ارتفاع صاروخي لأسعار النفط مع تصاعد التوترات الجيوسياسية    استهداف مجمع ستافرولين للبتروكيماويات في روسيا بمسيرات أوكرانية    الرئيس الفنزويلي: الطاقة يجب ألا تتحول إلى سلاح حرب    عمر مرموش يؤكد: فوز منتخب الفراعنة على زيمبابوي أهم من أي إنجاز فردي    أحمد التهامي يحتفل بفوز منتخب الفراعنة ويُوجه رسالة ل محمد صلاح    محدود دون إصابات.. التحقيقات تكشف تفاصيل حريق قاعة أفراح بأبو النمرس    "بسبب غاز السخان" النيابة تحقق في وفاة عروسين    إنعام محمد علي: التحضير لمسلسل أم كلثوم استغرق عامين.. واختيار صابرين كان مفاجأة للكل    أمم أفريقيا 2025| بهذه الطريقة احتفل محمد صلاح ومرموش بالفوز على زيمبابوي    صندوق النقد يتوصل لاتفاق مع مصر بشأن المراجعتين الخامسة والسادسة    حددها القانون الجديد.. أماكن الحصول على شهادة قياس مستوى المهارة وترخيص مزاولة الحرفة    اليوم، بدء إعادة جثامين 14 مصريا ضحايا غرق مركب هجرة غير شرعية باليونان    حبس وغرامة ضخمة لهؤلاء.. سر المادة 70 من تعديلات قانون الكهرباء    إلهام شاهين تتصدر جوجل وتخطف قلوب جمهورها برسائل إنسانية وصور عفوية    زينة منصور تدخل سباق رمضان بدور مفصلي في «بيبو»... أمومة على حافة التشويق    هاني ميلاد: 70% زيادة في أسعار الذهب منذ بداية 2025.. والاضطرابات العالمية السبب    مواطن يستغيث من رفض المستشفي الجامعي طفل حرارته عاليه دون شهادة ميلاده بالمنوفية    أجواء شديدة البرودة والصغرى 12 درجة.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم    بعد ارتدائها البدلة الحمراء.. محامي ضحية ابنتها ببورسعيد يكشف موعد تنفيذ حكم الإعدام في المتهمة (خاص)    استشاري تغذية علاجية بالفيوم ل"أهل مصر": دودة الطماطم خطر صحي وآفة زراعية.. ولا علاقة لها بالقيمة الغذائية    بيسكوف: لا أعرف ما الذي قصده فانس بكلمة "اختراق" في مفاوضات أوكرانيا    حين تضطر أم لعرض أطفالها للتنازل: ماذا فعلت سياسات السيسي بالمصريين؟    مشروع قومى للغة العربية    نقابة أطباء الأسنان: أعداد الخريجين ارتفعت من 45 إلى 115 ألفا في 12 عاما فقط    «المستشفيات التعليمية» تعلن نجاح معهد الرمد والسمع في الحصول على اعتماد «جهار»    رئيس هيئة المستشفيات التعليمية يُكرّم مساعد وزير الصحة للمبادرات الرئاسية    استكمال الاختبار التجريبي لطلاب الصف الأول الثانوي على منصة كيريو في محافظات الجمهورية يوم 23 ديسمبر    المؤبد والمشدد 15 سنة ل 16 متهماً ب «خلية الهيكل الإدارى بالهرم»    حسام حسن: حدث ما توقعته «صعبنا الأمور على أنفسنا أمام زيمبابوي»    بالانتشار الميداني والربط الرقمي.. بورسعيد تنجح في إدارة انتخابات النواب    استغاثة عاجلة إلى محافظ جنوب سيناء والنائب العام    بالصور.. مدير محطة حدائق الأهرام بالخط الرابع للمترو: إنجاز 95% من الأعمال المدنية    فرقة سوهاج للفنون الشعبية تختتم فعاليات اليوم الثالث للمهرجان القومي للتحطيب بالأقصر    أمم إفريقيا - مؤتمر حسام حسن: كنت أحمل هم الجماهير في مصر.. وصلاح يصنع الفارق    أمم أفريقيا 2025| وائل القباني: منتخب الفراعنة قدم أداء جيدًا.. وهناك عيب وحيد    مصرع شخص صدمته سيارة نقل أثناء استقلاله دراجة نارية فى المنوفية    حماية القلب وتعزيز المناعة.. فوائد تناول السبانخ    فولر ينصح شتيجن بمغادرة برشلونة حفاظا على فرصه في مونديال 2026    فلسطين.. إصابة ثلاثة مواطنين في هجوم للمستعمرين جنوب الخليل    القانون يضع ضوابط تقديم طلب اللجوء إلى مصر.. تفاصيل    ما هي أسباب عدم قبول طلب اللجوء إلى مصر؟.. القانون يجيب    ليفربول يحتفل بأول أهداف محمد صلاح مع منتخب مصر فى كأس أمم أفريقيا    القصة الكاملة لمفاوضات برشلونة مع الأهلي لضم حمزة عبد الكريم    ليفربول يعلن نجاح جراحة ألكسندر إيزاك وتوقعات بغيابه 4 أشهر    وزير الدفاع الإيطالي: روما مستمرة في دعم استقرار لبنان وتعزيز قدرات جيشه    فرحة أبناء قرية محمد صلاح بهدف التعادل لمنتخبنا الوطني.. فيديو    هيئة الدواء: متابعة يومية لتوافر أدوية نزلات البرد والإنفلونزا خلال موسم الشتاء    ستار بوست| أحمد الفيشاوى ينهار.. ومريم سعيد صالح تتعرض لوعكة صحية    «الشيوخ» يدعم الشباب |الموافقة نهائيًا على تعديلات «نقابة المهن الرياضية»    فضل صيام شهر رجب وأثره الروحي في تهيئة النفس لشهر رمضان    رمضان عبدالمعز: دعوة المظلوم لا تُرد    ميرال الطحاوي تفوز بجائزة سرد الذهب فرع السرود الشعبية    "يتمتع بخصوصية مميزة".. أزهري يكشف فضل شهر رجب(فيديو)    يضم 950 قطعة أثرية.... محافظ المنيا يتفقد متحف آثار ملوي    برلمانية الشيوخ ب"الجبهة الوطنية" تؤكد أهمية الترابط بين لجان الحزب والأعضاء    جامعة قناة السويس تعتلي قمة الجامعات المصرية في التحول الرقمي لعام 2025    قصة قصيرة ..بدران والهلباوى ..بقلم ..القاص : على صلاح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 22-12-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر نص كلمة شيخ الأزهر في الاحتفال ب«ليلة القدر»
نشر في المصري اليوم يوم 29 - 06 - 2016

ألقى الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، كلمة خلال الاحتفال الذي نظمته وزارة الأوقاف اليوم الأربعاء بحضور الرئيس عبدالفتاح السيسى،رئيس الجمهورية،والمهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء وكبار قيادات الدولة .
وجاء نص كلمة شيخ الأزهر كالتالى :
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على سيدِنا محمدٍ رسول الله، وعلى آلِه وصَحبِه ومن اهتدى بهداه.
السيد الرئيس/ عبدالفتاح السيسي -رئيس جمهورية مصر العربية حفظه الله ورعاه.
الحفل الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... وبعد:
فإنَّ احتفالَ المسلمين بليلةِ القَدْرِ من شهر رمضانَ المبارَك- هو احتفالٌ بحَدَثٍ تاريخيٍّ بالغِ الأهمية والخَطر في مسيرة الإنسانية، بل في مسيرة الكون كله، هذا الحدَثُ هو نزولُ القرآن الكريم، أو بدءُ نزولِه على نبيِّ الإسلام: محمد صلى الله عليه وسلم، ليبلِّغَه للناس، ويُرشِدُهُم به إلى اعتقادِ الحقِّ وعمَلِ الخير، ويخرجِهُم به من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط مستقيم .
{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(إبراهيم:1)
هذا القرآن الكريم الذي نحتفل اليوم بذكرى نزولِه إلى دنيا الناس- قدَّم للإنسانية، خلالَ فترة زمنية بالغةِ القِصَرِ، أمَّةً عظيمة، وحضارةً كبرى قادها رسولُ الإسلام سيِّدُنا محمدٌ صلوات الله وسلامه عليه، وأصحابُه ثم أتباعُه من بَعْدِه، واستطاعت هذه الأمَّة أن تزاحِمَ بمَنكِبَيها أعتى إمبراطوريَّتينِ استعماريَّتينِ عرفَهُما التاريخ في ذلِكُم الوقت، وهما: إمبراطورية الفرس وامبرطورية الروم، ولم تنقض على خروجه صلى الله عليه وسلم من الدنيا ثماني سنواتٍ، حتى انهارت إمبراطورية فارس في حرب القادسيَّة، وانمحت مِن على وجه الأرضِ، ولم تقُم لها قائمة حتى يوم الناس هذا، وسُرعان ما فُتحَت سوريا وفلسطين، ثم لم يأت العامُ الواحدُ والعشرون بعد الهجرة حتى كان المسلمون في مصر وفي الإسكندرية، ثم في طرابلس وأفريقيا، وما لبِثَت دولة الرُّوم- هي الأخرى- أن تداعت أركانُها في الشرق، وأصبح الرومُ إمّا مسلمين، وإما مواطنين يَنعًمُون بالعدل والمساواة في ظل دينٍ جديدٍ يضمن السلام والإخاء لمن يرتضيه دينًا، أو لمن يعيش في رحابه مواطنًا سالما، له ما للمسلمينَ، وعليه ما عليهم.
ولقد طوَت حضارةُ المسلمين تحت جناحها ثلاثةَ أرباع العالَم، في فترة زمنية لم تتجاوَز ثمانين سنة من قيام دولةِ الإسلام بالمدينة، وهذه الفترة ليست رَقَمًا ذا شأنٍ في حساب الحضارات وتطوُّرِها واستوائها على سوقها، وكان اللَّافت للنظر في مسيرة حضارة الإسلام أن غيرَ المسلمين هم الذين يسارعون في اعتناق هذا الدين والدخول فيه، وأنّ من بَقِىَ منهم على دِينه كان طيِّبَ النَّفْس، بالعيش في ظلال دِين يقوم نظامه على العدل والإنصاف والمساواة بين الناس، لا يفرِّقُ فيهم بين سيد ومسود، ولا بين قوي وضعيف، ولا بين غني وفقير..
وممَّا يؤكِّد دَعْوَى إقبالِ الشعوب على الإسلام في البلاد المفتوحةِ- أن الأقطار التي لم تَشهَد حروبًا إسلامية هي الأقطار التي تنتشر على أراضيها الكثرةُ الكاثرةُ من المسلمين اليوم، فأندونيسيا – مثلا- التي تحتضن أراضيها قُرابة رُبع مليار مسلم، لم يدخلها الإسلام بالحرب ولا بالسِّلاح، وإنّما بالقدوة التي مَيَّزت تُجَّارُ المسلمين، وأسَرَت عقولَ الناس وقلوبَهم.. وقُل مثلَ ذلك فيما يتعلقُ بالهند وباكستان والصين، حيث تَضُمُّ هذه الأقاليم في مجموعها ما تَقْرُبُ نِسبَتُه من 65 % من المسلمين. بل قُل مثل ذلك فيما يتعلق بسواحل القارة الأفريقية وأعماقِها الممتدَّة في شمالِها وغَربِها ووسَطِها. والتي يُعييكَ البحث عن تاريخ محدد لدخول الإسلام في هذه الأعماق، وسبب ذلك:
«أن اعتناق غالبية الشعوب الأفريقية للإسلام- فيما يقول بعض المؤرخين الأفارقة- لم يكن عن طريق حملة عسكرية حتى يُؤرَّخَ له بسقوطِ مملكةٍ ما، أو هزيمةِ جيوشٍ أفريقيَّةٍ في موقعةٍ ما، وقِيامِ نظامٍ إسلاميٍّ على أنقاضها، وإنما انتشرت الديانة الإسلامية في تلك المناطق بفعلِ احتكاكِ التجار المسلمين بسكانها، وسلوك شيوخ التصوف القادمين من شمالي أفريقيا» حتى الأندلس التي نَعلَمُ أنها فُتِحَت بحدِّ السلاح كما يقول كثير من المؤرخين العرب وغيرهم، وجدنا من المؤرِّخين الغربين من يقول: إن العرب لم يدخلُوها غزاةً مُحارِبين. فقد ظهرَ في عام: 1975م، كتاب لمؤرخ أسباني شهير اسمه: إجناثيو أُولَاجوِي Ignacio Olague، جعل عنوانه: «الثورة الإسلامية في الغرب» ثم عُرِّبَ بعنوان: «العرب لم يغزوا الأندلس».. ذهب فيه هذا المؤرِّخُ إلى أن المسلمين لم يَفتحوا إسبانيا فتحًا عسكريًّا مسلَّحًا، وما كان من تحوُّلِ الأندلسيِّين إلى الإسلام إنّما «هو ثمَرةُ احتكاكات اجتماعية وفكرية داخلية» أو بسبب ما يسمِّيه المؤلِّف الفكرة التي تطوَّرت إلى قوَّةٍ «شكَّلَت عَصَبَ الحضارة العربية الإسلامية في ثلاثة أرباع العالَمِ في تلك الأيام» ويقول المؤلِّف: إن المؤرِّخين من العرب ومن اللَّاتين: متقدِّمين ومتأخرين، أجمعوا على أن عدد المسلمين الذين دخلوا إسبانيا تراوح بين سبعة آلاف على أقل تقدير، واثنى عشر ألفا على أكثر تقدير، ثم يتساءل المؤلِّف: «كيف تَمَكّن بضعةُ آلافٍ من المسلمينَ قادمين من الصحراء، غيرَ مدرَّبينَ على قتالٍ أو غزوٍ مُنظَّمٍ، ولا يشكِّلونَ جيشًا بالمعنى المعروف آنذاك، كيف لهؤلاء أن يسيطروا على عَشْرة مليونِ إسباني يعيشون في أهم مدن العالَم حضارة وازدهارًا آنذاك !».
ورُغم تحفُّظِ القارئ المسلم على بعض النتائج التي ينتهي إليها المؤلِّف في كتابه، إلَّا أن القارئ لا يسعه إلَّا أن يُكْبِرَ المؤلِّف في إنصافه للإسلام في فتح الأندلس والفتوحات الأخرى، وبخاصةٍ عبارته التي يقول فيها: «إنّ السيادة المسلحة لا يمكن أن تستمرَّ ثماني مائة عام في الأندلس، ولا يمكن أن تستمرَّ إلى الأبد في مساحات شاسعةٍ من العالَم كما هو شأن العالَم الإسلامي اليوم».
ولم تبلُغ هذه الأمة ما بلَغته من احترام في كتابات المؤرِّخين المنصفين، إلا بسبب هذا القرآن الذي طَبَّقَت منهجَه في دعوة الأمَم إلى الإسلام، والتزمَت بفِقْهِه وشريعته السَّمحة، هذا المنهجُ الذي حدَّده الله تعالى تحديدًا حاسمًا في قوله سبحانه: ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ {النحل: 125}.
وأنتم تلاحظون أن وسائل الدَّعوة في هذا النصِّ المُحكَم القاطع، لا تتعدَّى الحِكمةَ والموعظةَ الحسنةَ والجدالَ بالتي هي أحسن، فإن لم تُجْدِ هذه الوسائل نفعًا، فعلى الدُّعاة أن يتركوا الناس لخالِقهم، فهو أعلمُ بمن يضِلُّ ومن يهتدي من عباده.
وليس لأحد ولا لجماعة ولا لطائفة مؤمنة أو غير مؤمنة، أن تتزيَّد على هذه الوسائل التوقيفية في الدعوة إلى الله تعالى؛ بتلفيقات أو توفيقات مزَيَّفة مُلغاةٍ، تَصدِمُ هذا النَّصَّ الإلهي المحْكَم، وتُلقي به في مَهَبِّ الرِّيح، ليبتدعوا بعد ذلك مناهج في الدعوةِ تقوم على استحلال الدِّماء، وتُجيزُ سَبيَ الحرائرِ، وتُخرِّبُ العامِرَ، وتنشُرُ الشَّرَّ، وتأتي على الأخضرِ واليابس، متنكِّبين في كلِّ ذلك هَديَ الله ورسولِه، وطريقَ هُداة الأمَّة مِن السَّلف والخَلَف.
.... ..
وأنا لا أقصد من كلماتي هذه التغنِّي بأمجاد سلفت وطواها التاريخ، أو ما يبعث على فقد الأمل في عودة الوعي من جديد، فنحن على وعي دقيق بما تمرُّ به الأمة من مرحلة ضعف وهُزالٍ، غير أن المهمومين بحاضر هذه الأمَّة ومستقبلها لا يسأمون من التذكير المتواصل وتَردادِ القول بأن هذه الأمَّة ربّما تمرض لكنها أبدًا لن تموت، وأن أسباب النهضة والتقدُّم رَهْنٌ بإرادتها الصُّلبة، وبحِكمة قادتها، وجهودِ علمائها ومفكريها وإخلاص نواياهم ونزاهة قصودهم، وهذه الأمة التي عاشت تتحدَّى الزمن خمسة عشر قرنًا بقرآنها ولغتها العربية وجاذبية حضارتها، رُغمَ كلِّ الضربات القاسية، والمحسوبةِ بأدق الحسابات العلمية وأعقدِها، والتي تُوجّه إليها كلما أرادت الخروج من أزماتها المصطَنعة اصطناعاً،.. هذه الأمة لا يُعيِبها أن تَنفُضَ الغُبار من على رأسها، وأن تنهض لتأخذ مكانَها الصَّحيحَ بين الدُّول والأمم.. وطريقُها في ذلك، بعد الإيمان بالله والتوكُّل عليه؛ إنَّما هو: العملُ والعملُ الشاق، والمنافسةُ الشَّريفة، والجُهدُ والعَرَقُ، واحترامُ الوقتِ، والوَعيُ بخَطَرِه الشَّديد في النجاح وفي الفشل أيضًا..
ومن المحزن والمؤلِم أن تُؤتَى هذه الأمَّةُ اليومَ من آفتين قاتلتين:
الآفة الأولى: شهوةُ الاختلاف والرَّفض، والتحوُّل السريع من الحوار والنقاش، إلى الفرقة والنزاع، ثم العَداء والصِّراع.
والآفةُ الثانية هي: كثرةُ الكلام، وهي آفةٌ تَضرِب قيمةَ العمل في مَقتلٍ، وتحيلُه إلى عِبئ ٍ ثقيل يَضعُفُ عن أدائه الكثيرون، والأممُ الراقيةُ لم ترق بالثرثرة، وضياع الوقت، وتبديده فيما لا يعود بنفع ولا فائدة، ولم تبلُغ هذه الأمم ما بَلَغته بالاسترخاء والهروب من المسؤولية، وتغطيةِ العُيوب بطلاقة اللسان وفصاحته.
ومن المؤلم أشدَّ الألم وأبلَغه أن تُصابَ أمَّتُنا بما يُشبه داءَ الانفصام في مسألة ارتباط العمل بالمسؤولية الدينية، فقد توقفت تكاليفُ الدِّين وأوامره ونواهيه في أذهانهم عند حدود العبادات من صلاة وصيام وحج وعمرة وأضحية وعقيقةٍ، أمّا العملُ وإتقانُه، ومراقبةُ الله في أدائه على الوجه الأكمل، والخوفُ من أكل السحت والحرامِ، فهذا أمرٌ لا يخطُرُ لكثير منهم على بالٍ.. مع أن القرآن ذَكَرَ كلمة العمل ومشتقاتها في ثلاثمائة وخمس وستين موضعًا، وحين عَرَضَ للكلام قال:﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾، وقد حذَّرنا صلى الله عليه وسلم من لغو الكلام فقال: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى مَنَاخِيرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».. كما أوصانا بقوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليَصْمُت».... ..
واسمحوا لي- سيادة الرئيس!- في هذه المناسبة التي لا يليق بجلالها إلَّا الصدقُ في القولِ؛ أن أَذكُرَ أن الأزهر- وإن كان لا يزال أمامه الكثير مما يجب إنجازه لمواجهة التحديات المتجددة كل يوم- إلّا أنني لا أرتابُ لحظةً أمام ضميري وأمام الله تعالى، في أن أؤكد أن الأزهر منصرِفٌ إلى العمل الجادِّ الدؤوب في صبر وأناة، رُغمَ العقبات التي خلَّفتها تراكُمات السنين، والأشواك التي تزرع على طريقه وهو يعمل في صَمتٍ، ويحاول أن يبتعد قَدْرَ الإمكان عن كل ما يستنفذ الوقت والجَهدَ والطاقة.
وفي هذا ما يشجع الأزهر على أن يعلن للأمَّة كلها أنه كان –ولا يزال وسوف يظل بإذن الله – المؤسَّسةَ الإسلامية الكبرى التي يقع على عاتقها عبء أمانة الحفاظ على دين الله، وأن منهجه هو العاصم من الانزلاق بعيدًا عن الجادة إمّا يمينًا وإما يسارًا، وأنه الحارسُ الأمين على المحجَّة البيضاء التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ»
والأزهرُ ماض في طريق العلم والتعليم، يفدُ إليه من أقطار العالم ما يقارب أربعين ألف طالب وطالبة من أبناء المسلمين من أكثر من مئة دولة، يتعلمون الإسلام مجانًا وحسبة لله تعالى، ويُنفَقُ عليهم من أموال مِصر ومن خزائنها وميزانياتها، حتى لو كان الوافد أو الوافدة من أغنى الدول وأكثرها ثراء وأشدِّها رفاهية.. وهذه مَكْرُمة لمصر، أختصها الله بها من بين سائر الدول الإسلامية، بل هي سِرٌّ من أسرار قُوَّةِ كِنانةِ الله في أرضه، ودليلٌ على أصالةِ شَعبِها وعراقة تاريخها وعظمة حضارتِها..
وانطلاقًا من مرجعية الأزهر الدينية والوطنية التي عرَفَها له التاريخ قديمًا وحديثًا- أدعو شعبَ مصر العزيز، وهو يَستذكِر غدًا ثورةَ الثلاثين من يونيو، تلكم الثورة التي جمعت مصر والمصريين على قلب رجل واحد من أجل تحقيق إرادتهم الحاسمة في الانتقال بالوطن إلى مستقبل أفضلَ وتاريخٍ جديدٍ – أدعوكُم إلى نبذ كلِّ ما يؤدِّي إلى الفُرقةِ والاختلاف، وإلى التفرغ الكامل لبناء هذا الوطن الذي يَحتاجُ إلى سواعِدِكُم، والذي سوف تُسألون أمام الله تعالى عمّا فعلتم به، وما ذا قدمتم له من تضحيات، وما بذلتم في سبيل رُقِيِّه من جهود.
كما أدعوكم – أيها المصريون- إلى التلاحُم والتكاتُف من أجل إغلاقِ الأبوابِ وسدِّها في وجوه مُثيري الفِتَن والشِّقاق والعَبَث بالوطنِ، وأن تكونوا عوناً وسَنَدًا لولاة الأمور في جهودهم المخلصة في كلِّ ما يحقق المصلحة والمنفعة لمصر والمصريين.
وبهذه المناسبة أتوجه لكم- سيادة الرئيس- وللشعب المصري والأمتين: العربية والإسلامية بأصدق التهاني، وخالص الدعاء إلى المولى – سبحانه!- أن يعيدَ علينا هذه الأيام ومصرُ في مزيدٍ من الأمن والقوة والمنعة والتقدم والرخاء. شكرا لكم.
وكل عام وحضراتكم جميعًا بخير
وشكرًا لكم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.