مازلت أتذكر توسلاتى لشقيقتى الكبرى كى تغادر بغداد خلال فترة الاحتلال وما رافقها من تصفيات ومداهمات لبيتها بحثا عن أبنائها وزوجها، وكانت ترفض وتصرّ على أن تموت وتدفن هناك وكان لها ما أرادت.. أما الحالة الأخرى فهى إصرار جد وجدة أبنائى لأبيهم على عدم مغادرة الكويت بعد الغزو وعدم تركهما الوطن والذكريات وترديدهما: (تعددت الأسباب والموت واحد) ومقولة (الغربة كُربة).. وما هاتان الحالتان إلا مثال على الولاء المطلق للوطن ومؤازرته وقت الشدّة، فى الوقت الذى تركنا ومعنا الكثير من البشر الأوطان، متذرعين بشتى الأعذار.. وبحكم تنقلاتى الكثيرة التقيت العديد من المغتربين فى الدول العربية وأوروبا وأمريكا والقارات الأخرى ممن نراهم فى محطات اللقاء بالأهل فى أىّ مكان يتيح لنا ذلك، وكل منهم يشكو الغربة والحنين ليقفز السؤال الأهم دائما عمّا يمنعهم من العودة للوطن، لتتفاوت الإجابات حسب أسباب الاغتراب، فهناك مغترب من أجل العمل وآخر للدراسة وآخرون بسبب اللجوء الإنسانى والسياسى، وكان العائق المشترك للعودة هو الخوف.. الخوف من مصادرة الرأى والاستبداد والبطالة وغياب العدل فى توزيع الحقوق ونخبوية النظام ومنظومته وعبوديتها للعامة.. هذا غير الخوف من المجتمع وانهيار قيمه وانشغاله بالتلصص على بعضه والوصولية على حساب الآخرين وفساد المؤسسات وانعدام الخدمات.. ومن الطبيعى أن يكون هناك فرق من حيث عمق الولاء والحنين وارتفاع درجتيهما بين من هاجر هجرة مؤقتة خوفا من تهديد أو تصفية، ومن هاجر للدراسة أو العمل يرافقه الشوق للوطن والعودة إليه بعد تحقيق ما يصبو إليه من نجاح، وبين من هاجر بإرادته تحت ظروف نفسية رافضة كل ما فى الوطن سلبا وإيجابا واللهاث وراء الحلم بالجنسية الأخرى والولادة الجديدة بعد مخاض شقاء.. وهؤلاء هم المنسلخون كلّية عن الوطن، على العكس من الآخرين الذين تعتمل قلوبهم شوقا للعودة لولا ما أتيح لهم من إمكانات لممارسة تخصصاتهم لم يوفرها لهم وطن يفتقد الديناميكية والتوازن الاجتماعى ويعج بالفوضى والتخبط.. وتبقى أقل الفئات ولاءً وأكثرها اضطراباً تلك المنسلخة عن الوطن، غير القادرة على التواؤم مع الماضى والحاضر.. لا تعرف ما تريد فتظل تائهة فى صراع وبحث عن سلبيات ومساوئ الوطن تجلد بها الوطن، كبديل عن جلد الذات، بحثا عن رضا وهمىّ مما يعزز عدم الثقة بالنفس وعدم الانتماء ورفض المعايير الاجتماعية والتمرد وعدم الشعور بالأمان والتأرجح بين مجتمعين.. ثمّ اغتراب مرضىّ شديد. (إيرين فروم) يرى أن الاغتراب هو غربة الفرد عن ذاته ومجتمعه بسبب الخلل فى العلاقات الاجتماعية. و(فرويد) يرى أنه صراع بين الذات وضوابط الحضارة عند مواجهة الفرد للضغوط.. والاغتراب بمعناه غير المرضىّ أصبح ظاهرة يعانى منها الكثير فى ظل الظروف السياسية والاجتماعية المحبطة وما يحيطنا من أخطار. وليست الأنظمة بمنأى عن الشعور بالاغتراب بينها وبين ذاتها وبينها وبين شعوبها مما أدّى إلى تبعثر الحلقات واتّساع الفجوة. ولكن يبقى للوطن حقّ على أصحاب العلم والثقافة من المغتربين وإن كانت مستوردة.. وإن لم يعطنا سوى القلق وإدمان الصمت والخوف حتى ونحن فى أحضانه المفروشة بالرعب والبرد.. حقّه علينا أن نعطيه.. فهو الجذور والعلامة الموشومة على بشرتنا وسحنتنا، وهو الدم والجين.. فالمصرى يبقى مصرياً وإن أخذ ألف جنسية، وكذلك العراقى وكل أبناء الوطن، والدليل كوكبة العلماء والأطباء والأدباء من أبنائه الرافعين اسمه فوق هام إبداعهم فى المحافل الدولية.. لذلك نتمنى على هذه الفئات المبدعة ضخ كل ما هو مفيد للوطن والمجتمع، باعتبارهم القدوة التى تحدو التغيير بالعلم والحوار فى ظل المتغيرات الحضارية ليكون الولاء والعطاء متعادلين على كفتى ميزان الحب. إليك.. يا المعترش خلايا الروح ومنمنمات التفاصيل.. يا المتسيّد كينونتى.. يا الأيقونة المعلّقة على عنق الترحال.. اجتاز بها بوابات الحدود وبنادق الجنود.. يا تذكرة سفرى المفتوحة إلى عوالم الوعى واللا وعى.. والممكن واللا ممكن.. إليك أنت يا المحفور على النبض.. المخضوضر فى المقلتين.. الموشوم على خارطة العمر.. يا أنت وطنى حين يقتلنى الحنين ويذبحنى الاغتراب.. يا سيدى.. يا سيد؟؟