استشهاد فلسطيني عقب إطلاق الاحتلال الرصاص على مركبة جنوب نابلس    التوتر مع بكين يتصاعد.. 35 طائرة صينية تخترق أجواء تايوان    وزارة الرياضة تواصل نجاح تجربة التصويت الإلكتروني في الأندية الرياضية    خلال أيام، العالم الهولندي فرانك هوجربيتس يحذر سكان 3 دول من زلزال كبير (فيديو)    محكمة تونسية تؤيد حكم سجن النائبة عبير موسى عامين    بداية تحول حقيقي، تقرير صادم عن سعر الذهب والفضة عام 2026    ولفرهامبتون يحصد النقطة الثالثة من أرض مانشستر يونايتد    قوات التحالف تنشر مشاهد استهداف أسلحة وعربات قتالية في اليمن وتفند بيان الإمارات (فيديو)    طقس رأس السنة.. «الأرصاد» تحذر من هذه الظواهر    «مسار سلام» يجمع شباب المحافظات لنشر ثقافة السلام المجتمعي    محافظ القاهرة: معرض مستلزمات الأسرة مستمر لأسبوع للسيطرة على الأسعار    "25يناير."كابوس السيسي الذي لا ينتهي .. طروحات عن معادلة للتغيير و إعلان مبادئ "الثوري المصري" يستبق ذكرى الثورة    رئيس جامعة قنا يوضح أسباب حصر استقبال الحالات العادية في 3 أيام بالمستشفى الجامعي    د.حماد عبدالله يكتب: نافذة على الضمير !!    المنتجين العرب يعلن دعمه وإشادته بمبادرة الشركة المتحدة للارتقاء بالمحتوى الإعلامي    «قاطعوهم يرحمكم الله».. رئيس تحرير اليوم السابع يدعو لتوسيع مقاطعة «شياطين السوشيال ميديا»    خالد الصاوي: لا يمكن أن أحكم على فيلم الست ولكن ثقتي كبيرة فيهم    المحامى محمد رشوان: هناك بصيص أمل فى قضية رمضان صبحى    مصدر بالزمالك: سداد مستحقات اللاعبين أولوية وليس فتح القيد    شادي محمد: توروب رفض التعاقد مع حامد حمدان    نتائج الجولة 19 من الدوري الإنجليزي الممتاز.. تعادلات مثيرة وسقوط مفاجئ    "البوابة نيوز" ينضم لمبادرة الشركة المتحدة لوقف تغطية مناسبات من يطلق عليهم مشاهير السوشيال ميديا والتيك توكرز    الأمم المتحدة تحذر من أن أفغانستان ستظل من أكبر الأزمات الإنسانية خلال 2026    قيس سعيّد يمدد حالة الطوارئ في تونس حتى نهاية يناير 2026    مانشستر يونايتد يسقط فى فخ التعادل أمام وولفرهامبتون بالدوري الإنجليزي    من موقع الحادث.. هنا عند ترعة المريوطية بدأت الحكاية وانتهت ببطولة    دعم صحفي واسع لمبادرة المتحدة بوقف تغطية مشاهير السوشيال ميديا والتيك توك    نتنياهو يزعم بوجود قضايا لم تنجز بعد في الشرق الأوسط    تموين القاهرة: نتبنى مبادرات لتوفير منتجات عالية الجودة بأسعار مخفضة    التنمية المحلية: تقليص إجراءات طلبات التصالح من 15 إلى 8 خطوات    طرح البرومو الأول للدراما الكورية "In Our Radiant Season" (فيديو)    رضوى الشربيني عن قرار المتحدة بمقاطعة مشاهير اللايفات: انتصار للمجتهدين ضد صناع الضجيج    الخميس.. صالون فضاءات أم الدنيا يناقش «دوائر التيه» للشاعر محمد سلامة زهر    لهذا السبب... إلهام الفضالة تتصدر تريند جوجل    ظهور نادر يحسم الشائعات... دي كابريو وفيتوريا في مشهد حب علني بلوس أنجلوس    بسبب الفكة، هل يتم زيادة أسعار تذاكر المترو؟ رئيس الهيئة يجيب (فيديو)    قرارات حاسمة من تعليم الجيزة لضبط امتحانات الفصل الدراسي الأول    د هاني أبو العلا يكتب: .. وهل المرجو من البعثات العلمية هو تعلم التوقيع بالانجليزية    غدًا.. محاكمة 3 طالبات في الاعتداء على الطالبة كارما داخل مدرسة    حلويات منزلية بسيطة بدون مجهود تناسب احتفالات رأس السنة    أمين البحوث الإسلامية يلتقي نائب محافظ المنوفية لبحث تعزيز التعاون الدعوي والمجتمعي    الحالة «ج» للتأمين توفيق: تواجد ميدانى للقيادات ومتابعة تنفيذ الخطط الأمنية    ملامح الثورة الصحية فى 2026    هل تبطل الصلاة بسبب خطأ فى تشكيل القرآن؟ الشيخ عويضة عثمان يجيب    هل يجب خلع الساعة والخاتم أثناء الوضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة عين شمس تستضيف لجنة منبثقة من قطاع طب الأسنان بالمجلس الأعلى للجامعات    خالد الجندى: القبر محطة من محطات ما بعد الحياة الدنيا    خالد الجندي: القبر مرحلة في الطريق لا نهاية الرحلة    حقيقة تبكير صرف معاشات يناير 2026 بسبب إجازة البنوك    الأهلي يواجه المقاولون العرب.. معركة حاسمة في كأس عاصمة مصر    السيطرة على انفجار خط المياه بطريق النصر بمدينة الشهداء فى المنوفية    رئيس جامعة قناة السويس يهنئ السيسي بالعام الميلادي الجديد    رئيس جامعة العريش يتابع سير امتحانات الفصل الدراسي الأول بمختلف الكليات    الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بالشرقية وإقامة وتطوير المنشآت بأكثر من ملياري جنيه خلال 2025    الزراعة: تحصين 1.35 مليون طائر خلال نوفمبر.. ورفع جاهزية القطعان مع بداية الشتاء    معهد الأورام يستقبل وفدا من هيئة الهلال الأحمر الإماراتي لدعم المرضى    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    نسور قرطاج أمام اختبار لا يقبل الخطأ.. تفاصيل مواجهة تونس وتنزانيا الحاسمة في كأس أمم إفريقيا 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شلبى: خمسة من جيل الستينيات جديرون بنوبل.. ومحفوظ استحقها قبل حصوله عليها
نشر في الشروق الجديد يوم 03 - 12 - 2010

لا يقدر الواحد منا أن يستثنى من وجه عم خيرى ابتسامته، لذا أدهشنى، وأنا أرى الابتسامة عالقة لا تزال، أن أسمع منه كلاما كالذى قاله.
قال لى إنه والأديبين إبراهيم أصلان وعبدالرحمن الأبنودى يبحثون عن مقابر لهم فى القاهرة ولا يجدون. قال أيضا: إنه صار يتمنى الموت لأن الحياة لم تعد مبهجة، والكتابة كذلك فات أوان الابتهاج بها!.
سألته إذا كان لهذا علاقة بالجنازات التترى، التى شهدتها مؤخرا ساحة مصر الثقافية، فوجدته يجاور ما بين رحيل أمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله، ورحيل أسامة أنور عكاشة، وعفيفى مطر، ومحمد صالح، وفاروق عبدالقادر، ونصر أبوزيد، وعبدالسلام العمرى، وكأن جميعهم ماتوا فى عام واحد!.
نعى صاحب «الوتد» كل من سماهم أبناء الجيل الذين «يتساقطون فى لمح البصر وهم لا يزالون فى الريعان»، وكان خيرى شلبى يقصد جيل الستينيات الذى يعتبر أحد أبرز علاماته، ويعتبره هو جيلا استثنائيا يقول
«لقد أثمر هذا الجيل إثمارا ملحوظا، ولا أظن أن جيلا سبقه حظى بكل هذا العدد من المواهب، الروائية والقصصية والشعرية والتشكيلية والموسيقية وشتى نواحى الفن».
«كنا جيلا ذا طبيعة استثنائية» يشير صاحب «ثلاثية الأمالى»، ويوضح قائلا: «فقد ولدنا عقب حرب عالمية، وكانت طفولتنا المبكرة فى مهد حرب عالمية ثانية، وجاءت طفولتنا الثانية فى ظل حرب 1948 التى عانت مصر ويلاتها، ثم ما كدنا نصل مرحلة الصبا حتى داهمتنا حرب 1956وعانيناها، وما كدنا نصل إلى الشباب حتى داهمتنا نكسة 1967، وجند الكثيرون منا فى الجيش، ليبقوا فى الميدان حتى حرب 1973».
يضيف: «كل هذه الحروب كانت فوق أدمغتنا، وكانت النتيجة الساخرة هى أن الذين استفادوا بثمرة هذا الكفاح هم طبقة الانتهازيين، الذين ركبوا على نصر أكتوبر، وأقاموا عصر الانفتاح الذى ديست فيه كل القيم، وأصبح الجادون والشرفاء والموهوبون الحقيقيون خارج السياق وخارج الحياة، لذا أعتبر الكثيرين من جيل الستينيات فعلا شهداء، دفعوا أغلى الأثمان حتى لا يتخلوا عن شرفهم وعن القيمة التى لا يزالون يؤمنون بها إلى اليوم.
●لكنه أيضا الجيل الأكثر جدلية وتحققا وتحقيقا للمكاسب؟
غير صحيح على الإطلاق. فأنا مثلا ما هى المكاسب التى حصلت عليها؟ وما الذى حصل عليه البساطى أو الغيطانى أو صنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان.
أن يكون هناك كاتب مشرف على سلسلة أو عضو فى جهة، ليست مكاسب أبدا، ولا يعنى هذا أنه فى أحضان السلطة، بل على العكس مشرفو سلاسل الهيئات يقومون بواجب تطوعى بالمجان، يكلفهم من الجهد ما لا قبل لهم به.
ثم إن بعضنا لا يزال للآن يسكن بالإيجار، وأنا منذ أشهر وأنا أبحث والأبنودى وإبراهيم أصلان عن مقابر لنا ولا نجد، حتى المقبرة التى سندفن فيها لا نجدها!
● الحديث عن المقابر تهيؤ بشكل أو بآخر للموت ألا تخشاه؟
إطلاقا بل إننى أتمناه، لأن الحياة أصبحت غير مبهجة، حتى الكتابة أصبحت غير مبهجة، لأننا نضجنا حينما انفض السرادق، فأصبحنا كالمطرب الذى أمضى ثلاثة أرباع عمره يتدرب على الغناء، فلما استوت حنجرته وكثر فنه وأصبح مؤهلا للغناء كان الجمهور انصرف من الحفل.
لقد نضجنا فيما الكتاب يتعرض لأزمة، ويكاد يطرد من الحياة أمام التليفزيون وغول الإنترنت البشع الذى سيدمر الإنسانية لا محالة، بعدما يحول الإنسان إلى أرقام، ويفقده ذاكرته ويقضى على ملكاته، إننى شديد التوجس من عصر الديجيتال اللاهث نحو الدمار الشامل، ولهذه الأسباب الكتابة لم يعد لها طعم، وصرنا نكتب بحكم أننا لا نملك إلا الكتابة.
● لكن أجواء كهذه ألا تدفعك لتغيير رأيك بشأن كتابة سيرتك الذاتية أم ستظل تكتفى بتقاطعاتها، كما ذكرت قبل، مع السيرة التى كتبها ماركيز عن نفسه؟
بادئ ذى بدء أنا من أشد المحبين لفن السيرة، أقرأه بشغف، وأبحث عنه فى المكتبات بغض النظر عن صاحب السيرة سواء كان شخصا مهما أو رجلا عاديا، لكن حينما أفكر فى كتابة سيرتى أفاجأ بأن الإنسان لا يملك وحده سيرته الذاتية، وإنما يشاركه فيها أطراف عديدون، بداية من الأب والأم والمحيط الذى عاش فيه، ومدرسيه وجيرانه وأصدقائه وكل من عاشوا معه وتركوا فيه أثرا، كل هؤلاء أطراف لا يجب أن تغفلهم السيرة وإلا تكون كاذبة ومفتئتة على الحقيقة. كما أن أى كاتب سيرةِ لا يستطيع أن يضمن الموضوعية حين يكتب عن ذاته، ولا يستطيع، مهما حاول، أن يتجرد تماما من الأناوية، وسيبقى فى النهاية ظل منها يسيطر على السيرة.
لكن فى نفس الوقت هناك فى حياتى أشياء يجب أن تكتب، ولا تستطيع الرواية أو القصة أن تستوعبها، ومن هنا فقد وصلت إلى قناعة بأن أنتقى الشخصيات التى كان لها تأثير فى حياتى بشكل أو بآخر، وأحاول استجلاءها بقدر ما أستطيع من التجرد والموضوعية، وقد أنجزت بالفعل بعد الفصول، هى ما أنشره حاليا فى الأهرام، عن فترة التكوين، وحينما تنتهى سأجمعها فى كتاب.
●بمناسبة الكتابة عن بعض الشخصيات، ما سر حضورك لأكثر من مرة فى كتابات إبراهيم أصلان وما مدى رضاك عن هذا الحضور؟
هو شىء طبيعى أن يوجد كل منا فى حياة الآخر وواقعه اليومى، لأن ما بيننا من علاقة عمره نصف قرن، وكل منا يعرف دقائق حياة الآخر، وكل منا رأى الآخر فى أشد حالات الضعف والقوة، وتعاطف كل منا وتناحر مع الآخر، فهى علاقة إنسانية وفنية ذات حميمية خاصة، وقد يعترينا الغضب المتبادل بعض الأحيان، لكنه سرعان ما يزول.
لعم خيرى مهارة فى فرز المواهب الأدبية المحيطة به وتصنيفها، بشكل تشعر معه بأنك أمام مؤرخ أو لنقل «شيخ حارة» كتابة. تلمس هذا وهو يشرح كيف تشبه موهبة أحد الكتاب التسعينيين «فِلّة» زجاجة نبيذ سقطت خطأ بداخلها أثناء الفتح، فجعلته لا يقطر من موهبته إلا ما تسمح به هذه «الفلة» التى تعوق السيلان، وموهبة كاتب آخر «ألفينى» ذى كتابة «شكلها حلو» لكنها بلا قيمة غذائية، تماما كحلوى غزل البنات.
●سألته وماذا عن جيلك؟ بالإضافة إليك من من كتاب الستينيات يستحق نوبل بعد نجيب محفوظ؟
فأجاب: بدون ذكر أسماء، هناك خمسة على الأقل من كتاب الستينيات يستحقون نوبل فى الآداب والفنون، لكن نجيب محفوظ كان الأقوى، وكان الأستاذ، وأى عاقل مهما كبر حجمه، يخجل أن يقارن نفسه بمحفوظ الذى كان يستحق نوبل قبل حصوله عليها بثلاثين عاما، هذه الحقيقة حينما أتذكرها أعرف أن حصول الواحد منا على هذه الجائزة لا يزال بعيد المنال، فالأعمال العربية التى تترجم للغات العالمية ليست للقارئ العام، وهى لا تشكل ظاهرة يمكن أن نقول معها إن الأدب العربى أصبح مقروءا فى الغرب.
● الحديث عن الجوائز يأخذنا إلى تشجيعية طارق إمام التى كانت الواقعة الأبرز فى جوائز الدولة هذا العام، ما تعليقك على سحب الجائزة منه؟
طارق إمام من أفضل كتاب جيله وأكثرهم موهبة، كنت أتمنى أن ينال الجائزة، وأصابنى اصطدامه باللائحة بكدر شديد، وأكثر شىء نكّد علىّ طوال هذه السنة وجعلنى غير مبسوط هو أمر طارق، فأنا متحيز له ولكل صاحب موهبة، وحينما أضع يدى على موهبة أكاد أطير بها فرحا، وأحدث عنها كل من ألتقيه، وأنتهز أى فرصة للحث على قراءتها والكتابة عنها، ومن هذا المنطلق كان طارق يستحق الجائزة لولا أنه اصطدم باللائحة، وأنا شخصيا لم أكن أعلم بحصوله على ساويرس.
●لكن أحد أعضاء اللجنة قال إنه نبهك إلى التجاوز القانونى فى هذا؟
كذب فى كذب، لجنة الجائزة بأكملها تتحمل نتيجة اختيار طارق إمام وفوزه، أما مسئولية أنه خالف اللائحة بقصد أو بغير قصد، وأنا موقنٌ أنه بغير قصد، فهذا أمرٌ لا دخل لنا فيه
.
بخلاف أمر هذه الجائزة هل أنت راض عن أداء المؤسسة الثقافية الرسمية؟
لست راضيا عن أى شىء فى البلد، فما معنى أن أتوقف عند وزارة الثقافة؟
ومع ذلك فإنه والعيب هكذا فى كل الجهات تصبح الثقافة أكثر الجهات أمانا، ووجود بعض الفاسدين بها لا يتعدى عشر معشار الموجودين بالمؤسسات الأخرى.
وأود أن أقول إن وجودنا فى بلد يعمه الفساد، يجعلنا فى حاجة إلى التعامل مع العناصر النقية التى تظهر فى أية مؤسسة، لأن دورنا ليس مقاطعة المؤسسات بعنترية خائبة، وجنون نلبسه ثوب النضال.
إن موقفى من وزارة الثقافة شريف جدا، وهى من أنظف الجهات فى مصر، وأستطيع أن أعدد لك شخصيات يمكن أن تشرف بهم البلد، ولأول مرة سأذكر أسماء مثل: جابر عصفور، فوزى فهمى، زاهى حواس، صابر عرب، عبدالمعطى حجازى، صلاح عيسى، وسامح مهران وغيرهم، فضلا عن نخبة المثقفين من أعضاء المجلس الأعلى للثقافة.
لقد ظلمت الوزارة للأسف بوجود نفر قليل من ضعاف النفوس، رغم ذلك أرى أن من وقعوا فى القضايا ليسوا بالضرورة فاسدين، ولا أحب المبادرة بالحكم عليهم أو الموافقة على اتهامهم، بل إننى مستعد أن أتفهم أوضاعهم.
من ناحية أخرى يجب أن يقابل النشاط الذى تقدمه وزارة الثقافة بالشكر، فالسلاسل التى تصدرها وتبيعها بقروش قليلة جهد عظيم، وحتى المهرجانات التى يسخر البعض منها بفجاجة أنا من أشد المعجبين بها، لأن مجرد وجود تجمعات تتردد فيها كلمة الثقافة، أمر نحن أحوج إليه أمام طيور الظلام التى ترفرف على مصر.
● ماذا عن الشعارات فى حياتك؟ وما أطول مدة تمسكت فيها بشعار؟
فى حياتى لم أعرف الشعارات ولم أعترف بها، لأن بها منحى دعائيا وأنا شخص غير دعائى. أنا ظللت أكتب لعشرين عاما دون أن تشغلنى مسألة النشر أو التقدير، أكتب فحسب، وانعزلت لربع قرن فى أماكن قد تبدو غريبة، لكنها أفادتنى فى التركيز، ولولا هذه العزلة ما استطعت أن أكتب مطولات، كثلاثية الأمالى، والشطار، وموال البيات والنوم، ووكالة عطية، وصالح هيصة، ومنامات عم أحمد السماك وصحراء المماليك، وزهر الخشخاش وإسطاسية، إلى آخر الأعمال الطويلة التى كانت تحتاج إلى قراءة فى الواقع والتاريخ.
من يكتب هذه المطولات وهو يعيش براتبه دون دخول مادية أخرى من أى جهة، لا يمكن أن يفكر فى أى مقابل للكتابة.
لقد قدمت التضحية فى سبيل الفن، وفى سبيل أن أكتب شيئا ذا فائدة للناس، وبطبيعة الحال فإن شخصا هذه حياته وهذا وضعه لا يمكن أن يكون مؤمنا بأية شعارات، اللهم اكتب ثم اكتب ثم اكتب.
● وماذا عن النوم؟ يعتقد الكثيرون أن كاتبا بغزارة إنتاجك إما أنه لا ينام أو يكتب وهو نائم؟
لو قرأت «موال البيات والنوم» سترين أن النوم فى حياتى قضية أزلية، سنواتٌ قضيتها فى القاهرة دون بيت ودون أصدقاء قادرين على المعاونة، وكان النوم خلالها محنة ليلية، إلى أن اكتسب جسمى مناعة ضده، فأصبحت قليل النوم بطبيعة الحال، حتى عندما أصبح لدى بيت وزوجة وأولاد، صرت بالطبع أنام لكننى لا أستغرق فى نوم.
أنا بطبيعتى كائن ليلى، لا ينتعش جسمى، ولا تصح عواطفى إلا فى الهزيع الأخير من الليل، وأظل طوال الليل فى مكابدات ومحاسبات للنفس، واسترجاع لما قلته وفعلته طوال هذا اليوم، إلى أن تطمئن نفسى إلى أنها لم تخطئ فى شىء إلا قليلا، فيعود إلى دماغى فأبدأ التفكير.
● والكتابة؟
الكتابة هى آخر شىء أعمل به، أفكر سنة كاملة لأكتب يوما أو يومين، ولا تجيئنى الكتابة إلا بعد معاناة طويلة فى التفكير والمراجعة.
● هذا الكلام سيفاجئ من يتصورون أنك تكتب طوال الوقت..
هذا تصور خاطئ، وغزارة إنتاجى أساسها تنظيم الوقت، لأننى متفرغ 24 ساعة للكتابة، وهو وقت طويل جدا لو نحينا أكذوبة أن «مفيش وقت»، ولم نهدره فى المكالمات التليفونية لساعة أو اثنتين بلا أهمية، فضلا عن الوقت المهدر فى كلام المحمول بما فيه من ثرثرة وادعاء وكذب على النفوس، والوقت الضائع فى المجاملات والمقاهى والتليفزيون والنميمة والمواصلات وغيرها، وأنا حينما كنت أجلس على المقهى فى منتجع حى قايتباى، لم أكن أضيع دقيقة واحدة هباء، فإن لم تكن فى ذهنى كتابة أراقب الناس وأدرسهم لأتعلم منهم وأستلهم الأفكار، وعندما كنت أستقبل أصدقائى على المقهى، كثيرا ما كنت أجلس معهم وأنا أبيض إحدى المسودات فلا أتعطل عن الكتابة ولا عن مجاملتهم.
●وماذا عن الكذب؟ ما هى الحدود بينه وبينه الكتابة؟
الكتابة لا تعرف الكذب، هى على عداء مستحكم معه، وإن عرفته سقطت، ذلك لأن القارئ، مهما كانت ثقافته محدودة، أذكى من الكاتب، سيكتشف بسهولة شديدة هذا الكذب، فيترك هذا الكتاب أو يقرأه بلا اهتمام، ولا يمكن أن ينتشر كاتبٌ يكذب أو يدلس على نفسه أو يمالئ السلطة أو القارئ ويتملقهم.
أدلل على هذا بأن كتاباتى أخذت طريقها إلى القارئ مباشرة دون أدنى مساعدة من نقاد أو دعاية صحفية لما فيها من صدق ومعاناة، وحينما قلت لك منذ برهة إننى أفكر سنة لأكتب يوما أو يومين، فمعنى هذه العبارة يتضمن محاولات الوصول إلى حالة المصداقية، فقد أكتب مائة صفحة ثم أمزقها فى الحال، وأبقى على سطر واحد أعتبره مدخلا إلى الصدق، فالعناء كله هو فى الوصول إلى لحظة الصدق فى الكتابة.
●قرأت على لسانك أنك تشعر بأنك تتهيأ لكتابة مختلفة تمام الاختلاف عما كتبته سابقا، قلت: «أشعر أن ما كتبته قبلا لم يكن إلا نوعا من التدريبات المهنية، أخطط لكتابة مختصرة وبسيطة، وأكثر غنى من السابق، كتابة من علو» هل يشبه هذا ما ذكرته من انقلاب على المائة صفحة من أجل سطر؟ وهل يعد كفرا أو تمزيقا لكل كتابات الرحلة؟
إطلاقا، بل تدشينٌ لهذه الكتابات، لأنه لولا كتابتى لهذه الأعمال ما توصلت إلى هذه القناعة، لقد بنيت قصرا شاهقا ووقفت فوقه فرأيت الحياة من أفق أوسع، ودعينى أذكرك بمناسبة هذا الكلام، فقد قلته بعد أن وصلت إلى سن ال70، وأنجزت ما يقرب من 70 كتابا، فقلت: أشعر بالكاد أننى تعلمت الكتابة، فالكتابة ليست سهلة كما يتصور البعض، وهو ما أوضحته آنفا بشأن المعاناة التى تسبق الكتابة.
● نستشعر فى كتاباتك ثمة شبه بينها وبين شعر العامية، الروايات بشخوصها وطينها وقشها وعوالمها، تبدو مواويل طويلة، يغنيها فلاحون أو عمال تراحيل أثناء الكدح؟
ربما لأننى كنت فى الأصل شاعرا، لى تجربة فى شعر الفصحى وأخرى فى العامية، وشهدت نشأة حركة شعر العامية منذ بدايتها على يد فؤاد حداد وصلاح جاهين، وتابعتها فى تطورها منذ فؤاد قاعود والأبنودى وسيد حجاب ومجدى نجيب إلى آخر الأجيال الحديثة فى العامية المصرية.
فى داخلى شاعر، يقول أحد أصدقائى إننى استهترت به، وربما يكون هذا صحيحا لأن هناك الكثير من الخطرات التى كان يمكن أن تكون قصائد، والأفكار التى كان من الممكن أن تكون مسرحيات شعرية لكننى أجهضتها فى كتابات نثرية. ثم عن العالم الفنى الذى أنتمى إليه ينبع من ينابيع شعرية، خاصة عالم القرية، ولهذه الأسباب جاءك هذا التصور.
●بالإضافة إلى عالم القرية هناك الأوباش والشطار وغيرهم من رموز الهامش الذى هو موضوعك الأثير، إلى أى مدى تغير مدلول المهمشين عن وقت كتابتك له؟
فى أول كتابتى عن الأوباش والسنيورة، عن عمال التراحيل والأنفار، والناس الذين لا أهل لهم ولا سكن، كنت أتخذ منهم رمزا لطبقة مغبونة، لكن بعد ذلك أخذ ما كتبته فى عهد الانفتاح مدلولا أوسع، ليصبح الشعب المصرى كله، الذى صار يعيش على الهامش، منذ الانفتاح إلى اليوم.
الشعب الذى تكون من 4 أو 5 شعوب: فلاحون وعمال وموظفو دولة وقطاع عام، وصغار تجار، ممن يعيشون على بطاقة التموين، وأنبوبة البوتاجاز، وطوابير الخبز، والجمعيات التعاونية، ويكدحون لإدخال أولادهم المدارس، والذين يعجنهم الزحام فى علب اسمها أوتوبيسات النقل العام، ويتنفسون هواء السحابة السوداء، ويشربون مياه المجارى، والخضراوات المروية بمياه الصرف الصحى، ولا يعرفون اللحوم إلا فى المواسم والأعياد، هؤلاء هم الشعب المصرى، الذى تهمش وانسحبت الدولة من مسئولياته فى كل الأمور، وتركته وحيدا شريدا، يتساقط بالعشرات فى حوادث المرور.
لم يكن عم خيرى علم بعد أن روايته الأحدث «إسطاسية» قد دخلت القائمة الطويلة للبوكر ومعها روايتان مصريتان أخريان لميرال الطحاوى وخالد البرى، عندما سألته عما إذا كانت الجوائز والكرنفالات العربية يمكن أن تسحب البساط من الأدب المصرى، فقال:
هذا التصور به ظلم وجهالة بقدر مصر وتاريخها، لأنه على العكس من ذلك تكرس المهرجانات والجوائز العربية الضخمة للثقافة المصرية، لأن مصر هى الرائدة، وهى التى علمت العالم العربى هذه المهرجانات، وإذا رفعت مصر يدها عن أى نشاط عربى يضعف.
وأضاف: سنظل منارة للثقافة وقبلة للعرب، وهذا لا يمنع أن تكون هناك عصور خمول كالذى نعيشه الآن بسبب ضيق أفق الأنظمة السياسية التى تحكمنا، وقسوة الظروف الاقتصادية، لكن هذا لا ينفى أن مصر ستظل قوية دائما بموقعها وتاريخها وبنيانها، التى تفرخ الكفاءات باستمرار، لذا فإننى غير منزعج من خفوت ريادة مصر بعض الشىء، لأن هذا الوضع مؤقت، وسوف تسترد مصر موقعها الريادى فى أقرب وقت.
● أخيرا هل تشعر أنك ظلمت؟ أو لم تنل فى مشوارك التقدير المناسب؟
لا. على الإطلاق. أعتقد أننى أخذت ما أستحقه من الجمهور، أصبحت مقروءا بشكل يسعدنى جدا جدا، وهذا ما كنت أبحث عنه، أنا لم أكن أبحث عن جوائز أو مكاسب، فقط كنت أبحث عن القارئ وقد وصلت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.