كل ما يتذكره أنه ركب دراجته كعادته كل يوم وانطلق بها متريضاً ساعة مغربية، كانت الشمس مازالت تقاوم الرحيل فتميل ميلتها الأخيرة التى تسبق الاستسلام والسقوط فى ليل القاهرة، غالباً لم يكن يكترث كثيراً بما يقوله وجيه عزيز بصوت دافئ يصعد إلى أذنيه عبر سماعة «الإم بى فور»، كان مكتفياً بالنغم والإيقاع دون أن يحاول لحظة أن يستوعب كلمة واحدة أو يتدبر معنى، كان وجيه يغنى: «هو حصل إيه.. طب يعنى جرى إيه.. مش برضه فيه طريقة.. نعرف إيه الحقيقة.. صاحبنى ولو دقيقة.. وقوللى حصل إيه؟». مر من أمام شارع المنيل وبدلاً من أن ينحرف يساراً فى اتجاه شارع عبدالعزيز آل سعود، ليتناول حمص الشام على كوبرى عباس كالمعتاد، أغراه كوبرى الجامعة فصعده، ربما تعجب حين نظر نحو الكوبرى فلم يجد أى سيارة على امتداد أفقه قادمة من ناحية الجيزة أو ذاهبة إليها، كان الكوبرى فيما بدا خاوياً ومغرياً لكل متريض، والمؤكد أنه أراد أن يظفر بهذه اللحظة الاستثنائية فى التاريخ المرورى لهذه المنطقة. عندما سقطت قنبلة الدخان أمام دراجته فى منتصف الكوبرى، تخيل حين استنشق دخانها وبدأت عيناه تذرفان الدمع أن تلك هى سكرات الموت التى سمع خطيب الجمعة يتحدث عنها وعن صعوبتها، كانت حالة اختناق شديدة تسيطر عليه تجعله لا يستطيع التقاط أنفاسه، بينما يشعر بروحه تغادر جسده ببطء وألم. وعندما سقط من فوق دراجته وسقطت السماعات من على أذنيه سمع ضجيجاً ولمح وسط سحائب الدخان عدداً من الرجال الشداد يتجهون نحوه فى حماس وجدية، وحين اقتربوا منه انهالوا عليه ضرباً بالهراوات، وسحبوه على الأسفلت، دون أن تسمح له الصدمة بالصراخ أو التأوه أو السؤال. لوهلة عاد إلى الاعتقاد أنه مات فعلاً، وأن ما يراه الآن هو عذاب القبر الذى تحدث عنه خطيب المسجد، وأن هؤلاء هم زبانية جهنم يسومونه سوء العذاب عقاباً له على آثامه، كان يعرف أنه يدخن السجائر «المحشوة» أحياناً، ويستمع إلى موسيقى زاعقة، وأحياناً يتلصص على مواقع إباحية على الإنترنت كنوع من فضول المعرفة لا أكثر، سأل نفسه سؤالاً صامتاً: أهذا وقت المكابرة؟ هؤلاء لديهم كتابى وسجلوا علىّ كل شىء. لكنه انتبه فجأة وسأل نفسه سؤالاً آخر: المفترض أن الزبانية المكلفين بالعذاب ملائكة أيضاً، ومهمتهم الغليظة لا تنفى عنهم هذا النسب، لكن هل تسب الملائكة بالأب والأم؟ والأدهى من ذلك هل تسب الملائكة بالدين؟ هو إذن ليس عذاب القبر، لكن إذا لم يكن كذلك فماذا يكون؟ هكذا سأل نفسه، والأرجح أنه استوعب قدراً مما يجرى بمجرد إلقائه فى سيارة ترحيلات.. لكنه فهم كل شىء حين صرخ فيه المحقق: أنت متهم بالتخطيط لقلب نظام الحكم.. ما قولك فيما هو منسوب إليك؟! ■ نص غير منشور من كتابى «دوران للخلف».. تحت الطبع. [email protected]