لم يستطع الزمن أن يمحو من وجدانى هذا العنوان الذى قرأته قبل سنوات طويلة وإن كنت لا أزال أذكر تفاصيل المقال الرائع الذى كتبه الراحل النبيل أحمد بهاء الدين فى مجلة «صباح الخير».. المقال إجمالا يذكرنى بعبادة الصوم وفلسفة غاندى وسلوك الزهاد فى التقشف، لكنه مازال يصلح لحياتنا الموزعة بين «جوع نفسي» لا يشبع و«نهم استهلاكي» لا تحده حدود، ما بقى فى ذاكرتى من مقال بهاء الدين مفاده أن الحرمان ضرورة لتعليم الطفل الانتظار والحلم، وتعليم الكبار فضيلة الاشتياق والأمل. الحرمان مثل الألم إحساس له إيجابياته، ينبه حواسك ويوقظ أحاسيسك، وهو منحة من الله، تصور حياتك بدون ألم؟ كيف كنت ستدرك لحظة الراحة والاسترخاء؟ الحرمان يجعل للطعام لذة بعد الجوع، وللارتواء متعة بعد العطش! يظن البعض أنه كلما جمع من الدنيا شعر بلذة، وكلما ملأ بطون أولاده بالطعام إلى حد التخمة أبعد عنهم شبح الحرمان، ولا يدرك أنه بذلك يعطل منحة الخيال وروعة الانتظار. مازلت أتذكر زيارتى الأولى لصديقتى (دينا) بعد زواجها، فوجئت بمنزلها ينقصه الكثير والكثير من الأثاث فلا توجد حجرة سفرة ولا صالون، وهذا لا يعود لضيق ذات اليد فهى من الأثرياء، وعندما سألتها عن السبب أجابتنى بمقولة مازلت أتذكرها: لو أهدرت الذكريات كلها مرة واحدة فماذا سيبقى لى مع الزمن؟، أريد لكل قطعة ذكرى وحكاية كلما وقفت عندها وتأملتها أشعر بالامتنان لاقتنائى إياها وأتذكر قصة شرائى لها، لماذا تريدينى أن أنجز المهمة بسرعة؟ الرحلة هى الأهم وليس النهايات. كلماتها مازالت عالقة بذاكرتى تعاودنى كلما ضمتنى جلسة بشابات على وشك الزواج، يردن أن يبدأن من حيث انتهت أمهاتهن، وتصورهن عن عش الزوجية أن يكون كاملاً وتاماً.. كل ركن مشغول بقطعة موبيليا أو إكسسوار، حتى الأنتيكات واللوحات يردن أن يحصلن عليها من البداية، واسأل إحداهن: ماذا ستفعلين طوال حياتك الزوجية وماذا ستضيفين مع الأيام والشهور والسنين؟ اليس الأجمل أن تبقى أجزاء من الشقة خالية، لتعطى نفسك فرصة لتشترى مقعد أعجبك طرازه أو تحفة عثرتى عليها فى مزاد.. وعلى الحائط تعلقى لوحة رسمتيها بعد حضورك دورة لتعلم الرسم، وفى الركن تضعين أباجورة اشتراها زوجك عند عودته من رحلة عمل، وتضيفين لتشكيلة الأوانى النحاسية والفضية فوق منضدة الأنتريه بروازاً لصورة أعجبتك فى وسط البلد. لا أظن أن أكثرهن اقتنع بما قلته، ولكنى على الأقل نجحت فى أن أربى أولادى على أهمية الرحلة والاستمتاع بالمشوار. الحرمان بحساب يعطى الإنسان فرصة للإبداع والخيال، ويصنع ذكريات وقصصاً ونوادر وحكايات نرددها أمام أولادنا، ليعيشوا معنا لحظات لم يكونوا حاضرين فيها.