مشاعر متناقضة تنتابني أنا شخصيا وربما ملايين المسلمين حول العالم عقب الإعلان عن خبر وفاة أسامة بن لادن (رحمه الله وتقبله الله في الشهداء رغم كل ما قد نأخذه عليه أو كل ما اختلفنا معه فيه).. ومن الصعب للغاية أن تكتب مقالا موضوعيا عن شخص مثل بن لادن فيرضى عنك كل البشر.. ولذلك فأفضل اختيار أن يكتب المرء ما يشعر به بصدق مهما اختلف الآخرون معه فإن أحدا لم يرض يوما عن (جحا وابنه والحمار).. أعتقد عن قناعة شخصية أن الشيخ أسامة رحمه الله كان إنسانا مخلصا ومتجردا لعقيدة يعتقدها ومبادئ يؤمن بها.. كيف لا وقد ورث من إمبراطورية أبيه ما يزيد على مائتي مليون دولار وكان لم يزل بعد في ريعان شبابه وكان من المنطقي في عرف البشر أن يستمتع أقصى درجات المتعة بهذا المال وهو لم يزل بعد في عمر الزهور.. لكنه اختار طريقا شائكا وعرا ذا نهاية يسهل توقع مدى بشاعتها.. ستكشف الأيام عن عجائب من الأسرار.. عن علاقة بن لادن نفسه بجورج بوش.. وبالمخابرات الأمريكية ودورها في تشجيعه ودعمه لإنشاء تنظيم القاعدة واستقطاب الشباب العربي المتحمس للتضحية بالنفس والمال لقتال عدو أمريكا اللدود سابقا (الإتحاد السوفييتي).. ثم الأسباب الخفية لانقلاب بن لادن على أمريكا.. كل هذا سيظهر لاحقا شيئا فشيئا.. لكن أهم الأسرار سيبقى معرفة إجابة السؤال المحير: هل كان لبن لادن حقا أي دور في أحداث 11 سبتمبر؟.. وهل اغتيال بن لادن هو انتصار للعدالة حقا على الطريقة الأمريكية.. أم قتل للعدالة بالفعل لأن الأمريكان لم يسعوا لاعتقاله بدلا من قتله حتى تتم محاكمته أمام العالم ويعرف الجميع حقائق تلك الأحداث ومن كان خلفها؟.. كما أن هناك ملاحظة هامة لمن أراد الانتباه والتفكير.. هل كان جورج بوش الإبن عاجزا حقا عن اصطياد بن لادن طيلة ثمان سنوات اقتربت فيها القوات الأمريكية بشدة من بن لادن وطوقته في تورا بورا (قبل أن تصدر أوامر غامضة بالانسحاب وعدم التركيز على اعتقاله أو قتله) .. فهل كان جورج بوش عاجزا فإذا بأوباما يأتي وخلال سنتين فقط من إعادة البحث من نقطة الصفر وقد أصبح اصطياد بن لادن أشد صعوبة من ذي قبل.. فإذا به خلال تلك الفترة الوجيزة يتمكن من القضاء على أسطورته؟ المسألة ببساطة أن أسطورة أسامة بن لادن رحمه الله.. حرص جورج بوش على بقائها طيلة تلك الفترة قوية في أذهان الأمريكان.. ليضمن ولاءهم لاستمرار الحرب أطول مدة ممكنة.. فكيف نترك البندقية وبن لادن والرعب الذي يمثله مازال حيا؟.. لايهم أن يؤدي غباء بوش في إطالته للحرب لاستمرار نزيف الاقتصاد الأمريكي ولاستمرار تنامي مشاعر الكراهية والعداء بين الشعوب فهذا هو المناخ الذي يستطيع المحافظون الجدد وحزب الشاي أن يبقوا أحياء فيه!.. أما أوباما الذي يريد إنهاء أغبى حروب أمريكا فكان عليه أن يجد مبررا لخروج مشرف من كل من أفغانستان والعراق.. وأي شيء يلهب مشاعر الأمريكان أفضل من القضاء على عدو أمريكا الأول بن لادن والذي تمكن بوش من إقناعهم باستحالة القضاء عليه.. ولكن للمفارقة الطريفة.. استفاد أوباما من تلك القناعة التي زرعها غريمه بوش في عقول الأمريكان.. فالآن أمام كل الشعب الأمريكي والعالم أصبح أوباما صانعا للمعجزات التي لم يقدر عليها صقور الحرب مثل بوش وتشيني ورامسفيلد مجتمعين ولعل أوباما الآن يتمتم: شكرا لغباء بوش ما أتوقعه الآن هو بداية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان حتى ولو أدى ذلك إلى التخلي عن الدمية البلهاء (كرزاي).. وبدلا من أن يشعر الشعب الأمريكي أن خروج قواتهم من أفغانستان هو هزيمة مهينة أمام ضربات طالبان الموجعة.. لهم الآن أن يعتبروا ذلك الخروج انسحابا طبيعيا بعد إنهاء المهمة المستحيلة ببراعة ولهم أن يقتنعوا بفرحة انتصار مزعوم ترضي غرورهم إلى حد كبير ولكن لاينفي ذلك أن ضربات فقراء الأفغان البسطاء هي التي أدت لتركيز أوباما على هدف أبسط عسكريا ولكنه أعمق سياسيا وإعلاميا حتى يهرب بصورة مشرفة من هؤلاء الفقراء المستبسلين الذين لم يقبلوا أبدا على مدار تاريخهم بوجود أجنبي يحتل بلادهم عسكريا.. لدرجة أن مايكل مور المخرج الأمريكي الشهير المعارض للحرب أرسل إلى أوباما محذرا له من أفغانستان بأنها مقبرة الأمبراطوريات عندما قام الأخير بتعزيز قواته في أفغانستان بنحو ثلاثين ألف جندي هل يمكن إذن أن يتحول قتل بن لادن إلى الحدث الذي يرضي جميع البشر رغم اختلافهم على شخصية بن لادن؟.. فالمقتنعون بأفكاره سيرحبون بقتله بهذه الطريقة باعتباره شهيدا.. فأي ميتة يتمناها من يعتنق الفكر الجهادي أشرف في وجهة نظره من قتله أثناء معركة مع العدو برصاصة يتلقاها في رأسه أو قلبه؟ وطالبان ستعتبر الإنسحاب المرتقب للقوات الأمريكية انتصارا لها لأن بن لادن أصلا لم يكن هو الذي يحارب قوات التحالف .. وتنظيمه (القاعدة) انتهى فعليا منذ تورا بورا سنة 2002 وعليه فادعاء أمريكا أنها انسحبت بعد تحقيق نصر عسكري هو مجرد حفظ لماء الوجه والكارهون لبن لادن من الأمريكان سيعتبرون قتله أكبر انتصار لأمريكا ربما يتضاءل معه هزيمة النازية ثم اليابان ثم سقوط الاتحاد السوفييتي والمخططون الحقيقيون من الأمريكان وغيرهم لأحداث 11 سبتمبر سيشعرون بالارتياح من عدم محاكمته والمختلفون مع أفكاره من المسلمين سيرحبون بموت من جلب الويلات للعالم الإسلامي من وجهة نظرهم بالطبع والمعجبون بشخصيته مع اختلافهم مع أفكاره سيرحبون بانتهاء صفحته على أمل أن يحقن موته دماء العديد من البشر فيما بعد مسلمين وغير مسلمين ويكون أول ذلك الإعلان المرتقب عن بدئ الانسحاب الفعلي من أفغانستان آمل إذن أن يكون هذا هو السيناريو المرتقب