أزعم أن جيل الستينيات الأدبى، جيل يستحق التحية بجدارة، وهو جيل مختلف عن الأجيال التى سبقته، والأجيال التى لحقته فمعظم أبنائه الذين ساهموا بقسط وافر فى تشكيل ملامحه وقسماته وميزاته، نحتوا فى الصخر فعلا، وعاشوا ظروفا أقل ما نقوله عنها إنها قاسية، بل شبه مستحيلة، ومنهم كثيرون لم يكملوا تعليمهم الجامعى، ورغم ذلك لم يشكل هذا الأمر أى إحباط، ولم يعطل القدرات الكامنة والمخزونة الإبداعية، هذا ينطبق على كتّاب القصة والرواية، ربما الشعراء كانوا أكثر حظا، لكن كتاب القصة عانوا معاناة بالغة، وأكثر هؤلاء الكاتب الكبير السكندرى محمد حافظ رجب، والذى عاش حياة شائكة منذ طفولته، بل منذ أن ولد، ومعظم كتاباته تعكس هذه الحياة بشكل شائك وجدلى.توالت إصدارات رجب فى صمت مهيب ومخجل إنه فيما كتب لم يرد تنميط الحياة وتجميلها، وطرحها على هيئة «حدوتة»، بل تجلت كل التمزقات والخيالات فى قصصه التى نشرها تباعا فى مجموعاته التى بدأها عام 1968 بمجموعة غرباء، ربما تكون هذه المجموعة على وجه الخصوص مختلفة عن المجموعات التالية، فهى تتسم بالبعد الواقعى، ويلتزم فيها رجب بفكرة «الحكاية» المنطقية، والتسلسل التصاعدى للحدوتة، وهناك للقصة بداية ووسط ونهاية، كما كان معهودا فى كتابة القصص من قبل، وهناك أيضا التأثيرات العاطفية الواضحة، والناعمة أو القاسية، مثل قصة البطل التى يبدأها بداية هادئة ناعمة يقول فى الاستهلال: (كان كل شىء داكنا فى ذلك النهار.. فى حارة (مكى) بإمبابة.. الهواء قد استسلم فى إعياء.. فنامت نسماته.. والشمس راحت تتنفس بصعوبة أنفاسا حارة خانقة، محبوسة.. والكلاب استسلمت إلى رقاد متوتر فوق عتبات البيوت وهى تلهث وعيونها تتناوم).. إذن نلاحظ أن العبارة سلسلة، لا تركيب فيها، ولا تعقيد، هادئة تماما، ثم تتوالى الجمل والعبارات والأحداث لتصل رويدا رويدا إلى لحظة فاصلة، وملخص الحكاية أن عبده أفندى ذهب إلى العمل، وعندما وصل تبين له أنه نسى أحد الدوسيهات المهمة فى المنزل، فعاد، فوجد «بدرية» زوجته فى وضع مخل مع عشيقها، فيخرج معها ومع عشيقها إلى الساحة، ثم إلى المركز، وهكذا، حكاية تكاد تكون عادية، لكن البناء الذى شيده رجب يكاد يكون معجزا فعلا، وأظن أن هذه المجموعة «غرباء» تحتاج إلى إعادة اعتبار من النقاد، بل والمجموعات التالية، لأن الانقلاب الذى حدث للكتابة عند محمد حافظ رجب بعد هذه المجموعة لم يكن عبثيا، ولم يكن إلا ضرورة فنية تحتاجها القصة القصيرة فى ذلك الوقت، لكن «الأفندية» النقاد فى ذلك الوقت نظروا إلى كتابة رجب بعين لا تليق به، ولا تليق بها. لكن كيف كانت بداية حافظ رجب؟ فى عدد أكتوبر 1962 من مجلة الهلال، نعثر على اعترافات الكاتب تحت عنوان: (مذكرات بائع لب) يقول فيها: (حبيب إلى كل ما يذكرنى بها.. حبيب إلى كل من يحدثنى عنها.. إنها «محطة الرمل» بالإسكندرية المكان الذى نعيش ذكراه حية دائما بين ناظرى.. فهناك على أحد الأرصفة بجوار سينما «ستراند» بدأت الحياة مع أبى.. وبين عشرات الباعة، الشيخ عبده وعلى الأبيض وحمدى الإنجليزى وحسين الأعمى.. بدأت أخطو خطوات العمر الأولى.. ومن قراطيس اللب الذى كنت أبيعه ومن عشرات المجلات والكتب التى كان يبيعها هؤلاء الأصدقاء، رحت أتلمس البحث عن السطور).. بداية تكاد تكون عجائبية، تقترب من الغرائب، فمن خلال قراطيس اللب، يحصل رجب على زاده من المعرفة، ومن الثقافة، ومن الأدب ويكتشف أن بائع البطاطا يكتب الزجل، والمكوجى يجرب الشعر، ولا شىء يعوق مسيرة القراءة، ويكبر قليلا محمد حافظ رجب فى ظل هذا الجو، وعلى رصيف «محطة الرمل» التى خلدها بأشكال مختلفة فى كتابته، ويكتب عنها قصة فريدة من نوعها تحت عنوان: (حديث بائع مكسور القلب.. مهداة إلى محطة الرمل) ويبدأها ب:(محطة الرمل فى رأسى.. رأسى واسع.. لكن محطة الرمل لا تملؤه: هاوية عميقة، محفورة حديثا وعربات لها عجلات تحمل التراب.. ومعاول تحمل رجالا يشقون بطن المحطة).. هذه القصة منشورة فى مجموعته الثانية: (الكرة ورأس الرجل).. إذن انتعشت حياة رجب على رصيف محطة الرمل، وبدأ يكوّن جماعة أدبية من هؤلاء الباعة، وصل عددهم إلى خمسين عضوا، وأطلق على الجمعية: (رابطة أدباء الإسكندرية).. وهو فى الخامسة عشرة من عمره، وراح يراسل المجلات، خاصة مجلة القصة، وقصص للجميع، وبعد ذلك الرسالة الجديدة و«التحرير».. وكانت المجلات تعتنى بالرد والتعقيب على ما يرسله رجب، مرة بالتعليق الإرشادى، ومرة بتعليق حاد.. ومرة تختلط فى الرد هاتان النبرتان.. كما لاحظنا فى عدد «القصة المنشورة عام 1953.. إذ أرسل رجب قصة تحت عنوان: (المساكين).. واسمحوا لى أن أقتبس فقرة مطولة من التعليق الذى يقول: (عجيب أن يبرر الإنسان لنفسه أساليب يغالط بها واقع الحياة.. فبطل قصتك المجرم الذى دفع به إجرامه إلى حبل المشنقة يحاول أن يرد أسباب إعوجاجه إلى المجتمع والبيئة فيصب عليها غضبه ونفسه.. هل أن مدرسا فى المدرسة كان جادا فى معاملته له فهل معنى هذا أن جميع معلميه كانوا على هذه الحال من القسوة، وإذا كنا نوافقك على هذه الناحية فهل يستطيع القارئ أن يسير معك فى هذا الزعم ليطبقه على حياته الخاصة فى البيت؟!.. وبعد مناقشة طويلة يخلص المعلق إلى: (إننا نرجو أن تكون فى قصتك تعاليم طيبة تعاليم بها أمثال هذا الفتى المعوج لتغرس فى نفوس هؤلاء بذور المحبة والكفاح والصبر فى سبيل المجد والحرية).. هذا أحد التعليقات التى وردت على قصة «المساكين» وأمامى عدد هائل من التعليقات يكفى لكتابة مقال خاص، وظل حافظ يراسل المجلات حتى نجح فى نشر أولى قصصه عام 1955 وهى قصة (الجلباب) فى المجلة ذاتها، فلم ييأس، ولم يفتر حماسه، بل ظل يكتب ويكتب ويراسل، يقول فى اعترافاته: (لكنى كنت عنيدا.. فاستمر قلمى يطرق الأبواب.. إلى أن فوجئت بقصتى «الجلباب» منشورة فى مجلة «القصة».. وأحسست يومها أنى أكاد أرى ضوءا بعيدا ينير الطريق إلى شارع النجاح، وبالفعل راح اسم حافظ رجب يكبر، ويلمع، حتى اهتدى إلى مجموعة كتْاب، وأصدروا كتابا مشتركا تحت عنوان: (عيش وملح، عام 1960، قدمه الكاتب الكبير يحيى حقى، واعتبرهم مدرسة جديدة فى الكتابة.. (فهم لم يغفلوا عن مفهوم القصة باعتبارها فنا له أصوله وقواعده حرصوا عليها ثم لم يغرقوا قصصهم فى الندب والعويل ولطم الخدود وشق الجيوب).. (ومن معالم هذه المدرسة أيضا أنها مع العطف الشديد الذى تبثه فى قلبك على أبطالها فى صراعهم للحياة تثبت فى نفسك الإيمان بالخير وبالمستقبل وبمقدرة الإنسان على النجاة). وفى ذات المجموعة يقدم الكاتب الراحل سيد خميس زميله محمد حافظ رجب.. فيقول: (كانت ظاهرة جديدة، وكان فنانا جديدا، أما الظاهرة الجديدة، فكانت دخول الطبقات الشعبية العريضة إلى ميدان الحياة الثقافية تشارك، وتطور، وتقدم أدبا وفنا نابعين منها.. وأما الفنان الجديد فكان «محمد حفاظ رجب، إنه أحد الأبناء المخلصين الذين قدمتهم هذه الطبقة إلى حياتنا الثقافية ورحلة المعاناة التى قطعها هذا الفنان ليصل إلى التعبير الفنى الناضج).. وبهذه المجموعة يكون رجب دخل الحياة الثقافية من باب واسع، وكان قد ترك الإسكندرية، وحصل على عمل فى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، بعناية يوسف السباعى، فى قسم الأرشيف، وكان حافظ قد حصل على شهادة (الابتدائية)، ولم يتجاوزها.. يكتب فى مذكراته: (عندما حصلت على الابتدائية.. لم يوافق أبى أن يتركنى أستمر فى الدراسة.. وأحسست وقتها أنى أريد أن أصرخ أو أبكى أو أجرى فى الشارع كالمخبول.. أريد أن تطول يداى لتعانق كل الناس وكل البشر وأن أحكى لهم حكايات طويلة محملة بالعذاب والأسى.. وبدأ كل من حولى من الباعة يقولون عنى «مجنون».. بعد الوظيفة بدأت حياة رجب تستقر، وكان قد تزوج منذ سنوات بعيدة، وهو فى السادسة عشرة، وحدثت مأساة فى هذا الزواج تركت أثرا عميقا فى روح كاتبنا، لكن كل هذا لم يستطع إعاقته عن الكتابة، وبدأ ينشر قصصه فى مجلات ذات حضور قوى مثل «الآداب» و«الحرية»، ومجلة المجلة، والقصة، والمساء، ولكن بدأت التحفظات على الكتابة، وبدأت الملاحظات السلبية، لعدم القدرة على استيعاب التدفق الشائك فى القصص، ونلاحظ أن يحيى حقى ينشر له قصة «الأب حانوت» فى عدد مجلة «المجلة» فى نوفمبر 1965، ويضع تعبير «قصة حديثة» مثلما فعل د. عبدالقادر القط فيما بعد فى مجلة «إبداع» عندما كان يرأس تحريرها، فكان يضع القصص والأشعار التى لا يتذوقها تحت باب (تجارب).. ولكن هذه القصة على وجه الخصوص عندما أعيد نشرها فى مجلة جاليرى 68 (أبريل 1969) علق عليها إبراهيم فتحى قائلا: «ويعبر حافظ رجب عن نظرة شاملة غارقة فى المرارة، ولكنها لا تكف عن محاولة اختراق الأسوار، إنه يطعن بقلمه هذا العالم الخاص، ويخرج أحشاءه العفنة، وقلبه الأسود ويقذف به فى الوجوه، وعنده تشف المظاهر المرئية الوديعة وعن ضوارى الأعماق...» وبعد مناقشة طويلة للقصة يقول إبراهيم فتحى: «وتكاد هذه القصة الممتازة توجز موقف كتاب القصة الجدد من شجرة التقاليد الفكرية الراسخة، من جدران الحانوت، ومن الأب بعد أن أصبح حارسا للسجن، تحدث شعارات الحنان الأبوى وأناشيده ويمارس مع ابنه علاقات الاستغلال والخنق).. ويكاد يكون احتفاء إبراهيم فتحى من أشد الكتابات حماسة عن حافظ رجب، إضافة إلى مقال رائع ونبيل كتبه، رفيق عمره وصديقه الكاتب الكبير إبراهيم أصلان، وضمنه كتابه «حلوة الغلبان»، استثنى هذين المقالين، لأن النقاد تعاملوا مع كتابات حافظ رجب باستخفاف، مثل محمود أمين العالم وشكرى عياد وعبدالرحمن أبوعوف، وعلى رأس هؤلاء يحيى حقى الذى علق على قصته (مخلوقات براد الشاى المغلى) ضمن العدد الخاص الذى أصدرته مجلة (المجلة) فى أغسطس 1966. فجاء فى تعليقه: (ولكن مهما يكن الرأى فيه فمن الخير أن نفسح له صدرنا، فلو نبذناه فى محجر صحى فجاث لتعالت صرخاته بأنه قضى شهيدا، ناقص العمر، ينبغى أن نرخى له الحبل لنرى ويرى هو معنا إلى أن يسير فى الأرض أو فى العمر ويكون الفيصل بيننا وبينه فى يده، ولا ظلم، وربما يكون الأصدق فى الحكم عليه هو جيل لم يبزغ بعد.. إذن فيحيى حقى يتعامل معه بصفته كاتبا نشازا، خارج السرب، ولكنه سيترك له مساحة من الحرية ليثبت الزمن ما سوف يؤدى به. توالت إصدارات حافظ رجب فيما بعد فى صمت مهيب، ومخجل، فلم يتناوله أحد لما يليق، بالسلب أو بالإيجاب، وكأنه غير موجود، وآثر الرجل أن يعتزل عزلة شبه تامة، وينزوى فى وظيفة حكومية، ويرتدى عباءة التصوف. وبالطبع كل هذا يورث نوعا من العنف، وبدا هذا فى حوار أجرته معه مجلة الثقافة الجديدة منذ عامين، بعيد مؤتمر القصة، وكانت قد سيرت شائعة قوية بأن جائزة الملتقى ستذهب إليه وتوقعنا جميعا ذلك، ولكننا خذلنا بالفعل، فذهبت الجائزة إلى الكاتب السورى زكريا تامر، وضنّت المؤسسة الرسمية على ابنائها بها.. مثل إبراهيم أصلان أو محمد حافظ رجب الذى لم ينل أى تقدير أو تكريم أو احتفاء.. هل تصحح لجنة القصة، والمؤسسة التى ينتمى إليها هذا الوضع لتعيد إليه الاعتبار، وتضعه فى مكانه اللائق بين أقرانه من جيل الستينيات الذى تحمّل صعوبات جمة، على أية حال هذه تحية إلى الكاتب المغترب فى ميلاده الخامس والسبعين.