة البطالة لتخلف أساليب التعليم عن اللحاق بما يتطلبه الزمن الذي نحياه وما يتطلبه المستقبل من متطلبات، إذا كان هذا هو حال الثروة في مصر، فهناك من يقرأ خريطة الكون الاقتصادية، مثل الأستاذ الدكتور جودة عبدالخالق الذي قدم لنا واحدة من أدق الروايات العلمية التي خرجت من أستاذ اقتصاد أمريكي وهي رواية «إنقاذ آدم سميث» والتي ينقل فيها مؤلفها صرخات آدم سميث أبوالاقتصاد الحر وهو يتهم اقتصاد العولمة بعدم إنسانيته في سحق الضعاف الذين ينتجون. وهناك مثال آخر تمنيت أن يكون معنا وهو وزير الاستثمار محمود محيي الدين الذي سافر إلي مهمته كواحد من مديري البنك الدولي، أما لماذا تمنيت أن يكون معنا، فسبب ذلك أنه منذ قرابة السنوات الخمس أقيمت له ندوة في مجلة المصور، وأعلن فيها أن الحكومة لا يمكن أن تكون مسئولة عن بيجامة حمادة التي تبيعها شركات القطاع العام، وأنه لا توجد سلعة استراتيجية وأخري غير استراتيجية. وكتبت ردا علي كلماته تلك رافضا إياها، وتفضل مشكورا بالحوار معي تليفونيا، وانتهت المكالمة وكل منا واقف في خندقه، إلي أن تم لقاء بيننا في واحد من مناسبات دار الشروق، وأوضحت له أني من أتباع أسلوب عمه زكريا محيي الدين عضو مجلس الثورة وواحد من أبطال صناعة التاريخ المصري، وهو من نغفل إضافاته، لأنه لم يشترك يوما في جعجعة إعلامية عما قام به، وهو من قام علي سبيل المثال بوضع أسس تصنيع مصر فيما قبل الوحدة ما بين مصر وسوريا، واعتمد علي الموارد الذاتية للبلاد دون أن يدخلنا في متاهة الاختيارات التي طفت علي سطح الكون من اشتراكية أو رأسمالية، وآمن أن علي الدولة أن تحتفظ بقوتها لتعيد ترتيب البيت المصري، فالرأسمالية الوطنية لها مكان، لكنه ليس مكان السيادة، والعمال لهم مكان ولكن ليس لهم مكان التقاعس عن الإنتاج، ونشر في المجتمع درجة من الجدية أخافت بقية زملائه، ومنهم من تآمروا عليه كي يعزلوه، حتي استطاعوا ذلك بواسطة عبدالحكيم عامر. ولكن الرجل ترك لنا أجيالا من الاقتصاديين وأهل التخطيط وأصحاب النظرة المستقبلية لهذا الوطن.
وحين قال لي محمود محيي الدين إن الزمن اختلف، لم نكن أنا أو هو نتوقع أن تقع طامة الانهيار الكوني نتيجة عبث رجال البنوك والمضاربات في الولايات المتحدة مما جعل أوباما بذات نفسه يلجأ إلي نفس أسلوب زكريا محيي الدين في تدعيم وحماية الاقتصاد الأمريكي من المضاربات، فقرر أن تتدخل الدولة بحسم ضد العبث باقتصادها. ولم نلتفت نحن هنا إلي ما سبق وقدمناه إلي العالم كي يتبعنا، وإن كنا قد صفقنا لأوباما حين تدخل بقوة الدولة لإعادة الاعتبار إلي الطبقة الوسطي الأمريكية، وكان أوباما في أثناء تصفيقنا له يلقي سعير الاتهامات بأنه اشتراكي متخف، كما أنه مسلم متخف، ولكن الرجل مضي بخطوات في طريق تأكيد سيطرة الدولة، وتذكير الجميع بأن علي رأس المال أن يكون منتجا، لا مضاربا، لأن المضاربة تخصم بعضا من طعام الفقراء ليزداد سفه الأثرياء، أما الإنتاج فيزيد من فرص العمل بما يقلل العوز والفاقة في المجتمع.
وفي فترة الأزمة الاقتصادية العالمية خرج محمود محيي الدين ليعلن أنه لا يوجد مذهب اقتصادي جدير بأن نسير وراءه كالعميان، وكان يقصد الاقتصاد الحر الذي صار مركزا لتلقي اللعنات حاليا في البلد الأول الذي يرعاه وهو الولايات المتحدة. ودخل محمود محيي الدين بقوة في تأكيد تدخل الدولة بحماية المجمعات الاستهلاكية من حالة التدمير التي رغب فيها قصار النظر من التجار والمستوردين، وكأنه فطن أيضا إلي أن مشكلاتنا مع دول حوض النيل جاءت نتيجة ترهل أهل استيراد اللحوم عن المشاركة الواعية في حماية أمن مصر المائي بأن يستوردوا اللحوم من أثيوبيا، وراحوا يستوردونها من الهند، ومنذ تلك الأزمة بدأت أثيوبيا في التململ من كلامنا الطيب معها بينما كان سلوك رجال الأعمال في مجال اللحوم شرسا معها.
---
ومن كل ما تقدم قد يسأل سائل: ما علاقة استيراد اللحم وبيجامة الطفل من محدودي الدخل بالثقافة؟
وأجيب: إن كل سلوك بشري كما علمنا أستاذنا أحمد أبوزيد له علاقة بالثقافة. وحين نوفر لأفراد المجتمع غذاء متوازنا، وعلما يفتح فرص العمل، هنا لن نجد المجتمع في حالة توهان بين طوفان خليجي علي قمة المجتمع، يتمثل في الاستهلاك الأرعن الشديد الوضوح، وطوفان خليجي آخر علي قاع المجتمع يلقي به إلي غياهب النقاب ومشايخ الزوايا الذين يقدمون الدين كعالم ما بعد انتهاء الحياة علي الرغم من أن الحياة لم تنته ، وأن مهمة الدين هي أن يلتفت الإنسان إلي عمارة الكون، وعمارة الكون فعل ثقافي في الأساس يحتاج إلي التدريب علي الحرف، والبيوت والمدن واختيار أساليب الإنتاج في المجتمع. ويحتاج إلي الموسيقي والغناء والمسرح وكل ما يغسل الروح من مرارات الاغتراب.
طوفان الخليج علي قمة المجتمع أنتج لنا _ علي سبيل المثال _ حكاية سوزان تميم وجريمتها التي عبرت إلي الخريطة المصرية من خلال أتباع الوليد بن طلال المشارك في سلسلة فنادق «الفور سيزون» التي يمتلكها مع هشام طلعت مصطفي. والوليد هو من يجمد جزءا من حيوية الأرض الصالحة للزراعة في توشكي، وطوفان الخليج علي قاع المجتمع ووسطه أنتج لنا هذا القبول الشرس لفصل الضمير عن إتقان العمل، بل وادعاء البعض أن كل عمل في هذا المجتمع حرام، والهجرة منه تقتضي دفن المرأة في النقاب، ودفن الرجل في نشر مشاعر اللاجدوي وتحريم كل شيء بداية من التليفزيون إلي الموسيقي إلي زراعة الفرقة الدينية بين أبناء الوطن الواحد، من خلال السيطرة علي الزوايا الصغيرة التي يفتي فيها الجهلة في أمور الدين.
وبطبيعة الحال أقرر أنا كاتب هذه السطور أني لست ضد أهل الخليج، فأنا أحترمهم كإخوة لنا في إطار العروبة، وإن كنت أندهش من سلوك بعض من رجال الأعمال القادمين من هناك مثل الذي اشتري شركة «عمر أفندي» ثم يرغب في بيعها كمحلات وعدم تشغيلها كشركة منتجة كانت تكسب قبل أن يشتريها أربعة ملايين جنيه في العام وتنتشر علي الخريطة المصرية بأكملها.
---
أحيانا أنظر إلي مكتبتي فأري فيها هذا العمل الموسوعي الهائل الذي أصدرته فرنسا بمناسبة دخول البشرية إلي القرن الواحد والعشرين وأرادت فرنسا أن تقدم لمجتمعها وللكون خلاصة ما قدمته القرون السابقة في العلوم، فكانت هناك محاضرة يومية في عام 2000 ألقاها عالم متخصص في فرع ما من فروع العلوم، وفرح بها د.جابر عصفور وقام المشروع القومي للترجمة بإصدارها باللغة العربية، وتوهمت عند صدور أول جزء منها أن بلدنا وجامعاتنا ستقوم ولا تقعد إلا بعد مناقشة ما جاء في كل محاضرة منشورة من تلك المحاضرات التي تتناول كل أمور الحياة بداية من السلوك الاجتماعي إلي آخر ما وصل إليه التطبيق التكنولوجي في مجالات الحياة اليومية. ولكن ذلك لم يحدث.
وفي مكتبتي أري من جديد مؤلفات ديستوفسكي التي قام بترجمتها المغفور له د.سامي الدروبي ونشرها محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس إبان تولي كل منهما للهيئة العامة للكتاب.
وطبعا نفدت تلك الطبعة، وها هي تصدر من جديد بقرار من الأستاذ الدكتور صابر عرب الذي يتولي حاليا إدارة الهيئة العامة للكتاب وكان للصديق حلمي نمنم نائبه حماسا هائلا لإعادة إصدارها، فصدرت في عام واحد، وتوقعت أن أري صفحات النقد تعيد لتلك الروايات جذوة الضوء الصادر منها للتعريف بعمق غابات المشاعر البشرية. ولم أجد شيئا.
فهل هذا الترهل ابن لمجتمع الأزمة الاقتصادية والنفسية التي تمسك بخناق الطبقة الوسطي التي كان لها قيادة المجتمع في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات؟
بل ولابد _ أيضا _ أن أتوقف عند واقعة سرقة لوحة زهرة الخشخاش، تلك الحكاية التي خضعت لنميمة علي سطح المجتمع بشكل يقترب من نميمة نساء الحواري. والأمر العجيب أن البعض قد انتبه إلي اللوحة عندما سرقت، ولم تنتبه وزارة التربية والتعليم خلال سنوات وسنوات إلي ضرورة تنظيم رحلات مدرسية إلي بيوت الفنون الرفيعة مثل متحف محمد محمود خليل أو حتي قصر الأمير طاز الذي كان مجرد خرابة ثم صار تحفة معمارية في قلب قلعة الإخوان المسلمين سابقا وأعني به حي الخليفة، وهو الآن مقصد أغلب الأجانب الذين يزورون مصر أو يقيمون فيها .
ولعل هذا هو ما دفع د.جابر عصفور إلي أن يقول بالصوت العالي في هذا المؤتمر التمهيدي إن علاقة الثقافة بالتربية والتعليم والأوقاف والإعلام هي علاقة وثيقة يجب أن تترابط وأن تتلاقي الرؤي فيها.
---
أعتقد أن مؤتمر الثقافة القادم أمامه مهمة فريدة وأعني بها إعادة ثقة المصري بنفسه وبقدراته وبما يملك من أفكار، حتي ولو كانت أفكارا تبدو خيالية مثل التي أحلم بها شخصيا، فأنا أحلم أن نعهد إلي معهد بحوث البناء وطلاب العمارة بجامعات مصر أن يدرسوا كيفية البناء لبيوت صغيرة في محافظات مصر المختلفة مع دراسة إمكانية البناء بالمواد المحلية، ليكون عندنا متسع لأحلام أجيال لا تتناسل كالفئران، بل تحيا بثقة في النفس في مستقبلها .
أحلم علي سبيل المثال أن يقوم طلبة كليات الهندسة فرع الميكانيكا بالعمل يوميا وبأجر في صيانة ورش هيئات النقل العام، وورش هيئات السكك الحديدية وذلك ليتعلم جيل جديد فنون الصيانة، تلك الفنون التي نهدر كثيرا من الوقت والمال لأننا لا نتقنها.
أحلم _ علي سبيل المثال _ أن يعاد طبع كتاب «عمالقة الأدب» الذي يدرسه في لندن طلبة الطب والهندسة والكليات العملية، وأن يتم تقريره علي طلبة الكليات العملية، فهو الكتاب الذي ترجمه في أوائل الستينيات الأستاذ الدكتور لويس عوض، وكأنه قرأ عجز طلاب الدراسات العلمية عن معرفة المشاعر الإنسانية وقرأ مستقبل ما سوف تفعله جماعات التطرف حين تركز جهودها علي تجنيد أبناء الكليات العملية، لسرقة العقول الشابة اللامعة من جوهر بناء الحياة.
وتلك بعض من أحلامي.
ولعل مثلها هو الذي دفع رجل اقترب من التسعين في قيمة وقامة د.أحمد أبوزيد إلي السفر من الإسكندرية - حيث يقيم - إلي القاهرة ليستجيب إلي دعوة الفنان فاروق حسني ويشارك في رحلة إعادة ثقة المصرين بأنفسهم عبر مؤتمر المثقفين القادم.
هل نستطيع أن نعيد بناء الثقة بأنفسنا من جديد؟ أجزم أننا سوف نستطيع.
وإن لم نستطع فلنكرر مع صلاح عبد الصبور «قد نفشل، ولكن لنا شرف المحاولة»، فالمؤتمر أولا وأخيرا هو رحلة للبحث عن مفاتيح للحياة التي تليق بنا نحن سكان المحروسة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.