لا أدري لماذا تخيلت نفسي مكان ذلك المذيع المرموق الذي قتل زوجته, وصار حديث الناس في كل مكان؟ فلقد فوجئت بمن حولي عندما وقعت تلك الجريمة ينظرون لي نظرات ريبة وشك. وكأنهم يقولون لي: احذر فسوف تصنع نفس صنيعه إذا لم تتدارك الموقف, وتتحكم في أعصابك, ووجدتني في لحظات أسترجع شريط ذكرياتي وما حدث لي حتي اليوم, وأتوقف عند القرار الذي كنت قد اتخذته ذات يوم وتراجعت فيه خوفا من المصير المظلم الذي أعرف أنني أنساق إليه رغما عني. فأنا ياسيدي أعمل مسئولا في العلاقات العامة بإحدي كبريات شركات المياه الغازية, وتلقيت تعليمي في إحدي دول الخليج, وكان والدي يفرض علينا في أثناء إقامتنا بالخارج نظاما صارما, فالخروج من المنزل ممنوع تماما في كل الظروف وتحت جميع المسميات, حتي الدراسة التحقت بها بنظام المنازل, وكنا نؤدي الامتحانات في السفارة آخر العام, ولم نكن نر الشارع إلا يوما واحدا في الأسبوع عندما يصطحبنا معه في السيارة, لنتجول ساعة أو ساعتين ثم نعود إلي محبسنا دون أن نتكلم مع أحد, أو نختلط مع الجيران الذين تجمعهم الغربة عادة, خصوصا أبناء البلد الواحد. وهكذا نشأت بلا خبرات مع البشر والجنس الآخر, وعندما أنهيت دراستي الثانوية جئت إلي مصر لكي ألتحق بالجامعة, شأن معظم المصريين الذين يفضلون أن يلتحق أبناؤهم بالجامعات المصرية, وفور أن وطأت قدماي أرض مطار القاهرة وجدتني في مجتمع جديد, لم آلفه من قبل, فالناس تتعامل مع بعضها بحرية, ولا يوجد الكبت الذي تعودت عليه! وأقمت في مسكن الأسرة الواقع بالقرب من أحد الأحياء العشوائية, ومرت الأيام وتعرفت علي فتاة من هذا الحي, وهي من عائلة مشهورة بتجارة الخضراوات, وسرعان ما توطدت العلاقة بيننا, فأصبح لقاؤنا شبه يومي, ووجدتها تقول لي: بحبك, وبكل صدق أقول لك إن هذه الكلمة هزتني, وزلزلت كياني, فأنا لم أسمعها من قبل سوي في الأفلام, لكن ها هي قد أصبحت واقعا في حياتي, فرددت عليها بكل كياني وأنا أحبك, ولم أكن أدرك معني الحب, لكنه كان في رأيي علي الأقل أنه إحساس جميل يربط بين قلبين دون أن ألتفت إلي أي معايير أخري, فمستوي عائلتها الاجتماعي أقل منا بكثير, لكن مستواهم المادي يقاربنا إن لم يكن يفوقنا, وكلها أشياء لم أتوقف عندها, أو تثير اهتمامي, وقضينا معا أوقاتا ممتعة دون أن نقع في الخطأ الكبير الذي يفقدها عذريتها. وانتهت الإجازة الصيفية سريعا, وبدأت الدراسة والتحقت بجامعة مرموقة قد تكون الأغلي بين جامعات مصر, وفيها وجدت مستوي آخر قريبا من مستواي الفكري والاجتماعي والمادي, وندمت علي ارتباطي بهذه الفتاة, وحاولت تقليل لقاءاتنا إلي حد كبير, لدرجة أنني لم أكن أقابلها إلا بإلحاح شديد من جانبها, وسألتني عن سر تغيري تجاهها فتحججت بالجامعة وصعوبة الدراسة التي تلتهم كل وقتي, واتجهت إلي حياتي الجامعية الجديدة, وتعرفت علي زميلة لي تتمتع بالجمال الهادئ, والخلق الرفيع, ووجدتني أتعلق بها, فهي من النوع الرزين الذي لا يلقي بالا لتفاهات بعض المراهقين, ولم أحاول معاكستها كما يفعل البعض, بل كنت صريحا معها, وتحدثنا بشكل مباشر عن إحساس كل منا تجاه الآخر, وفزت بقلبها مثلما هي فازت بقلبي وكياني. وانتظرت حتي نهاية السنة الثانية وتقدمت رسميا لأسرتها طالبا يدها, واتفقنا مبدئيا علي كل شيء, وإتمام الزواج بعد التخرج, وتصورت أن علاقتي بفتاة الحي الشعبي قد انتهت, لكن هيهات لي ذلك, إذ أنها لم تكف عن مطاردتي في كل مكان, فانسقت وراءها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها مجرد تسلية, لكي أحصل منها علي ما لا أستطيع الحصول عليه من خطيبتي, واستمررت علي هذا المنوال, ويوما بعد يوم قلت علاقتي بها, ويبدو أنها أحست بذلك فأخبرت عائلتها بأنني أنوي التقدم لخطبتها لكي تضعني أمام الأمر الواقع, ففاتحني أخوها الأكبر فيما سمعه فلم أجد مفرا أمامي سوي أن أقر بما قالته لهم!! واطمأنت هي إلي سلامة موقفها, وبأنني لن أستطيع الفكاك منها, فراحت تطاردني في كل مكان, وتتبع خطواتي حتي علمت أنني خاطب زميلتي, وإذا بها تفاجئني بما أخفيته عنها, وهددتني بأنني إذا لم أتراجع عن هذه الخطبة وأعود إليها فسوف تفعل الكثير! وعدت يومها أفكر في حالي وأنا مشتت بين خطيبتي التي أحببتها وفتاتي التي أخطأت في علاقتي بها, وبينما أنا علي هذه الحال جاءني عبر التليفون خبر مفزع بأن والدي أصيب في حادث مروري وكان الوقت متأخرا, فخرجت مسرعا وأنا في حالة ذهول, ولاحظني أهل فتاتي فاصطحبوني معهم ونقلنا والدي إلي المستشفي وحرصوا علي زيارته يوميا للاطمئنان عليه, وإزاء هذا الموقف الشهم أحسست بحنين إليهم وإلي فتاتي التي تمردت عليها. ولاحظت أسرتي ذلك فحذروني من عواقب ما أفعل, وبأنني ألعب بالنار, فمن جهة أنا خاطب لزميلتي, ومن الجهة الأخري فإن فارق المستوي يحول دون أن يكون زواجي منها زواجا مستقرا وناجحا, فلم أهتم بما قالوه وعدت إلي اللقاءات الممتعة, وأنا أخفي ذلك عن الجميع, يعني أنني تعاملت بشخصيتين, الأولي مع هذه الفتاة, والثانية مع خطيبتي التي مضيت في إجراءات الزواج منها بعد أن تخرجنا, وأقمنا حفل زفاف كبير في أحد الفنادق المعروفة, وسافرنا إلي الخارج حيث قضينا أسبوعا رائعا, وأحسست بطعم جديد للحياة وبعدما عدنا إلي مصر, وجدت المفاجأة في انتظاري حيث أعدت فتاتي ألبوما كاملا للقاءات بيننا وأخبرتني أنها ستسلمه إلي زوجتي علي عنوان سكني الجديد الذي لا أعرف كيف توصلت إليه! وعندما سألتها عن طلباتها قالت لي: إن الشرع أحل للرجل الزواج من أربع, وأنها راضية بأن تكون الزوجة الثانية, وإلا فإنها ستجعل حياتي جحيما, وفي غمرة التهديدات وخوفي من عائلتها ومن معرفة زوجتي بهذه العلاقة وجدتني أتزوجها بعد أسبوعين فقط وأنا مازلت في شهر العسل! وتمكنت مني, وعشت بينها وبين زوجتي شهرين ثم كانت الطامة الكبري, إذ فوجئت بزوجتي تطلب مني الطلاق, ويكفيها أنني خدعتها منذ أن تعرفت عليها وأنا في حياتي فتاة أخري أصبحت زوجة لي, وأغمي عليها فأسرعت بها إلي الطبيب المجاور لنا, فقال لي إنها حامل وإنه لابد من جراحة عاجلة لها لأن الحمل لن يكتمل بسبب صدمة عصبية تعرضت لها! وتعرضت لسخط الجميع.. الأهل والأقارب والجيران, وخسرت كل شيء, وبينما أنا أندب حظي فوجئت بوالد زوجتي الثانية ابنة الحي الشعبي يعطيني شقة باسمها في إحدي العمارات التي يملكها بالحي, فوافقت مرغما علي عرضه وانزويت فيها وأنا أتحسر علي نفسي, وهكذا خسرت زوجتي وزميلتي وحبيبتي التي تطلب الطلاق, لكني أرفض تطليقها بإصرار, وتركت لها شقة الزوجية علي أمل أن تعود الحياة بيننا إلي طبيعتها بعد زوال هذا الكابوس. ومازلت خاضعا لتأثير من تورطت معها من البداية والتي تعايرني بما تشتريه لي, والمشاجرات بيننا شبه يومية, ولا أجرؤ علي مجرد التفكير في تطليقها, وأتخيل سيناريو حياتي القادم فأجده أسودا حالك الظلام, وأتصور اللحظة التي أخرج فيها من قضبان السجانة بأقل الخسائر, لكني سرعان ما أفيق من حلمي علي الواقع المر! وليت من جرفتهم الأهواء مثلي يتعلمون الدرس قبل فوات الأوان. * ما أنت فيه الآن نتيجة طبيعية للتخبط الذي عشته طوال حياتك منذ أن وطأت قدماك أرض مصر قادما من الخارج فلقد أحسست بالحرية الكبيرة بعد سنوات الكبت والحرمان التي عشتها في البلد الذي كان والدك يعمل فيه, فانطلقت تفعل ما يحلو لك من السهر خارج البيت, ومعاكسة ابنة الجيران حتي سلمت لك ووجدت فيك فارس أحلامها ابن الذوات طالب الجامعة المرموقة الذي وقع في هواها, وهي قصة تتكرر كثيرا في سنوات الشباب الأولي, لكن البعض يدركون خطر ما ينساقون إليه فيتراجعون عنه في الوقت المناسب.. أما أنت فقد تماديت فيه, فكان ما كان حتي أصبحت أسيرا لها, خلال أسابيع قليلة, ثم فوجئت بعالم مختلف في الجامعة فانجذبت نحو إحدي زميلاتك, ورحت تبثها حبك وغرامك ولم تجرؤ علي أن تلمسها كما فعلت مع الأولي لأنها من طراز مختلف! وهنا سعيت للارتباط بها, في الوقت الذي احتفظت فيه بعلاقتك المشبوهة بفتاتك الأولي, فأين والدك وأسرتك من هذا التخبط؟ فالحياة ليست أموالا يتم جمعها وكفي, وإنما هي تربية وأخلاق وعلاقات سوية, ويجب أن ينشأ الأبناء علي ذلك, فلا يتم إخضاعهم لقواعد صارمة بعدم التعامل مع الآخرين أو الاحتكاك بالجنس الآخر, وإنما يجب تقويم سلوكهم ومتابعتهم أولا بأول, مع شرح مخاطر الانخراط في علاقات مشبوهة. إنك تحمل فتاة الحي الشعبي الحالة المتردية التي وصلت إليها وتصفها بأنها السجانة, والحقيقة أن موقفها منك هو المتوقع, وليس غريبا, وهو الموقف نفسه الذي فعلته زوجة المذيع اللامع الذي ضاقت به الدنيا فلم يجد وسيلة أمامه للتخلص من حالة الاضطراب والقلق والإدمان والأمراض النفسية التي حاصرته سوي أن يتخلص منها, فاحذر ياسيدي أن تفعل ذلك.. وأعتقد أن الفرصة الوحيدة المتاحة لك الآن للخروج من هذا المأزق هي أن تطلق هذه السيدة مهما كان الثمن, وأن تعود إلي زوجتك الأولي معتذرا لها عن كل ما حدث, وأن تؤكد لها ندمك الشديد علي ما اقترفته في حقها, وكفاك عبثا ببنات الناس!