كنا في مثل هذه الأيام منذ ثلاث سنوات، وكانت مصر على أعتاب القصر.. وكان نظاما عتيدا يهتز تحت هدير الهتافات العنيدة في الميدان، وكان رئيسا يحاول، ويحاول، ويحاول، و...، لكن الوقت قد فات وأدرك "النظام" أن "اللحظة" أقوى من أي "ماض" يستند إليه، أو "مستقبل" يغازل به، أو "قوة" يهدد بها، حتى "القوة" التقليدية التي أنفق السنين والثروات في إعداداها لمثل هذا اليوم صارت (ياللمفارقة التراجيدية) هي نقطة ضغفه و"كعب أخيله"، ف"الفوضى" تشل "النظام" وتكتسح في طريقها أي قواعد، و"الغضب" يهدم أصنام "الحكمة الرائفة"، و"الشارع" يثبت جدارته التاريخية في مواجهة "القصر". في لحظة الإدراك المأساوية هذه، تنازل "النظام" مؤقتا عن العنجهية وعصا التهديد، ولجأ إلى "الجزرة"، فاختتم اليوم الأول من فبراير بخطاب عاطفي "عن الأرض التي حاربت من أجلها وسوف أموت على أرضها". وتلت الخطاب حملة إعلامية مخططة، جاءت بأثر انفعالي تعبوي في أوساط الطبقة المتوسطة العليا التي تميل إلى الاستقرار حتى لو كان على فوهة بركان. وبدأ الشارع يرتبك تحت تأثير الابتزاز العاطفي، وبدأت أكليشيهات "مايصحش"، و"أد ابوك"، و"نديلوا فرصة"، صاحبها ملامح تأييد شعبي مصنوع، نشط فيه الحزب الوطني بعد إفاقته النسبية من الصدمة، فاجتذب قطاعات واسعة من بيوت "الافنديات" والفئات المحافظة التي عرفت بعد ذلك باسم"حزب الكنبة"، وعاش الميدان لحظة ضعف حقيقية، وفجأة اندلعت الدراما بعد ساعات قليلة بمشهد اقتحام كاريكاتيري صادم يليق بالعصور الوسطي استخدمت فيه الإبل والخيل وسمي تندرا باسم "موقعة الجمل"، لكن المشهد الفولكوري العبثي تحول ليلا إلى حالة من الرعب الحقيقي.. حيث رسمت كرات اللهب وزجاجات المولوتوف صورة للفزع في سماء الميدان المحاصر بفرق منظمة من الصبية والعاطلين أغلبهم يستخدم الحجارة وكسر الرخام في رشق المعتصمين. كنت أقضي ليلتي في الميدان، وشعرت بغيظ شديد من هذه الخديعة الرخيصة التي ارتكبها نظام "خاطب شعبه في المساء بكلام براق ووعود جديدة، ثم فاجأه في الصباح بنفس أفعاله الخسيسة"، مرت الليلة المرعبة وعند مطلع النهار توجهت إلى "الجورنال"، وجلست أكتب مقال "ديل الكلب"، وحتى لا يتذرع أحد بتجاوز "السقف"، كتبت مقالي بصورة رمزية باعتباره قراءة بريئة لفيلم سينمائي أمريكي بنفس العنوان تقريبا، لكن مسؤولا في الصحيفة أخبرني عند الظهيرة أن المقال مرفوض لأن الوضع لايحتمل، وعلي أن أكتب بديلا له خلال ساعتين على الأكثر لألحق موعد الطباعة، كان قد منع لي مقال في الاسبوع السابق على الثورة بعنوان "ثورة المصريين"، وقلت عبارتي المعتادة: "ماعنديش كلام تاني، والمقال خرج من تاريخ النشر إلى تاريخ المنع". وعدت إلى الميدان أتابع، وأوثق بالصورة والكلمة، وأشارك الجموع لحظات صناعة المستقبل، واتأمل حالة مابعد الزلزال.. كانت الرغبة في التغيير أقرب إلى إعصار قادر على اكتساح أي مانع في طريقه، وفي مثل هذا اليوم بالضبط من شهر فبراير ابتعد مبارك عن طريق الإعصار، وتخلى عن الحكم. لكن هل يعني هذا أن "النظام" سقط بسهولة كده وخلاص؟، للأسف صدق كثيرون أن الشعب أراد إسقاط النظام، وأسقطه بالفعل، وتسارعت الدعوة للبناء باعتبار أن مرحلة التغيير اكتملت، وعدت للكتابة بمقال "قبل أن نبني" وحذرت فيه من هذا التعجل وتركيز الجهود في الصراع على الغنائم والمناصب، وكتبت بعدها "احذروا التجار وخطايا الانتصار، لكن المماليك كانوا يتسابقون لملء الكراسي الشاغرة، وبدا الانقسام يعرف طريقه لرفاق الميدان، وأيقنت أننا نحتفل بقتل البعوض ونغمض أعيننا عن المستنقعات وكتبت "لاتطاردوا البعوض.. جففوا المستنقعات"، لكن الثوار تحركوا في المسار الذي رسمته قوى خفية في النظام، كانت تمتلك الخرائط والمعلومات وتمتلك سيف المعز وذهبه، وظهر مصطلح "الشاي بالياسمين"، كما ارتفع شعار يسقط حكم العسكر، وبدا أن القوتين التقليديتين (الجيش والإخوان) دخلتا الصراع مبكرا، لكنه صراع بالوكالة يتم فيه استخدام قوى أخرى، ولم يدخل حيز العلن إلا متاخرا على ابواب انتخابات الرئاسة وفشل صيغة الرئيس التوافقي (منصور حسن رحمة الله عليه) بدا واضحا لي حينذاك أن مبارك ذهب ضحية نظامه، أو حسب تعبير مقالي السابق (استطاع الكلب أن يهز ذيله، ويخلعه أيضا، وما للذيل حيلة!)، وبدا مؤكدا أن الذين يمنعوننا ويضللوننا ويسرقوننا ويعيثون في الأرض فسادا ليسوا شخصا اسمه مبارك أو العادلي أو فتحي سرور. لكنه نظام من العلاقات والمصالح، إما أن تدخله بأي صورة وأي منصب وأي صفة، وإما أن تصبح خصمه، وكنت قد نبهت لذلك قبل ثورة يناير بأسبوع في مقال اقتطف منه هذا المقطع: "تعالوا نتساءل معا: ماذا بعد أن فرحنا وهللنا كثيرا لانتفاضة تونس، وتحدثنا عن "ثورة شعبية"، و"نموذج ملهم للتغيير" بقوة الجماهير، ورددنا البيت الوحيد الذي نحفظه لأبي القاسم الشابي: "إذا الشعب يوما أراد الحياة.."، ماذا بعد أن اختطفت تونس المانشيتات وشاشات الفضائيات، وأحاديث المقاهى؟. للأسف غابت الإجابات برغم كثرة الكلام، ومعظمه رطان مرسل، وتعجل في التحليل، وتشفي في "نظام مخلوع" أخشى أن يأخذنا من التفكير في طبيعة "نظام مأمول"، ف"الانتفاضة الشعبية" ليست نهاية المطاف، بل في رأيي لم تكن العنصر الحاسم في التغيير، إنها مجرد بداية لمشوار طويل قد يحقق "الثورة الشعبية"، أو يصبح مجرد "فرصة تنفيس" تستغلها قوى داخل النظام لتحكم بنفس آليات السلطة القديمة مع تغير الوجوه والأسماء." أكرر: "قوى داخل النظام تحكم بنفس آليات السلطة القديمة مع تغير الوجوه والأسماء!!" * هل وصلنا إلى هذه "الخيبة" فعلا؟ - السؤال محرج ومتعجل، لأن المباراة لاتزال في الملعب، لكن النتيجة حتى الآن مؤلمة، فالوقت يتسرب ونحن نتحرك بعشوائية، وميول فردية استعراضية تركز على النجومية وحسابات المصالح الخاصة، ولذلك كتبت في أبريل 2011 مقالا بعنوان "الانقلاب" قلت فيه أننا "شارع انقلابي بامتياز".. هللنا للجيش وهتفنا "إيد واحدة"، ورفعنا أسهم اللواء الفنجري في بورصة النجوم بعد أدائه التحية العسكرية للشهداء، ثم سخرنا منه ومن "اصبعه" ثم جهرنا بهتاف "يسقط حكم العسكر"، ولم ندرك، ولم نحترم أن هذا "العسكر" كان شريكا أصيلا، وعاملا حاسما في نجاح ثورتنا. كان التطرف هو السلعة الرائجة، فالنظام جريح ويخفي أكثر مما يعلن، والشارع يتحرك من أقصى التأييد لأقصى الرفض بسهولة، بل أقول برعونة عجيبة، فهو شارع مكبوت خرج أخيرا من قمقم القهر والفقر إلى فضاء التطلعات الحالم، ويوتوبيا التعبير المفتوح بلا ضوابط من وعي ذاتي أو قوانين خارجية، وهكذا رايت مصر تخرج من ديكتاتورية القصر التي صاغها لويس الرابع عشر في صيحة "أنا الدولة" لتتجه بقوة إلى ديكتاتورية "الناشط" و"الثائر" و"العابر" الذي يزايد علي الجميع وهو يردد بتفاخر استعراضي "أنا الثورة". هذه "الأنا" ظلت تعلو وتتضخم على حساب صوت مصر، وصورتها التي خرجنا لأجلها، وكان محزنا لي ان أرى خيبة أمل هيلاري كلينتون بعد أن طلبت زيارة "ميدان التحرير"، فانكسرت الصورة المبهرة لميدان ال18 يوما، تحت ركام امبراطورية الباعة الجائلين والقاذورات التي احتلت المشهد. لماذا وصلت ثورتنا إلى هذا الحال البائس؟ وهل تخلى مبارك فعلا عن الحكم ليلة الحادي عشر من فبراير في السنة الحادية عشر من الالفية الثالثة؟ وهل بالإمكان أن تنتصر من جديد ثورة العيش والحرية والكرامة الإنسانية لتتحقق "نهضة شعب"، أو تصبح "أم الدنيا أد الدنيا"؟ وكيف يمكن أن يحدث ذلك؟ وهل تحقق خارطة الطريق بدستور 2014 وانتخابات الرئاسة المقبلة، ومايليها من إجراءات، ما أخفق فيه مشروع النهضة (الإخواني) ودستور الغرياني، وما سبقه وتلاه من إجراءات؟ الأسئلة مشرعة ومشروعة، والإجابة ليست عندي ولا عند فرد واحد منكم، الإجابة جماعية لايستطيع أن يقدمها إلا شعب، فإذا كانت ثورة 25 يناير، وما تلاها من مظاهر احتجاجية هي دليل ولادة وتبلور هذا الشعب، فلنثبت ذلك في صياغتنا لمستقبل بلادنا وأولادنا، وإذا كنا قطعانا ننتظر الراعي "الذي يحمل الخير"، أو الحامي الذي يجلب الأمن وحده، فاعلموا أن عصر مبارك مازال مستمرا، وأننا مازلنا رعايا ولسنا شعبا. [email protected]