عندما تتحدث رموز - من أمثال أحمد زويل ومحمد البرادعى - ينبغى أن ينصت الجميع إليهم باهتمام وأن يستوعبوا جيدا ما يقال، خصوصا إذا كان فى أمور تخص الشأن العام وليس فى مسائل فنية متخصصة، فهذه رموز أثبتت جدارتها واستحقاقها، وحققت إنجازات عظيمة يعترف بها العالم من مشارق الأرض إلى مغاربها ويقدرها حق قدرها، وحفرت لنفسها مكانا ومكانة فى تاريخ الإنسانية وقلوب الناس، ولأنها لم تحقق ما صنعته مصادفة، أو بالتزلف والفهلوة وإتقان فنون النصب والاحتيال والعلاقات العامة، أو باستخدام نفوذ المال وسطوة السلطة، وإنما بما تملكه من مواهب شخصية وبما بذلته من عرق وكفاح ومثابرة وجدية. وربما كان أهم ما يلفت النظر فى هذين العملاقين بالذات، ويجمع بينهما فى الوقت نفسه, أنهما تفوقا خارج أوطانهما (وأحيانا رغما عنها). كان بوسع هذين العملاقين أن يظلا حيث هما بعيدا، وأن ينغمسا فى العمل الذى يتقنانه والذى صنع لكل منهما مجدا ربما فاق أكثر أحلامهما جنوحا. غير أن سلوكهما الشخصى والاجتماعى يدل فى الوقت نفسه على أنهما ليسا من ذلك النوع الذى يمكن أن يكتفى أو يستمتع بالراحة ورغد العيش فى تلك المجتمعات الجميلة الهادئة التى أتاحت لهما الفرصة ليحققا ما حققاه، وأن يحاولا نسيان كل شيء عن وطنهما الذى لا يأتى منه غير «وجع الدماغ»، مثلما فعل كثيرون غيرهما من قبل وسيفعل كثيرون من بعد، فمن الواضح أنهما ينتميان إلى ذلك النوع من البشر الذى لا يستطيع أن يحس بكيانه إلا حين يعيش هويته ويتصالح معها، ولا يستمد طاقته إلا من جذور مجتمعية صنعتها تربة خصبة احتضنت بذرته وأنبتتها. لذلك لم يكن غريبا أن يعيش فيهما الوطن حتى بعد أن رحلا بجسديهما بعيدا عنه، وهاهما اليوم يحاولان، كل من موقعه، أن يقدما لوطنهما الغالى شيئا، حتى ولو مجرد فكرة أو نصيحة، مسلحين بخبرة طويلة وبإنجازات تعطى لما يقولان وزنا ثقيلا لا يتمتع به غيرهما. لم أكن قد سمعت عن أحمد زويل شيئا حتى بداية التسعينيات حين بدأ اسمه يتردد بقوة فى أجهزة الإعلام عقب حصوله على جائزة الملك فيصل فى العلوم والفيزياء عام 1989 وخاصة حين أصبح، اعتبارا من 1991، أحد المرشحين لجائزة نوبل فى الكيمياء. ولأن العلوم البحتة هى أكثر الميادين تعبيرا عن تخلفنا، فقد أحسست بالفخر حقا أن يرشح عربى مصرى لجائزة نوبل فى هذا العلم. زاد من إعجابى بالرجل أنه ينتمى إلى نفس الجيل الذى أنتمى إليه (النصف الثانى من الأربعينيات)، ومن مواليد نفس المحافظة (البحيرة)، وتخرج فى نفس العام ومن نفس الجامعة (الإسكندرية:1967). وبلغ إعجابى به حدا دفعنى لزيارة مكتبه ومعمله فى جامعة كالتك حتى قبل أن يحصل على نوبل. ففى عام 1996 أتيح لى أن أعمل أستاذا زائرا فى معهد جرونباوم والتدريس بقسم العلوم السياسية فى جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس. وكانت مفاجأة سارة بالنسبة لى أن أجد هناك زوجة المرحوم مالكوم كير، أحد أهم الأساتذة الأمريكيين الدارسين والمحبين للعالم العربى الذى اغتالته يد آثمة أثناء عمله رئيسا للجامعة الأمريكية فى بيروت فى زمن الحرب الأهلية. فقد اعتادت هذه السيدة الرائعة، والتى كانت تؤدى فى ذلك الوقت عملا تطوعيا للإشراف على برنامج فولبرايت للتبادل العلمى، أن تستضيفنا فى منزلها الجميل المطل على المحيط، اقترحت ذات يوم أن تصطحبنا فى رحلة علمية كان من أهم معالمها متحف وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وجامعة كالتك التى يعمل بها زويل! وتحمست كثيرا وذهبنا بالفعل إلى مكتبه وزرنا معمله الصغير، لكن العالم الكبير لم يكن موجودا للأسف، وقيل لنا حينئذ إنه فى جولة خارج الولاياتالمتحدة. ولم أتوقف منذ ذلك الوقت عن متابعة أخبار (بلدياتى) زويل، خصوصا بعد حصوله على جائزة نوبل! تقضى الأمانة هنا أن أعترف بمكانة الرجل فى قلبى، تأثرت كثيرا بسبب «الزفة» الإعلامية التى أحيط بها فى مصر والتى حضرت بنفسى واحدة منها فى دار الأوبرا ذات يوم. فقد بدت لى هذه المظاهر الاحتفالية من النوع البلدى الرخيص الذى لا يليق برجل مثله. وخيل إلى وقتها أن الرجل الكبير استسلم لهذا العبث الصغير وربما راح يتوق إلى تقمص دور «الخليفة» فى مولد سيدى إبراهيم الدسوقى الذى كثيرا ما شاهده متفرجا فى صباه! غير أنه سرعان ما تبين لى أننى كنت على خطأ، وتيقنت، من خلال أحاديثه التى حرصت على متابعة معظمها مستقصيا، أن الرجل ليس مجرد عالم نبغ فى تخصص دقيق لا دراية له بسواه، وإنما هو واحد من كبار علماء العصر ومتابع جيد وواع لما يدور حوله فى مختلف فروع المعرفة وأنه، وهذا هو الأهم، يكن حبا صادقا لهذا البلد ويريد أن يفعل شيئا حقيقيا من أجله، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، وأنه لم ينخدع بتلك «الزفة المزيفة». أما محمد البرادعى فلم أكن أعرف عنه أنه أكثر من كونه ابنا لنقيب سابق للمحامين اشتهر بمواقفه الشجاعة ضد الاستبداد، وأنه بدأ حياته العملية كدبلوماسى فى الخارجية المصرية قبل أن يصبح موظفا دوليا، وأنه لم يكن مرشح الحكومة المصرية حين فاز بمنصبه الحالى كرئيس للوكالة الدولية للطاقة الذرية خلفا لهانز بليكس عام 1997. وكان أداؤه كرئيس لفريق المفتشين على البرنامج النووى العراقى وموقفه فى مجلس الأمن عشية الحرب على العراق هو الذى لفت نظرى، وربما أنظار كثيرين إليه، فبدأت أتابعه منذ ذلك الوقت، وسعدت بحصوله عام 2005 على جائزة نوبل! ولأن النظام الرسمى اعتاد أن يتمسح بكل مصرى يحصل على جوائز دولية، كى «ينوبه من الحب جانب» كما يقول المثل المصرى الدارج، فقد اندهشت كثيرا من موقف الحكومة المصرية التى لم ترسل حتى بوفد إعلامى لتغطية هذا الحدث الكبير. وحين رحت أتقصى عن السبب اكتشفت أنه يعود إلى شخصية رسمية كبيرة كانت تسعى للحصول على الجائزة فى نفس العام، وهو سبب لم أجده مقنعا، رغم صحته. فكتبت مستنكرا هذا الموقف الخسيس، ثم راح البرادعى يكبر أكثر فى نظرى حين بدأت الولاياتالمتحدة توجه له انتقادات علنية عنيفة وصلت إلى حد الإعلان عن اعتراضها رسميا على ترشيحه لتولى منصب مدير عام الوكالة لفترة ولاية ثالثة، غير أنها لم تعثر على مرشح قادر على منافسة البرادعى الذى تحداها، ونجح فى سابقة دولية نادرة تدل على تميز الرجل ومكانته، ثم جاءت الصفعة الكبرى حين حصل الرجل الذى رفضته الولاياتالمتحدة على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع الوكالة التى يديرها. ولأن محمد البرادعى رجل قانون ودبلوماسية، وبالتالى سياسة، فقد كان من الطبيعى، رغم عدم معرفتى الشخصية به، أن يكون هو أول اسم يرد على ذهنى حين طالبنى القراء بترشيح شخصية تصلح لإدارة مصر خلال مرحلة انتقالية للتحول نحو الديمقراطية كنت قد اقترحتها فى سلسلة مقالات نشرتها منذ شهور تحت عنوان: «كيف لمصر أن تخرج من هذا النفق المظلم». تكرر ظهور أحمد زويل ومحمد البرادعى على القنوات الفضائية خلال الأيام الأخيرة، وهو ما حثنى للكتابة عنهما اليوم. فقد استضافتهما منى الشاذلى فى برنامجها المتميز «العاشرة مساء» واستطاعت بذكائها ولباقتها وبساطتها وحضورها الجميل الهادئ الذى يبعث على الاحترام أن تدير معهما حوارا عميقا ومفيدا، بعد ذلك بأيام قليلة حل زويل ضيفا على صالون الأوبرا الذى يديره الأستاذ أسامة هيكل ونقلته قناة دريم أيضا، ومشاركة أساتذة كبار فى الشعر (فاروق جويدة) والطب (محمد غنيم) والعلوم الاجتماعية (السيد ياسين)، فجاء اللقاء متعة فكرية وعقلية راقية. المدهش أن كلا الرجلين الكبيرين، وبدون اتفاق أو تنسيق مسبق، قال كلاما خطيرا يكاد يكون متطابقا، فبالإضافة إلى حديثه عن أبحاثه الخاصة بالتصوير رباعى الأبعاد وعن تطور تطبيقات العلم فى مجالات أخرى، كتطبيقات نظرية «الكوانتم» فى مجالات الإنترنت والأسلحة وغيرها، قال أحمد زويل: 1- لن يتحقق تقدم فى ظل الفساد الحالى القائم على تحالف السلطة والمال. 2- لن تحدث نهضة علمية، حتى لو ضاعفت مصر ميزانيتها عشر مرات، إلا فى ظل مناخ تسوده الحريات الأكاديمية. 3- لا صلاح للنظام التعليمى إلا فى ظل إصلاح سياسى حقيقى. أما محمد البرادعى فقد قال كلاما مشابها أضاف إليه ضرورة تعديل الدستور والعمل على إقامة دعائم لنظام ديمقراطى كشرط لا غنى عنه لأى نهضة. ما معنى هذا الكلام؟ معناه ببساطة وبوضوح أنه لا أمل فى أى نهضة مصرية أو عربية إذا سارت الأمور على ما هى عليه، وأن عدم القيام بإصلاح سياسى حقيقى سوف يفضى بنا إلى الانتحار أو الموت البطيء. لذلك لم أفاجأ بظهور أبواق تهاجم البرادعى وتتهمه بالسعى لتقديم نفسه سياسيا، أو تتعمد تجريح أحمد زويل بالادعاء كذبا أنه يتقاضى 50 ألف دولار فى كل ظهور تليفزيونى له فى دريم. لا تعرف النظم العربية القائمة كيف تستفيد من العقول الراجحة لأبنائها، وتفضل التعامل مع حملة الدفوف والمباخر لا مع أصحاب الكلمة الصادقة. وهنا تكمن حقيقة المأساة التى يعيشها عالمنا العربى. الآراء الواردة فى هذا المقال تعبر عن وجهة النظر الشخصية لصاحبها وليس بصفته أمينا عاما لمنتدى الفكر العربى. ■