استطاع المركز القومي للترجمة أن يتخطّي كثيراً من السلبيات التي كانت سمة لمؤتمراته السابقة في مؤتمره "الترجمة وتحديّات العصر" (من الأحد إلي الأربعاء الماضي). صحيح أنّ الافتتاح أخذ الشكل النمطي نفسه، كلمات للمسئولين وممثلي الضيوف، وتكريم للفائزيْن بجائزة رفاعة الطهطاوي: مصطفي لبيب (2009)، وبشير السباعي (2010)، وأيضاً لأبرز المترجمين من مصر والعالم: محمد عناني، مصطفي ماهر، فاروق عبد الوهاب، ومصطفي لبيب، وبدرو مارتينيث، وديفيد جونسون ديفيز، وروجر آلن، واسم خليفة التليسي.. وصحيح أيضاً أنّ بعض الندوات خلت تقريباً من الجمهور الذي كان ينصرف إلي ندوات أخري تحضرها أسماء بارزة في حقلي النقد والترجمة، مثل الندوة التي ضمّت مني بيكر، وثائر ديب، وصبحي حديدي، وفيصل دراج.. إلا أنه برغم ذلك بدا كل شيء مخططاً له، بداية من انتقاء المتحدثين في الندوات، حيث كانت معظم الأبحاث تكمل بعضها، كما أنّه بدا ثمة ابتعاد عن القضايا التي تمت مناقشتها مراراً، كقضية المصطلح، وقصرها علي ندوات قليلة.. وبدا الحاضرون جادين في النقاش الذي يعقب الندوات، ربما بسبب إحساسهم بجدية المسئولين، وتخطيطهم الجيد تلك المرة، وأيضاً لإيمانهم بأن قضايا الترجمة أصبحت ملحة الآن في ظل سعينا للحاق بالعالم المتقدم أكثر من أي وقت مضي.. وكان اختيارا موفقاً إلي حد كبير أن تكون محاضرة "مشروع نقد العقل الإسلامي من خلال الترجمة العربية" التي ألقاها هاشم صالح هي أولي فعاليات المؤتمر. المحاضرة كانت بمثابة مدخل، ومقدمة معمقة لما يمكن مناقشته خلال أيام المؤتمر الأربعة. تناول هاشم قضية الترجمة من خلال ترجمته لمشروع محمد أركون "نقد العقل الإسلامي" ولم يتوقف عند حدود هذا الموضوع، أو ربما كان موضوعه محفزاً للخوض في عدّة مواضيع أخري علي رأسها علاقة الحداثة بالفكر الإسلامي بشكل عام، وأيضا دور الفلسفة في تغيير الواقع، مروراً بقضية المصطلح ومدي إمكانية التوفيق بين المصطلحات لدي المترجمين العرب. توصل هاشم إلي أن غياب الفلسفة عن العالم العربي لمدة 700 عام أدي إلي حدوث فجوة كبيرة لم يعد من السهل تجاوزها بين العالم العربي وبين الغرب، أصبح العالم العربي متمسكاً بتعاليم وفتاوي القرون الوسطي، وأصبح ينتقي من الحداثة ما يتواءم مع هذا الفكر أو يطوّعه ليتماشي مع أفكاره، من هنا اعتبر هاشم أن مشروعات الترجمة في العالم العربي، وعلي رأسها مشروع المركز القومي للترجمة "تناضل" لسد فجوة عمرها 700 سنة. ولكن متي وكيف حدثت هذه الفجوة؟ يجيب هاشم: حدثت عندما تكلس الفكر العربي وتوقف عند بعض المسلمات ورفض أن يتجاوزها، توقف عندما لم تضف إمبراطورية ضخمة كالإمبراطورية العثمانية فكرة واحدة علي صعيد الفكر الفلسفي، ولم تترجم ولو كتاب واحد من الفتوحات الفكرية التي انتشرت ونحن نائمون.
صمويل شمعون أصرّ علي اللحاق بندوته رغم تأخر طائرته ووصوله إلي الفندق قبلها بنصف الساعة. كلمة صمويل من ضمن كلمات أخري ركّزت علي المشاكل الحقيقية التي يعاني منها حقل الترجمة العربي الآن. قال صمويل إن كثيراً من مشاريع الترجمة الإماراتية مثل "ترجم" تتأسس بمنح مالية من الأمراء، ولكن المسئولين عن المشاريع يتحوّلون إلي ناشرين وهذا خاطئ، كان من الأفضل أن تذهب هذه المنح لمترجمين وناشرين عرب، مشيراً إلي أن جهات الترجمة تطبع عدّة نسخ لا تجدها -بعد ذلك- حتي في المكتبات العربية، مثل مكتبات المغرب والسودان واليمن، لأن مؤسسات الترجمة تنظر إلي هذه البلدان بخفة.. قضي صمويل ساعات في البحث علي الإنترنت عما يختص بشئون الترجمة في الوطن العربي: "وجدت مئات المقالات -لمن لهم الحق، ولمن لا يمتلكون الحق- تتحدّث عن الترجمة. لماذا يتحدث شاعر عن الترجمة؟ أنا أحترم من يتحدثون بنيّة صافية، وجدتهم يعترفون بأن هناك ازدهاراً في ترجمة الأدب العالمي، والفلسفة، والعلوم، ولكن مع ندرة في كتب البيزنس..فما حاجة اليمن والسودان للبيزنس؟!". النقطة الأهم في كلمة صمويل كانت في إشارته إلي الترجمة المعكوسة، من العربية إلي اللغات العالمية، قال إننا نتحدّث منذ سنوات طويلة عن هذا الأمر بدون أن يحدث شيء حقيقي. إن كثيراً من المسئولين يرغبون في الترجمة المعكوسة ولكنهم يخشون عاقبة ذلك، وأنا أتساءل في حال إقرار ترجمة ثلاثين رواية مصرية: من يملك الشجاعة ليختار الروايات الثلاثين؟! إنها عملية مربكة لأنها لا تقوم علي أساس صحيح، فمن المفترض أن تخاطب مؤسساتنا الناشرين الغربيين، هم من يختارون ما يلزمهم، ويكون دورنا فقط تمويل الترجمات التي ستقوم بها". في نفس الندوة قام سمير جريس بأكثر من دور، فقد حل مقرراً للندوة بدلاً من منذر عياشي الذي غاب بدون عذر، وتحدّث أيضاً كمحاضر، ورقته طرحت عدداً من المشكلات من واقع خبرته الشخصية. أن معوقات الترجمة تنبع من النص نفسه، فهناك غموض في مقاطع معيّنة من النص، أو إشارات لا يفهمها المترجم، يتغلب عليها المترجم بالقواميس والمراجع، غير أنّ هناك معوقات لا علاقة لها بالنص، فالمترجم العربي يقوم بدور مؤسسة غربية، هو من يجتهد للحصول علي نصّ جيّد، ثم يبحث عن دار نشر تتحمس لهذا النص، ثم يبحث عن جهة تدعم الترجمة: "معظم الناشرين العرب يريدون الحصول علي الترجمة مجاناً، حتي لو كانت خاصة بنص لأديب حاصل علي نوبل"، وأيضاً من العقبات ضعف مكافآت الترجمة التي لا تتيح للمترجم التفرغ والتركيز في مهمته، وأيضاً غياب المراجعة، وإخراج الكتاب الذي لا يُراعي فيه الناشر الفقرات المائلة، والفراغات، والكلمة الموضوعة علي ظهر الغلاف، كما أن عدم الاهتمام بالتوزيع يعدّ مشكلة كبري: "ماذا يستفيد المترجم لو ربح مكافأة جيدة وخسر القارئ؟!". أعطي جريس مثالاً علي الفارق بين عملي دور النشر الخاصة والحكومية من واقع تجربة خاصة، فقد نشر ترجمة رواية ألفريدا يلينك "عازفة البيانو" ولم يحذف الناشر الخاص (ميريت) حرفاً في الوقت الذي ترجم لها مصطفي ماهر روايتين أخريين صدرتا عن هيئة الكتاب حاذفاً كلمات اعتبرها مبتذلة، وأشار إلي مقولة ماهر: لو أنك ألبستها حجاباً وقدمتها للجمهور العربي سيكون شكلها مختلفاً. تساءل جريس ساخراً: هل من المفترض أن أحجب السيدة يلينك؟! حسام نايل في ندوة أخري حذف من البحث (بحسب ما تعلمت من جابر عصفور). الجملة التي وردت في ملخص البحث. نايل -الذي قال إنه لا يعرف التفكيك في الفرنسية وإنما في الإنجليزية مطبقاً ورقته علي مقولات لدريدا، رابطاً إياه بمبادئ للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي- تعرّض لانتقادات حادة من الحاضرين. فريد الزاهي قال إن ابن عربي أقرب إلي هيدجر لا دريدا، كما أنه لم يقصد في لغته (غشاء البكارة) بل كان يقصد (المهبل) مشيراً إلي أن الفيلسوف هجر كثيراً من الأمور التي تحدث عنها نايل وتركنا نحن منذ ثلاثين عاماً، نتساءل هل كان يقصد المرجئ؟ الإرجاء؟ المغايرة؟..كما أن منذر عياشي قال إنه من الصعوبة القول إننا نفهم دريدا عبر لغة وسيطة، وآثر نايل عدم الرد! منذر العياشي هاجم أيضاً مجدي عبد الحافظ بسبب ما وصفه ب"تكسير اللغة المخزي" في كلمته عن تحديات الواقع واتجاهات الترجمة في الوطن العربي، غير أن مدير الجلسة عبد السلام المسدي قال إن هذا الانتقاد حق أصيل له هو فقط باعتباره المدير. وحينما تحدث عبد الحافظ قال بضيق إن هذا شأن كل العرب في عدم الالتفات إلا للأمور الشكلية.. وإن منذر كان ينبغي أن يعطي بالاً لفكرة أنه لم يقرأ من ورقة!
وفي الجلسة التي عقدت تحت عنوان "الترجمة والعولمة" لم يكن لما قيل في الجلسة أي علاقة بعنوانها، ربما باستثناء د.مريم كوك التي تحدثت عن دور الترجمة وأثرها كوسيلة للتفاهم والتقارب بين الشعوب، وتحدثت أيضاً عن إمكانية مساهمة الترجمة في تغيير رؤية المستعمر، قالت إنه وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر طرح الأمريكيون سؤالهم التاريخي "لماذا يكرهوننا؟" ولكي تجيب الحكومة الأمريكية علي هذا التساؤل موّلت مجموعة من مراكز الأبحاث في العالم العربي، في محاوله لفهم الطبيعة العربية أو التعرف عليها بشكل أكبر: " لكني كنت أؤمن دائماً بمقولة إدوارد سعيد بأنّ الحل في ترجمة الأدب، وكان هو الأقرب فعلاً والأكثر قدرة علي توضيح الأمور". الدكتور فاروق عبد القادر، لم يلتزم بعنوان ورقته "الترجمة وتحديات العصر"، وتحدث عن تجربته الخاصة في عالم الترجمة، والأمر نفسه تكرر مع د.محمد أبو حطب، فبعد حديث طويل عن الندوات والمؤتمرات العلمية التي شارك فيها تحدث أخيرا عن بدايات ظهور الترجمة في العالم العربي، قال إن البداية كانت قبل ظهور الإسلام، وبعد ظهوره استخدمه النبي في التواصل مع الدول التي فتحها المسلمون، أما فيما يتعلق بالنصوص المقدسة فقال أن ترجمة مارتن لوثر كينج للإنجيل ساهمت إلي حد كبير في انتشار المسيحية، في حين أن معظم ترجمات القران كانت من قبل غير المسلمين "وكانت سلبية في الغالب" ورغم ذلك ساهمت هذه الترجمات أيضا في رغبة العديد من سكان العالم التعرف علي هذا الدين. ربما كان عدم التزام المتحدثين بالعنوان الرئيسي ودفع المناقشات عقب الجلسة إلي موضوع مغاير تماماً، حيث دار الحديث حول عملية اختيار الأعمال العربية للترجمة وحجم مبيعات هذه الأعمال داخل العالم العربي وخارجه، وبالطبع كان علاء الأسواني النموذج الأبرز عند كلّ من تحدث. الموضوع بدأته الكاتبة هالة البدري عندما أشارت إلي أن أقصي ما توزعه الأعمال العربية بالخارج لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسخة _باستثناء الأسواني- وأيضاً باستثناء بعض الأعمال "غير الجيدة علي المستوي الفني" مثل رواية "بنات الرياض"، التي تتحدث عمّا يقال إنه المسكوت عنه داخل المجتمع السعودي، في حين لا توزع الأعمال العربية الجيّدة علي نطاق واسع. إيزابيلا كاميرا أشارت إلي أن هناك مشكلة يتعرض لها الأدب العربي تتمثل في اهتمام الغرب بكتب الجوائز كالأعمال التي تفوز بالبوكر، ووصفت ذلك بالخطر الكبير الذي "يحجم" عملية الاختيار، بينما رفض د.فاروق عبد القادر فكرة المؤامرة وقال إنّ عملية النشر تحكمها في النهاية فكرة الربح والخسارة، والناشر يريد بالطبع أن يربح، لكن التعليق النهائي لمريم كوك كان هو الأكثر قبولاً بين الحاضرين، قالت إنّ عملاً ك"بنات الرياض" لا يعطي صورة سيئة عن المجتمع بقدر ما يعطي صورة سيئة عن الأدب نفسه.
تكرر الأمر مرة أخري في الندوة التي عقدت تحت العنوان نفسه وشارك فيها د.محمد حافظ دياب، ود.جلبير الأشقر، ود.نبيل راغب حيث خرج معظم المتحدثين عن الموضوع الرئيسي للندوة، رغم أن د.محمد حافظ دياب كان قد بدأ كلامه بالحديث عن الترجمة مشيراً إلي أنها فعل أيديولوجي بامتياز لأنّ المترجم يتّخذ موقفاً من العالم بما يترجمه الا انه خاض بعد ذلك في تفاصيل كثيرة جداً حول تاريخ الترجمة، ومعوقاتها ومستوياتها، والمؤسسات المتخصصة في الترجمة، ومعاجم الترجمة حتي ضاعت الفكرة الرئيسة التي أراد أن يتحدث عنها. وهو ما دفع إبراهيم العريس مدير الندوة لمقاطعته ثم التعليق عليق بأنه بدأ بداية جيدة ثم أرهق نفسه بالحديث حول كل مشاكل الترجمة في العالم: "كان من الأفضل له ولنا لو ركز فقط علي النظرية". مداخلة د.جلبير الأشقر كانت عبارة عن تلخيص لكتابه الصادر مؤخراً عن المركز القومي للترجمة حول علاقة العرب بالمحرقة النازية، حتي أن العريس علق أيضاً علي هذه المداخلة قائلاً: "طوال الكلمة كنت أتساءل متي سيربطها بموضوع الترجمة، إلي أن فهمت أنه فعل ذلك ولكن بشكل مبطن".
طرحت نظرية المؤامرة ولكن بشكل موسع هذه المرة حيث تركزت كلمه د.نبيل راغب حول هذا الأمر، قال راغب بشكل صريح إنّ الغرب يريد "تنميطنا" حتي يعجز العقل العربي عن التفكير لنفسه، مشيراً إلي أنّ ذلك يتم عبر عده مستويات منها السينما، والجامعات التي تُبني الآن في العالم العربي تحت أسماء اللغات كالجامعة الأمريكية والألمانية: "كان اللغة هي الأساس وليس العلم الذي يدرس بهذه اللغات" ووصولاً إلي محلات الأكلات السريعة، وأفكار الأكثر مبيعاً وغيرها، في المقابل لم يعد العالم العربي يجيد إلا الشكوي، وعجز العقل العربي عن استيعاب المعطيات العلمية والثقافية والسياسية التي تتغير كل يوم. العريس لم يشأ أن تمر هذه الكلمة أيضاً دون تعقيب لكنه كان أكثر حدة هذه المرة فوصف فكر د.نبيل راغب ب"العنصري" وقال إنّ كلمته تركزت حول فكر المؤامرة في حين أنه لا يوجد عقل عربي واحد حتي يعمل الغرب علي تغييره أو التأثير فيه. تعقيب العريس لم يرق للدكتور نبيل فعلق محتداً بأنه كان مستشاراً للرئيس السادات: "أعرف جيدا أن السياسة هي في النهاية مؤامرة". في المناقشات رفض د.طلعت الشايب مقولة حافظ رجب بأن الترجمة فعل أيدلوجي، موضّحاً إنّ الفعل الأيدولوجي هو الاختيار ووجهة نظر المترجم، وليست الترجمة نفسها، وقال: "الأمر الجدير حقا بالمناقشة هو حدود المترجم مع النص الأصلي.. طانيوس عبده مثلاً رفض موت هاملت عندما ترجم المسرحية الشهيرة"، وأشار الشايب إلي أن الترجمة من الممكن أن تستخدم كآلية دفاعية للثقافة، مشيراً إلي أن أمريكا تختار ما ترغب في أن يقوم الآخرون بنقله عنها وترجمته، مؤكداً علي أن ذلك أحد أساليب الحرب الثقافية الباردة بين الشعوب، أسلحتها السينما والأدب والجوائز وبالتأكيد سيكون الكتاب علي رأسها، بالتالي فإن الغرب يصدّر لنا فعلاً ما يود ترجمته. وهو ما دفع العريس ليعلق بأن العالم العربي وحده يعاني مما أسماه ب"تخلف النخب"، والجماهير في كل بلاد العالم لا تقرأ إلا ما هو سهل وسريع: "آمل أن أري يوماً بهاء طاهر يُقرأ بالمترو في فرنسا، لأنه وحتي الآن لا يحدث هذا إلا مع نجيب محفوظ وحده".
الترجمة فعل سياسي بامتياز. قال صبحي حديدي في جلسة أخري عُقدت تحت عنوان "الترجمة في عصر ما بعد الاستعمار". الجلسة جمعت بين د.مني بيكر، وثائر ديب وأدارها فيصل دراج. شرح حديدي فكرته فقال إنّ فعل الترجمة يستهدف تأكيد ذات المترجِم علي الآخر المترجَم وليس مجرد التواصل معه، أشار حديدي إلي أنّ تاريخ ممارسة الترجمة انطوي دائما علي حالة من حالات انعدام التكافؤ بين الشعوب واللغات، ليس في المستوي الاجتماعي الثقافي فحسب، بل علي مستوي علاقات القوة والإخضاع. أصرّ حديدي علي أن الترجمة "فعل قوة" لا يمكن أن يُمارس بمعزل عن هذا الفكر، مدللاً علي ذلك بعدة أمثلة كان من أهمها أن الترجمة تستخدم غالباً لتجميل مشاريع الاستعمار وليس مجرد تقديمها، ومنها أيضا أن ترجمة إدوارد لين -وهي من أوائل الترجمات لألف ليلة وليلة- لم تهتم إلا بالاستيهامات الجنسية وأفكار الأفضلية والمقارنة: "فهو يقول في شروحاته علي طول الترجمة نحن لسنا كذلك إنه المواطن العربي فقط.. هذه ترجمة كارثية"، ووصل الأمر إلي حد أن المترجم الذي ترجم عمر الخيام قال إن الكتاب يكتسب أهميته من ترجمته فقط! وضع حديدي النصوص السعودية المترجمة مؤخراً في السياق نفسه وقال إنها تجذب المترجمين لأنها تعطي القارئ فرصة للتلصص علي المسكوت عنه في الواقع السعودي، وأيضاً علي ما يحدث في القصور، وعزز ذلك تقديم أسامة بن لادن باعتباره الصورة الأساسية للمسلم وللإسلام. أشار حديدي إلي مشاريع تجري الآن لنقل القيم الأمريكية والأوروبية للعالم تعتمد في الأساس علي الترجمة: "صرنا الآن أمام أوروبا متخيلة، تريد إعادة طرح نفسها علي العالم بصورة مختلفة، وفي تقرير للورا بوش كتب بالنص أن هناك مطالب بترجمة الولاياتالمتحدة للعالم". في السياق نفسه جاءت كلمة مني بيكر حيث تناولت وضع الأطراف المنغمسة في الصراع وتعاملها مع عملية الترجمة، تساءلت: "كيف تتعامل هذه الأطراف مع دور المترجم كالجهات العسكرية والإعلام الرسمي أو السائد والإعلام البديل ومنظمات حفظ السلام والمنظمات غير الحكومية وغيرها؟ وكيف يسهم المترجمون في صياغة وترويج السرديات المتداولة في مجتمعاتنا ووسائل إعلامنا عن حروب معينة كحرب العراق، فمثل هذه السرديات تلعب دوراً هاماً في تشكيل الصراع نفسه وبلورة ملامحه؟". هناك رواية تري في المترجم ضحية أو وغداً _تقول بيكر- فعدد كبير من الرواة- بالذات مراسلو الحرب- يضعون المترجم في دور الضحية التي تعاني من عنف الحروب، ففي سياق الحروب المعاصرة في العراق وأفغانستان وغيرها تصور الروايات المترجمين كضحايا يعانون من عدم مبالاة السياسيين والهيئات العسكرية التي توظفهم وتستغل مهاراتهم، ومن المثير للاهتمام أن التقارير الصحفية التي تصور مترجمي الحرب كضحايا تؤكد أيضاً أن مواطنين كثيرين من نفس البلد الذي ينتمي إليه المترجمون يعتبرونهم خونة. تحدثت أيضاً عن فكرة الثقة في سياق الحرب ولفتت إلي أنه يعتمد إلي حد كبير علي الانتماء العرقي والديني "فالمترجم العراقي أو الأفغاني مثله مثل المترجم الأميركي من أصل عراقي أو أفغاني أو حتي المترجم المسلم؛ لا يمكن أن يكون موضع ثقة الجهات الرسمية الأميركية أو البريطانية، ويعتبر المترجمون المحليون، أي الذين يتم تجنيدهم من داخل منطقة الحرب نفسها بمثابة مؤرخين غير رسميين للحرب. كلمة ثائر ديب دخلت إلي عمق "النظرية ما بعد الكولونيالية" وقال إنّ الأسئلة الأولية في باب "الدراسات الثقافية" و"النظرية ما بعد الكولونيالية" هي:ما الذي يترجم؟ ما الذي ترجم؟ متي ترجم قياساً إلي زمن صدوره في الأصل؟ كيف ترجم من حيث حضور المترجم المستوعب والناقد؟ وأخيراً ما كان أثرة في الثقافة العربية؟ الجلسة تحوّلت في النهاية إلي محاولة لتفسير نجاح رواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان" وكانت البداية مع د.فيصل دراج حيث روي تفاصيل جلسة جمعته مع فاروق مردم بك سأله خلالها عن سر نجاح هذه الرواية في فرنسا، حتي تكتب اللوموند مثلا أن نجاح هذه الرواية فاق نجاح نجيب محفوظ، تفسير دراج _كما قال في الجلسة- أن المدخل المنطقي هو التلصص، فالغرب يريد أن يقرأ ما يعتبره تلصصاً علي الواقع العربي المدهش بالنسبة له "مع التسليم بأن الغرب يريد دائماً شرق ضعيفا مسليا ولا قيمة له". وفي تعليقه قال سيد محمود إن نجاح الأسواني يحتاج إلي نظرة أبعد من ذلك لأنه "نجاح حقيقي". وعلق دراج في النهاية بقوله إنّ نجيب محفوظ والغيطاني رغم توزيعهما الكبير إلا أنهم لا يزالان لم يتجاوزا النخبة المثقفة هناك، ووصول رواية الأسواني الأولي إلي الجماهير العادية هو ما يستحق البحث والدراسة.