جمد المطجن البصاص فى مكانه وأمسك بالحسين مشيراً له بعدم الحركة عند سماعهما وقع أقدام الجند، ونظر عبر الجدار فوجد الشبح فى الزنزانة الأخرى لا يتحرك فيه سوى عينين تبرقان. بعد لحظات سُمعت خطوات الجنود تبتعد حتى تلاشت تماماً، وعندها همس المطجن لجار الزنزانة الأخرى: من أنت بحق الأبالسة وكيف حفرت الجدار لتصل إلينا؟ فأجاب الشبح: أنا الشيخ شهاب..أدخلونى بالله عليكم لأروى لكم قصتى. تعاون المطجن مع الحسين و أخذا بيد الشيخ الطاعن فى السن إلى داخل حجرتهما وأجلساه على الأرض. أخذ الرجل يتفرس فى وجهيهما فى دهشة و هو يلهج لله بالحمد. ما بالك يا رجل، ستظل على هذه الحال كثيراً؟ سأله البصاص. قال الشيخ: اعذرنى يا بنى فأنا لم أطالع منذ عشرين عاماً سوى وجوه الحراس، وأنتم بالنسبة لى بمثابة أمل منحه الله لى بعد أن كاد يدركنى اليأس. قال الحسين: هلا قصصت علينا قصتك يا شيخنا؟ أجاب الرجل: قصتى يا بنى هى قصة الغدر والخيانة، هل تعرفان من أكون؟. أجابا فى نفس واحد: كلا. فقال: أنا الشيخ شهاب، عالم الرياضيات والفلك والفلسفة. مؤلفاتى تملأ الأندلس من طليطلة حتى غرناطة ويعرفوننى فى فرنسا وفى بلاد الغال ولى تلامذة من الحجاز والشام ومن مصر. فقال البصاص فى دهشة: وما الذى ألقى بعالم، بهذا الجلال، فى غياهب السجن معنا؟ ثم أردف: حقاً إن السجن ملىء بالأحرار والشرفاء من أمثالنا! فأغرق الحسين فى الضحك وقال للشيخ شهاب: لو عرفت من الذى تحدّث تواً لما أمسكت نفسك عن الضحك..هذا هو المطجن البصاص عضو فرقة الجندرمة الذى قام وصحبه من الجنود بترويع المدينة ونهب المحال ومعاونة أبناء الأعيان فى اغتصاب العذارى من الحرائر، وهو هنا معنا فى انتظار الحكم عليه بعد أن قتل المغنية الرومية إيزابيلا عشيقة مخدومه همام بن عليش الكوارشى. صاح المطجن حانقاً: لعنة الله عليك يا رجل ، أكان لابد أن تفضحنى أمامه؟ ثم وجّه حديثه للشيخ: وأنت يا مولانا هلا أخبرتنا من قتلت ومن سرقت و نهبت؟ أم أنهم أتوا بك هنا فى خلوة علمية لتكمل دروسك و تجاربك؟ ضحك شهاب فى مودة و قال: لقد سمعت بقصتك أيها البصاص من حراس السجن، ولم أكن قبلها أعرف أن الكوارشى له ولد يسمى همام.. آه يا للأيام، إن الكوارشى كان جاراً وصديقاً لى منذ الصغر ثم فرقت بيننا الأيام والأهواء، أنا اتجهت للعلم وهو اهتم بالتجارة ومضى يكنز المال لأجل أبنائه، فانظر كيف انتهى به الحال.. يا لحسرة قلبه على ولده الذى فسق فى الأرض ومضى يستأجر القتلة الأوباش لنحر النساء. صاح البصاص قاضباً: رويداً يا عم الشيخ وتحسس كلامك، يكفى ما ألاقيه من عذاب الضمير!. فتفرس شهاب فى وجهه ملياً ثم قال: هذا الوجه لا ينبئ بأن صاحبه يتعذب ضميره، لكن على أى الأحوال فإن الله قد وسعت رحمته الخطاة والجناة..ونظر شهاب حوله ثم أبدى دهشته من الطعام الموجود بالزنزانة، فعلّق الحسين قائلاً: من حظى السعيد مزاملتى قاتلاً محترفاً عرف كيف يخدع وحوش السجن ويوهمهم بأنه يملك كنزاً مخفياً فى قاع النهر، وقد أطلق أطماعهم من عقالاتها وجعلهم يحسنون إليه ويطعمونه من طعام الحراس لا من طعام المساجين، وكان هذا من حظى ونصيبى. قاطعه المطجن قائلاً: وماذا كنت عساك قائلاً لو أبصرت مائدة همام الكوارشى يا ثرثار؟ كف عن اللغو واترك الشيخ يخبرنا عن سبب وجوده فى السجن. قال الشيخ شهاب: أتى بى إلى السجن اثنان من الأشرار المناكيد.. أحدهما للأسف أخى والآخر وزير فى الحكم!. من يكون أخاك ومن هو الوزير؟ سأله الحسين فأجاب: أخى، هو الشيخ عجينة، هل تصدقون؟ أجاب الحسين مدهوشاً: أخوك هو عجينة الواطى قبحه الله ولعنه فى كل وقت! نعم نصدق يا مولانا، أنا أصدق لأننى أحد ضحاياه والمطجن طبعاً يصدق لأنه عاش عمره يعمل فى خدمة أمثال عجينة ويعرفهم جيداً. قال المطجن: ومن الوزير الذى شارك أخاك فعلته؟ قال الشيخ شهاب: الوزير لوسى. رد الحسين فى دهشة: لوسى الحفار؟ أليس هو الوزير الذى أتوا به من حانة اليخاندرو حيث كان يقدم الخمر للزبائن و كانوا يلوطون به آخر الليل؟ قال الشيخ شهاب: هو بعينه، وأردف: لقد حدث هذا منذ عشرين عاماً ولعلكم كنتم صغاراً ولا تعون ما يحدث. قال الحسين: لقد وعينا على الحياة، ولوسى الملعون، هذا، وزير فى الحكم حتى ظننا أنه موجود منذ مائة عام. قال شهاب: لقد أراد السلطان أن يعاقب أهل الولاية بعد أن تعرض لمحاولة القتل بسهم مسموم أطلقه عليه أحد الرعية يوم عيد جلوسه، فأقسم البيكيكى بعدها أن يأتى لهم بأقل الرجال شأناً وأهونهم أمراً وأشدهم خنوثة ليوزّره عليهم عقاباً لهم، ولما سأل المستشارين والبطانة المحيطة أن يحضروا له شخصاً بهذه الصفات، أجمعوا على أن لوسى الذى يعمل عند اليخاندرو الذى اشتهر بالحفر على الخشب هو الشخص المطلوب. وهكذا أصبح هذا الغلام الأمرد بين عشية وضحاها وزيراً له إيوان وله خدم و حشم، يسكن قصراً منيفاً، ولديه فرسان أشداء يتقاضون من بيت المال رواتب باهظة، تم استحضارهم خصيصاً لأجل تلبية طلباته الماجنة!. هذا وقد لاقى هذا الاختيار ترحيباً كبيراً من مملكة قشتالة ومن فرنسا التى منحت الرجل مباركتها الروحية. وبطبيعة الحال صرخ الرعية من هول ما حدث وهرعوا إلى الشيوخ والحكماء يطلبون منهم التدخل لدى السلطان وإقناعه بعاقبة ما فعل فى الدنيا والآخرة، غير أن الشيوخ نكصوا على أعقابهم وأحجموا عن التدخل متعللين بخشيتهم من فتنة بين العباد، وعندما استنجد الناس بالشيخ عجينة، شيخ الجامع الكبير، دهمهم الخبر المروع أن عجينة نفسه اعتاد أن يطأ الغلام منذ سنوات، وكثيراً ما أحضره إلى قصره، ولهذا فهو من أشد المتحمسين لاستوزاره!. قال المطجن: أنا أعرف كل هذا وأكثر منه، ولى أصدقاء بالجندرمة كانوا يسهرون على حراسة ليالى لوسى وعجينة الممتدة. قال الشيخ شهاب: فى ذلك الحين لم أستطع السكوت عما يحدث وتوجهت لزيارة عجينة وبصحبتى حشد غفير من الشعب الغاضب وطلبت منه أن يعود إلى الله ويتوقف عن الخلاعة والمجون مع الوزير لوسى، وهددته برفع أمره لقاضى القضاة وأننى سآتى بالشهود ليضبطوه مع المخنث وليتحمل عاقبة ما سيحدث. من الواضح أننى نجحت فى إخافته لأننى وجدته يلين على غير عادته معى ويظهر التأثر لكلامى ويتظاهر بالتوبة، وهو يضمر الشر. وبالفعل قام بالاتفاق مع لوسى بإحكام مؤامرة اتهمانى فيها بالتعامل مع الأعداء لأن كتبى ومؤلفاتى تدرس فى بلادهم! على الرغم من أن القاصى والدانى يعلمان من هو الذى يظاهر الأعداء ويواليهم ويعمل فى خدمتهم. وهكذا نجح الفاسقان فى إقصائى عن طريقهما، وانتهى بى الأمر سجيناً أبدياً فى سجن الأدغم.. هذه هى حكايتى باختصار. اقترب البصاص من الشيخ شهاب وقال له مدعياً التأثر: حكايتك مست قلبى يا شيخنا وأنا أريد أن أتوب عن كل الآثام التى عشت حياتى منغمساً فيها، أريد بداية جديدة شريفة.. فهل تساعدنى؟ نظر الشيخ شهاب فى عينيه و سأله ضاحكاً: هل حقاً تريد التوبة يا بصاص وتقبل بتحمل تبعتها؟ فقال المطجن بعد تردد: بصراحة لا أريد تحمل تبعتها.. أنا أريد التوبة التى تنقذنى من الموت، هل لديك منها؟.. وهنا نظر الحسين إلى الشيخ شهاب وانفجرا فى الضحك مما قاله البصاص.. التائب!