لم أتخيل أن يرتجف قلبي بالعشق وأنا أدلف إلي الكبر بسرعة الإرهاق الشديد، ويخيل لي أن الشباب من الذين يبدأون دواماتهم العاطفية يمكن لهم أن يغضبوا حين يجدون من تخطي الستين وهو باحث عن الحب من جديد. ولكني لا أهتم كثيرا بغضب غيري ، فيكفيني أني غاضب من نفسي ، لأن لي قدما تقترب من القبر وقدما أخري تتمسك بالخطو في طرق الحياة ودروبها. ومازالت دقات قلبي ترهقني شوقا إلي امرأة طازجة لا يزيد عمرها علي ثلاثين عاما. ولولا سرعة النهجان لجريت إلي أحضانها أطلب لنفسي ارتواء جديدا. وأتذكر دائما مثلي الأعلي - دون خجل - المغفور له جدي الحاج حسين عامر الذي فاق السبعين وعندما شعر أن ركبتيه لا تحملانه جيدا ، وأن عملية تفريغ المثانة بالتبول صارت صعبة . وطبعا كان لابد أن يركب جدي القطار من أنشاص إلي القاهرة ليزور واحداً من أكبر الأطباء الفرنسيين المقيمين بها ، وهو من قاله له ''إن الروماتيزم هو السبب''، ثم أضاف الطبيب: ''من المؤكد أنك سمعت عن ضرورة تغيير العتبة في الأمثال المصرية'' . وفهم جدي الرسالة ؛ حيث رأي الملل وقد زحف إلي علاقاته بزوجاته الثلاث؛ وأن أي واحدة منهن لم تعد تثيره كما كان هو الحال قديما، فضلا عن أن ابنة عمه - الزوجة الأولي - تخاف من أن تحمل إحدي الزوجات، لذلك تتفنن في إرهاق الزوجتين الأخريين بالعمل في الدار المتسعة، فهي سيدة الدار ولا أحد قادر علي أن يرد لها أمراً أو يؤجل تنفيذ قرار من قراراتها؛ فهي الوحيدة التي أنجبت من الحاج حسين ولدا وبنتا، أما الزوجتان الأخريان فلم تنجب أي واحدة منهما ولو حتي قطة أو قردا. ومن أجل ''تغيير العتبة'' قرر الجد السفر إلي إريتريا ليشتري جارية بثلاثة جنيهات ذهبية. وتعمد أن تطول أيام الرحلة حتي يستمتع بأكبر قدر ممكن من عناق الجارية الجديدة. وظن الجد الطيب أن أيامه ستكون هادئة ؛ لكن زوجته -جدتي -السيدة عائشة بنت عمه ، لاحظت انجذاب جدي الشديد إلي الجارية ، فاستخدمت الجدة سلاحها الفتاك ضد الجارية التي في لون البن المحروق؛ بأن ترهقها طوال اليوم في العمل الشاق ، وذلك كي تدخل غرفة الجد آخر النهار وهي كالدجاجة الدايخة من فرط الإرهاق. وعلي الرغم من عدل الجد بين الزوجات حيث كان يستدعي كل زوجة في ميعاد نومها في غرفة نومه ، إلا أنه كان يتعمد تناول العشاء الثقيل في أيام الزوجات الثلاث؛ واعترفن لبعضهن البعض أن الجد يعطي أيا منهن ظهره ليسافر إلي النوم العميق عكس الليلة المخصصة للجارية الإريترية ؛ حيث يعلو صوتهما بالضحكات ولا تخرج صنية العشاء من الغرفة إلا في الصباح ؛ وعادة مالا تكون قد نقصت كثيرا، ويبدو أن جدي كان مشغولا بجاريته عن الطعام. ولا أدري كيف استطاعت جدتي السيدة عائشة أن ترهب وترعب الجارية الحبشية وتتفنن في إرهاقها في اليوم المحدد لدخولها إلي غرفة جدي . ولا أدري لماذا قرر جدي أن يطرد كل الزوجات من حجرته ؛ ودخل إلي حظيرة الحيوانات وجمع روث الجاموس والبقر والحمير ليصنع تمثالا من الروث لأمرأة وهتف في نسائه الأربع'' سأنام مع الروث فهو أكثر حنانا من أي واحدة منكن'' . وهنا وجدتها جدتي فرصة لتخرج من دارها لتدخل دوار العمدة وتطلب ترنك من أنشاص إلي الإسكندرية ليدق التليفون في بيتنا، لنسمع صوت جدتي صارخة في أبي ''تعالي شوف أبوك باين عليه عقله راح''. وطبعا لم تكن جدتي تعرف أنها بمكالمتها تلك كانت تفجر الكارثة الثانية في نفس اليوم لتزعج بها أبي . فقد سبق ذلك بظهر نفس اليوم حادث تليفوني آخر ؛ فقد كانت هناك مكالمة أخري قد سبقت مكالمة والدته، وكانت من ناظرة مدرستي وصاحبتها الأستاذة نبوية موسي ، وهي من أصرت علي استدعاء أبي ليأتي فورا إلي المدرسة كي يأخذني كطفل مفصول من روضة الأطفال.. وقد اتخذت نبوية موسي قرار الفصل الفوري لي ولزميلتي سوزي بعد أن ضبطتني السيدة نبوية موسي مستسلما لزميلتي سوزي التي أقنعتني بلعبة الطبيب والمريض، وبعد أن أمرتني سوزي بالتجرد من كامل ملابسي؛ أخذت تقبلني. وحدث كل ذلك أثناء فسحة الغداء الطويلة. ولم أدر أنا وسوزي أن نبوية موسي عانس، وأن أي عناق بين طفل وطفلة ليس هو الخطيئة ولكنها رحلة استكشاف أولية لمعني اختلاف فروقات الجسد الأنثوي والجسد الرجولي. ولا أدري كيف قامت نبوية موسي بالمرور علي الفصول لتجدنا علي تلك الحالة الصعبة؛ فأخذت ملابسنا وأمرتنا بالسير عراة إلي حجرتها لتستدعي والدي ووالد سوزي وتصدر أمرا بفصلنا من مدرستها إلي غير رجعة. هكذا وقعت كارثتان من نوع واحد علي رأس والدي ؛ كارثة اكتشاف نبوية موسي أن ابنه المفضل الذي هو أنا مجرد ولد قليل الأدب ، ثم جاء حادث التليفون الذي تستدعي به جدتي ابنها ليري كيف فقد والده صوابه . وطبعا علا الخجل ملامح أبي، خصوصا أن رياح الخوف المشوب بحالة قنزحة بدأت تطوف علي ملامح أمي؛ فهي من تخاف أن يكرر والدي تجربة أبيه في الزواج من أكثر من واحدة، خصوصا وهي تعلم أن هناك من تنتظر الارتباط به بشرط أن يكون لها وحدها بشرط أن يطلق أمي . وكان ذلك هو المستحيل الذي لايفكر فيه أبي . فقد كانت ناظرة مدرسة الأميرة فايزة القريبة من بيتنا هي بطلة الحب الأول في حياة أبي . وهي من نقلت نفسها من القاهرة إلي الإسكندرية لتكون قريبة من الرجل الذي دق له قلبها منذ أن كانا يعملان معا في مدرسة السنية الثانوية بالقاهرة. كانت الأستاذة منيرة هي الشبح الخفي في حياة أبي وأمي. وكنت أعلم استحالة أن يطلق أبي أمي ، ليس لأنها الزوجة المطيعة فقط ، ولكن لأنه لايطيق تصور حياته بعيدا عن أبنائه، خصوصا وأنه لم يتزوج أمي إلا بعد أن رفضت حبيبة قلبه الاستقالة من منصبها كمدرسة حكومية لتصبح زوجة وأم أولاد. فهي مدرسة اللغة الفرنسية بمدرسة السنية، وكانت وزارة المعارف العمومية تحرم زواج المدرسات ، لأن في زواج المدرسة نوعا من '' قلة الأدب'' ، فكيف يعانقها زوجها ليلا لتذهب إلي المدرسة صباحا وهي لم تأخذ فرصة للاستحمام؟ ثم ماذا لو حملت المدرسة ؟ هل ستقول للتلميذات عن كيفية حدوث الحمل، فتفتح أعين البنات علي ما يفسد أخلاقهن ؟. -- وهكذا قرر أبي أن يصحبني معه إلي القرية كي يفض الاشتباك بين أمه وأبيه ؛ فهو الموظف الكبير الذي يغفر بينه وبين نفسه جراءة جدي العاشق للنساء ومن وجدت متعته أخيرا في عناق السمراء التي جاء بها من إريتريا علي ظهر جمل. تلك الجارية التي تخاف جدتي منها، لأن كثرة التصاق جدي بها قد يجعلها تنجب، وجدتي عاشت عمرا طويلا في الخوف من إنجاب أي امرأة من زوجات جدي ؛ خصوصا أن جدي هو الرجل الذي قامت الطبيعة نفسها بتحديد نسله، فعلي الرغم من تعدد زوجاته إلا أنه لم ينجب سوي أبي وعمتي. وهو الوحيد الذي استطاع الانتباه- لا أدري كيف- إلي أهمية تربية الابن وتعليمه تعليما عاليا؛ فكان أبي أول من أقام- كطفل - بمفرده بالقاهرة ليدرس في مدرسة الإلهامية الابتدائية ثم مدرسة الخديوية الثانوية، ثم مدرسة المعلمين العليا ليتخرج مدرسا للعلوم والكيمياء بمدرسة السنية، وهناك التقي بالمرأة التي فضلت الوظيفة علي الارتباط به كبطل لدقات قلبها؛ ولكنها تطل حاليا كالشبح في خيال أمي. -- استقبلنا جدي بمنتهي الفرح؛ وحين حكي له أبي قصة ضبط نبوية موسي لي مع سوزي ابنة الدكتور راغب ، فرح جدي كثيرا وقال إنه سيهديني جارية علي مقاسي وسيحضرها من أريتريا.. وكنت مندهشا من أن جدي يتحدث عن المرأة علي أنها مقاسات، فالقياس يمكن أن يكون للحذاء أو للطول أو العرض، أما المرأة فالقياس بالنسبة لها هو أن تجد الرجل المناسب لها فإما أن يأتي الحب أو لا يأتي.. وأعلنت ذلك فاندهش الجد من أن السماء تضع علي لسان الأطفال حلولا لمشكلات صعبة. وإذا كانت جدتي ترهق الجارية بالعمل كي لا يعانقها كل ليلة؛ فلسوف يبيع كل الأرض ويترك القرية ليقيم في القاهرة مع الجارية. وكنت مندهشا من أن جدي يتكلم مع أبي وكأن أبي هو ولي الأمر وليس الابن، وقال الجد فيما يشبه الرجاء ''إن كنت تحبني يا ابني أقنع أمك بالابتعاد عن الجارية ، لأني قررت الزواج منها شرعا ، وأنا أعلم أنك لن تخالف شرع الله إن حدث لي مكروه وجاءت لك الجارية بشقيق'' فقال أبي لوالده: ''أطال الله عمرك ولكني أطلب منك أن تراضي أمي بأن تبني بيتا آخر لتقيم به مع من تفضلها من النساء''. وبينما ونحن نتكلم حتي صرخت الجارية لأن شقيقة والدتي وهي عمتي الوحيدة افتعلت مشاجرة مع الجارية، وأخذت تصفها بأحط الألفاظ. وتدخل أبي ليعلن لشقيقته أنها تهين زوجة والده ، فقد تزوجها علي سنة الله ورسوله. ومن حسن الأدب أن تتعامل مع زوجة الأب الجديدة بالاحترام. فصرخت عمتي في وجه أبي ''طبعا ستوافقه علي هذا الزواج لأنك تريد موافقته علي أن تتزوج علي زوجتك، مثلما استأذن منه زوجي كي يتزوج من بنت الهلالية''. وضحك أبي من قول عمتي وقال لها: إنه لا يحتاج إذنا من أحد ليتزوج علي والدتي . لأنه يفضل الموت علي أن يترك أبناءه تحت رحمة زوجة أب ، فالحياة في القاهرة أو الإسكندرية ليست سهلة كما هي الحياة في القرية''، فقالت عمتي: ''ولماذا لا تطلقني من زوجي شيخ البلد وتزوجني واحدا من زملائك الموظفين؟ '' فخلع والده مداسه وألقاه علي ابنته وهو يتهمها بالفجور. فجرت عمتي إلي حضن أمها بداخل الدار، وبدأ جدي في رحلة الرجاء لابنه شارحا له بمنتهي الهدوء أنه منذ عانق الجارية الإريترية، ضاعت منه متاعب الروماتيزم، وأنها أعطته الإحساس بقيمة الحياة. وأكد جدي - الذي كنت أراه أعظم رجال الدنيا - أن متاعبه بسبب تضخم البروستاتا قد انتهت، فتجديد الحيوية العاطفية والجسدية جعلاه بعيدا عن تضخم البروستاتا، وهو ما أكده له الطبيب الفرنسي المقيم بالقاهرة في آخر زيارة له هناك . ولكل هذه الأسباب- هكذا أعلن جدي - هو مستريح للجارية أكثر مما هو مستريح للزوجات، فالجواري يمنحن ولا يسألن شيئا سوي المتعة المجردة . واشترطت جدتي علي والدي أن يكتب لها والده ثلث أرضه كي لا تعيش تحت رحمة الجارية إن انجبت من جدي. فقال لها أبي ''إن هذا تدخل في شرع الله وهو لايقبله، ثم أن لها أرضها ومكانتها عند العائلة كلها ولن يستطيع أحد أن يزعزع مكانتها أبدا طوال ما هو علي قيد الحياة. -- أتذكر كل ذلك هذه الأيام وأنا أترنح في خطوات شيخوختي ولكن قلبي مازال يدق إعجابا وشوقا لاحتضان امرأة أهفو إليها وحين أحدث أبنائي عنها فهم يضحكون،وتسمعهم زوجتي -والدتهم- فتقسم بالله أنها ستخطب لي تلك المرأة بشرط واحد هو الامتناع عن التدخين، فأضحك لها مذكرا إياها بأن زمن جدي راح وانقضي.. ولكن حفيدي الذي يبلغ السابعة من العمر، سألني ''هل ستسمح لي أن أتزوج من زميلتي في المدرسة؟ إنها تحبني وأنا أحبها'' هنا صرخت فيه أمه: أنت قليل الأدب ولا إيه؟. قلت لابنتي: ''إن الرجال والنساء في زماننا أكثر قلة أدب من خيالك''. ووقعت عيوني علي سطور في مجلة ما تحكي تفاصيل علاقة عاطفية غير مقبولة في إيرلندا بين زوجة أحد الوزراء وبين شاب في التاسعة عشرة، وأنها اعترفت بالعلاقة وساعدته بثمانين ألف جنيه استرليني كي يفتتح مقهي، بشرط أن يلتقي بها يوميا مرتين علي الأقل.. وعندما أصيب الشاب بالتعب؛ فضح العلاقة؛ واشتعلت إيرلندا بالغضب، لأن البطالة متفشية ولا يوجد عدد كاف من زوجات الوزراء يمكنهن توفير ثمانين ألف جنيه استرليني لكل عشيق، ومن فرط التوتر السياسي الزاعق؛ أخذ معالي الوزير أجازة وقدمت المرأة اعتذارا للشعب الأيرلندي قائلة: وماذا أفعل في جاذبية الجسد؟. ولم يجب أحد علي سؤال زوجة الوزير الإيرلندي، ورويت تلك الواقعة لزميلي محمد هيبة مدير التحرير - وهو من أبنائي، فقال لي: ''تصور يا أستاذ منير أن هناك بلدا أفريقيا هو جزر الرأس الأخضر، يعيش رجاله في حالة كسل شديد وتزورهم نساء أوروبا من أجل قضاء وقت طيب في أحضان هؤلاء الكسالي، وكأن الرجال قد صاروا في زماننا مجرد جواري كما كان هو الحال بالنسبة للنساء في القرون الماضية''. أجبت محمد هيبة بأني أتصور ذلك جدا فقد صارت المرأة خصوصا في العواصم العالمية الكبري أكثر جراءة من أي وقت مضي، وأصبحت المرأة أكثر واقعية في طلبها للحب، فهي تطمع في الاحتواء بدلا من قراءة الشعر والنظر إلي القمر.. وأنا أتمني لقاء واحدة من ''قليلات الأدب'' اللاتي أقرأ عنهن ، وإن كنت أشك في أن ترضي بي أي واحدة ، لأنه لا توجد امرأة تعشق رجلا له قدم في الدنيا وقدم في الآخرة.. فأخذ محمد هيبة يضحك كثيرا ويقول: ولكن قلبك لا يكف عن النبض العاطفي. أجبته : النبض العاطفي يتزاحم الآن مع النهجان واللهث.. خصوصا بعد تركيب ثلاث دعامات بشرايين القلب. ولو جاءت لي من أحلم بها في خيالي؛ فقد أختبئ من أنوثتها تحت سريري باحثا عن قرص دواء. ثم صرخت غاضبا: عشق الروح كلام فارغ وعشق الجسد هو الباقي . هنا قال سامي أمين المدير الفني لصباح الخير والمشارك لمحمد هيبة في نفس الحجرة ''أنت حاتبوظ أخلاقنا ولا إيه يا أستاذ منير''؟! وغرقنا في الضحك.