أريد أن أعود هنا لمعضلة تناقض وجود نمو اقتصادى عام فى مصر فى ظل حالة من اليأس (العام أيضاً) تسيطر على قطاعات واسعة من المجتمع. لن أتكلم هذه المرة عن صعوبة المعيشة الناتجة عن الغلاء الذى نتج إلى حد كبير عن وجود قوة شرائية هائلة فى بعض قطاعات المجتمع المتمتعة بالثراء، إنما أريد أن أتكلم عمن انتفع من هذه الطفرة الاقتصادية إلى حد ما، أى الذى أكل وشرب وارتاح ويريد الآن أن تكون له كلمة فى إدارة مصر، ربما لأنه متصل بالعالم الخارجى، ولذلك يعرف مجتمعات أخرى لدى الناس فيها كلمة فى عملية اتخاذ القرار، لاسيما عن طريق انتخاب ممثلى الشعب.. الفئة التى أتكلم عنها ممتعضة ليس لأنها مهددة بالجوع، إنما بالأساس لأنها تعتقد أنه يجب أن يكون لها صوت أعلى ومكانة أهم فى تحديد مستقبل البلاد. هذه هى الفئة التى ربما سوف تكون مستهدفة فى المرحلة المقبلة، على الأخص، سيكون المستهدف هو ذلك الجزء من تلك الفئة الناشطة على شبكة الإنترنت فى مدونات وفيس بوك وغيرها، الذى فضح معنى ومضمون «الصورة التعبيرية» المفبركة فى بلد كتوم مكتوم، الذى يتداول المعلومات والنقد اللاذع لأحوالنا بطريقة تتضاعف طردياً مع الزمن، طريقة مخيفة فعلاً فى نظر نظام صار صديد المرض يتدفق من جسده، هذا الجزء المجتمعى الذى صار يسخر، بل يحتقر عامة، الإعلام الرسمى المعاق بأمراض الشلل والجهل والطبقية السلطوية وعدم المصداقية، وكلها أشياء تجرده ليس فقط من مضمون إنسانى، حتى إنه يبدو كأنه ناتج عن عقول ميكانيكية لا تعرف «المحسوبية»، إنما أيضاً من مضمون زمنى- أى أنه مثلج داخل شعاراته المجهزة لدرجة فقدانه القدرة على التطور أو النظرة للعالم بطريقة مغايرة عن أنماط تصوراته.. فالمصداقية لا تعنيه فى الأساس، لأنه ليس من بين أهدافه فهم العالم ونقله وشرحه، إنما هدفه هو فرض نظرة ليست ناتجة عن معطيات الواقع، بل عن نزعة تسلطية فقدت مع الزمن أى قاعدة نظرية تصلها بالعالم الملموس. معنى ذلك أنه يروج الأساطير الهادفة للسيطرة على المجتمع، إنه يروج عالماً موازياً للواقع الذى يعيشه الناس لكى يقنعهم بأن ما يرونه من خلال تجاربهم اليومية العديدة ليس حقيقياً، بل ما يباع على أنه حقيقى هو على العكس صورة تمت فبركتها ودمجها بغايات السلطة والسيطرة والقمع. يبدو أن النظام المصرى، الذى نجح فى بناء إحدى أحسن شبكات الاتصالات فى العالم الثالث، قد وقع فى شر أعماله. إنه يعيد حساباته الآن لفهم كيفية التعامل مع تداعيات نجاحه النسبى فى مجالات الاقتصاد وتكنولوجيا المعلومات، لأنه عاجز عن المنافسة فى عالم معلوماتى مفتوح.. فربما كان من السهل على النظام إيجاد وتعيين وتوظيف بعض المهارات البشرية ذات الكفاءة فى مجالات المعرفة السلبية سياسياً وأخلاقياً مثل تكنولوجيا المعلومات.. إنما فى مجال مثل الإعلام، فأعظم العقول يصيبها التحجر والفقر الفكرى عندما تجد نفسها مجبرة عن طريق المصالح المشتركة، والإغراءات الكثيرة المطروحة من قبل السلطة، لكى تدافع عن وضع سياسى واجتماعى وثقافى يفتقر إلى أبسط مقومات الجدية والمصداقية والحجج المقنعة لبقائه. الحقيقة هى أن الحضارة تتطور، كما هو الحال فى مجال الأحياء، عن طريق التناسل، أو النسخ، وعن طريق الإبداع، أى عن طريق عشوائية التجربة التى تنتج عنها فى النهاية طفرات إيجابية تؤدى إلى التطور، والحقيقة الأخرى هى أن ذلك لا يحدث بطريقة فعالة فى المجتمعات البشرية إلا فى ظل مناخ تسوده حرية التفكير والتعبير- وحرية الخطأ. ويمكن سرد مراحل نسخ ذاكرة المجتمعات البشرية إلى أربع أحقاب أساسية. فى أولاها نُقل التراث الإنسانى عن طريق الكلام المجسد فى الأساطير الشفهية، ثم عن طريق نقل المعرفة بالدواوين والكتابة، ثم نقل المعلومات بطريقة أكثر انتشارا عن طريق الطباعة، ثم أخيراً نقل الأخبار بالصوت والصورة، وتداولها ونقد وتحليل المضمون «ديمقراطياً» بسرعة الضوء من خلال ملايين البشر المرتبطين عضوياً بطرق إلكترونية عبر الإنترنت والفضاء. مشكلة النظام المصرى أنه أراد استخدام نتائج التقدم دون تفعيل مقوماته، فصار تقدمه الاقتصادى والتقنى الملحوظ فى بعض المجالات هدفا لمن يريد تدمير كل الإنجازات ومهاجمته، بدلا من أن يكون هالة شرف، لأن النظام لم يستثمر فى منظومته الفكرية قدر واحد فى المائة مما استثمر فى منظومته الإعلامية العقيمة الواهية والمضحكة، أو فى تقنيات تطور مجالات ضيقة يتم استخدامها الآن فى غير صالحه، لتصبح إنجازات الكفاءات العالية التى قامت بتنفيذها وكأنها عبء على النظام المتصلب، الذى لم يستطع التأقلم سياسيا مع تلك الإنجازات أو التعامل معها بطريقة جدية ومجردة من محاولات القمع. كل هذه الأشياء ليست من أخطاء «الحكومة الذكية»، بخبراتها التقنية الممتازة فى مجالات المعلومات والتكنولوجيا والاقتصاد، إنما هى من أخطاء «الحرس الغبى»، المتمثل فى القوى الحقيقية المتحجرة و«المتخفية»، التى تدير مسار هذه البلاد رغم أنف الكل، كالثعبان «القصلة»، المنقض على فريسته فى معاشرة خانقة. [email protected]