ليس عندى أدنى شك فى أن إصدارات «المركز القومى للترجمة» هى من أهم المشاريع الثقافية المصرية فى ربع القرن الأخير. شىء مفرح إلى أقصى حد أن يصل عدد الكتب الصادرة عن المشروع إلى 1600 عنوان، كتب مترجمة عن شتى ثقافات الأرض، فبالإضافة إلى اللغات الأوروبية الأساسية التى دأب العرب على الترجمة عنها منذ افتتاح مدرسة الألسن فى القرن التاسع عشر، يستطيع القارئ أن يتمتع بترجمات عن الكورية والفارسية والهندية واليابانية. يصل عدد اللغات المترجمة إلى العربية إلى ثلاثين لغة، ويعتمد المركز سياسة الترجمة عن اللغة الأصلية، مما يضمن عدم فقدان النص جوهره فى رحلة المرور على أكثر من لغة. مر على عمر تلك المبادرة عشر سنوات، وبعد الاحتفال بصدور الكتاب رقم ألف عن «المشروع القومى للترجمة» الذى كان يتبع «المجلس الأعلى للثقافة»، استقل المشروع وتحول إلى كيان قائم بذاته: «المركز القومى للترجمة»، الذى يقود العمل فيه بدأب وصبر كتيبة من المثقفين المصريين الجادين المدركين أهمية التنوير فى عصر العشوائيات الفكرية. ومن عام 2006 إلى الآن أصدر المركز 600 كتاب، ولا يزال العمل مستمرا. يتضح لمتصفح عناوين الكتب محاولات المشروع الجادة تغطية شتى فروع المعرفة، فمن ترجمات كلاسيكيات الأدب العالمى (الإلياذة مثلا) ومسرحيات شكسبير وفيرجينيا وولف، إلى أدباء اليوم العظام مثل الكندية مارجرت أتوود وأديب نوبل يوسا. ومن فلسفة العلوم وفلسفات الأديان إلى موسوعة تاريخ السينما العالمية. ومن أدب الرحلات إلى النقد النسوى. كما أن المشروع يعيد إصدار الترجمات القديمة رفيعة المستوى (مثل ترجمات يحيى حقى لروايات ومسرحيات عالمية). أصدر المركز كذلك ترجمة بشير السباعى لموسوعة هنرى لورانس عن تاريخ القضية الفلسطينية فى ستة أجزاء. سياسة وعمارة وأساطير وأدب من الهند وفارس وكوريا واليابان. تمتد القائمة وتطول لتعبر عن حالة زخم معرفى هائل، نحن أحوج ما نكون إليه الآن. يعيد المشروع بضخامته ونبله إلى الأذهان مشاريع الترجمة فى مصر (بدءاً من «مدرسة الألسن فى القرن ال19 إلى حركة الترجمة فى بدايات القرن العشرين وفى الأربعينيات من القرن نفسه)، وهى المشاريع التى ارتبطت دوما بجهد تنويرى ضخ فى شرايين الوطن دماء معرفية جديدة، قاومت الظلامية والجهل وضيق الأفق. وما يزيد من قيمة المشروع هو وضوح توجهاته، فبالإضافة إلى محاولاته تغطية مجالات معرفية مختلفة، فهو أيضا يتجه بوعى إلى ثقافات الشرق. ويعكس هذا الاتجاه وعى القائمين على المشروع بوضع مصر فى عالم ما بعد الكولونيالية، حيث يتأكد الانتماء إلى البلاد التى عانت التجارب الاستعمارية نفسها، ولا يزال الكثير منها يرزح تحت وطأة النظم السياسية المستبدة. يبقى القول إن المشكلة الوحيدة فى هذا المشروع الضخم هى توزيع الكتب التى لا تصل بسهولة إلى جمهور القراء المتعطش للمعرفة، إذ إن علينا إما الذهاب إلى منفذ البيع الرئيسى فى المجلس الأعلى للثقافة أو انتظار معرض القاهرة للكتاب الذى يأتى مرة كل عام. إن مشروعاً بهذا الحجم لن يصعب عليه الوصول إلى القارئ. تحية واجبة إلى د.جابر عصفور، قائد كتيبة التنوير، وإلى كل المناضلين القائمين على المركز القومى للترجمة. شكرا لكم على تلك المنارة المضيئة فى زمن الجهل والتجهيل.