كان للسلطان البيكيكى دور أساسى فى كل المصائب التى حاقت بالمسلمين فى الأندلس. فإلى جوار جهله وخوار همته، كان يستمتع بالخيانة ويراها من آيات العبقرية، وكان يطيب له أن يجمع وزراءه ويقص عليهم فى سعادة وفخر جانباً من الدسائس والمكائد والوشايات التى ارتبطت باسمه، ولهذا لم يترك معركة تدور ضد المسلمين سواء من جانب القشتاليين أو من جانب الأراجونيين إلا وكان له فيها نصيب وإسهام غير منكور. فعند سقوط قرطبة كانت قوة من فرسانه تحارب إلى جوار الملك فرناندو، وعند اجتياح بلنسية كان يقدم للأراجونيين المؤن والسلاح ويمدهم بالمعلومات عن مواقع الحصون ومدى منعتها وجوانب الضعف والقوة لدى المسلمين، وعندما حاصر القشتاليون مدينة جيّان كانت قواته تسير جنباً إلى جنب مع فرسان سنتياج والإسبان. وقد نجح على مدى سنوات حكمه الطويلة فى إفساد العباد وتخريب ضمائرهم حتى جعل بعضهم يلجأ للعمل فى خدمة الأعداء أسوة بسلطانهم الخائر. وقد طاب للسلطان البيكيكى دائماً أن يقرب إليه الأسافل والجهلاء وذوى التاريخ الأسود، بينما كان يحمل نفوراً فطرياً من الأذكياء والموهوبين.. وعلى قدر ما كانت بلاده تعج بالأدباء والشعراء لم يضبطه أحد يوماً يردد قصيدة أو يطرب لسماع أغنية، وكان ينتقى شعراء البلاط من العاطلين عن الموهبة بسبب عجزه عن تقييم الغث من السمين. وقد تحدّث عنه الشيخ عجينة لخاصته فأخبرهم بأن الرجل يصلى وراءه فى أعياد المسلمين من دون وضوء ومن دون أن يكون حافظاً لأى قدر من القرآن ولو من قصار السور. بعد سقوط جيّان أصبحت أشبيلية هى الحاضرة الكبرى التى عليها الدور، وقد أدرك العباد أنه ليس لغُمتهم من دون الله كاشفة، فأكثروا من الصلاة والعبادة وجعلوا زيارة الأضرحة طقساً ثابتاً ودعوا الله أن يخلصهم من السلطان وأعوانه، وسرت بينهم همهمات من فرط اليأس ترحب بقدوم الفرنجة بل وتتعجله. على ضفة نهر تجاريتى كان المطجن البصاص يستعد للغوص من أجل استخراج الكنز عندما تناهى إلى سمعه صوت حوافر خيل تضرب الأرض. انتبهت حواسه فأسرع بالاختباء بين أعواد الزرع، وما هى إلا لحظات حتى أقبل اثنان من الفرسان ووقفا قبالته على حافة النهر دون أن يبصراه، لكن رؤية الجوادين المربوطين إلى شجرة أثارت دهشتهما، وعندما تبادلا الحديث فهم المطجن على الفور أنهما من أعوان السحلاوى الذى كان يقوم بتسيير دوريات من رجاله تمسح الوادى للقبض عليه، على العكس من شرطة الولاية التى أصابها الوهن واليأس وروّجت لفكرة فراره ووصوله إلى مراكش. شعر المطجن بالخطر يتهدد مشروعه وخشى أنّ وجود الفرسين قد يدعو إلى الظن بأن هذا هو مكان الكنز فيأتى مزيد من الفرسان إلى هذه البقعة ليكونوا فى انتظاره، وقرر التصرف على الفور فاندفع كالعاصفة نحو الفارسين وغرس سيفه فى ظهر أحدهما فأسقطه من فوق جواده مضرجاً فى دمه، فلما انتبه الفارس الآخر هجم على المطجن بسيفه لكن هذا الأخير تفادى الضربة وجذبه إلى الأرض ودارت بين الرجلين معركة عظيمة أصيب فيها المطجن بجرح فى ذراعه، ولما تكسّر سيفاهما من ضراوة النزال استكملا الصراع بالأيدى والتحما ببعضهما فى جولة وحشية تهون إلى جوارها معارك الضوارى فى الغابة، وكان الرجل الآخر لا يقل عن المطجن شراسة وقوة. وعلا صوتهما فى الفضاء فكأنه زئير الليوث، ثم تدحرجا إلى حافة النهر وتبادلا الضرب العنيف، ثم سقطا فى الماء دون أن تلين عزيمة أى منهما، واستمرت المعركة فى قلب الماء زهاء ساعة بين وحشين آدميين، لكن المطجن كان أكثر احتمالاً فحسم الأمر فى النهاية وتمكن من لى عنق الرجل فكسر رقبته وترك جثته تغوص لأسفل ثم سبح نحو الشط القريب ودخل بين الزرع فى الوقت الذى انطلق الجوادان اللذان حملا الرجلين الذين صرعهما المطجن البصاص وغابا فى البرية. سقط المطجن على الأرض مقطوع الأنفاس ثم تبين أن ذراعه ينزف فقام بربطه، وخارت قواه ثم راح فى غيبوبة طويلة. عندما أفاق نظر حوله فوجد جثة الرجل الذى صرعه طافية على النهر وجثة الآخر ينتهبها النسور إلى جواره، فخشى من افتضاح أمره وأسرع بالعمل على الفور فقام باحتضان حجراً ضخماً ثم ملأ رئتيه بالهواء وأسرع فقفز إلى النهر. هوى به الحجر إلى الأسفل سريعاً فلما لامس القاع ترك الحجر وأبصر كنزه الثمين قابعاً فى موضعه، فعمل على تحريره من عقاله وسحب الصندوق من بين الصخور ثم أخذ يدفعه لأعلى ويصعد معه، هكذا حتى طفا ومعه صندوقه على صفحة النهر ثم رسا به على الشط وقام بإخراجه. ما كاد المطجن يخرج من النهر حتى أبصر أمامه رهطاً من الفرسان فى انتظاره. مادت به الأرض ولم يدر ماذا يفعل، فى الوقت الذى أسرع الرجال بالالتفاف حوله والإحاطة به من كل جانب. كانت هذه قوة من رجال السحلاوى الذين افتقدوا زميليهم فخرجوا يقتفون أثرهما ثم عثروا على آثار الموقعة وجثة صاحبهم وقد نهشتها الطيور، وأبصروا بالجوادين المربوطين والملابس المتروكة على الشط فعرفوا أن صيداً ثميناً سيكون من نصيبهم، وها هو المطجن البصاص أمامهم وبين أيديهم. اقترب الرجال من المطجن وقبل أن تلمسه أياديهم كان قد نكص على عقبيه وألقى بنفسه فى النهر تاركاً كنزه الثمين وأخذ يسبح ووراءه فرقة من القتلة المحترفين يطاردونه فى الماء، كانت عاصفة من المشاعر تجتاح المطجن وهو يعطى ظهره للكنز الذى بنى كل آماله عليه، وفكر فى البندرية التى ضاعت منه وفى الموت الذى ينتظره، ثم كلّت ذراعاه من التعب وأدرك أنه هالك لا محالة فاستسلم لمصيره، فحملوه إلى الشط وأحكموا وثاقه، وكادت تصيبهم لوثة عندما فتحوا صندوقه وأبصروا الجواهر واللآلئ، فرفعوا الصندوق على ظهر جواد ومضوا ومعهم قنصهم الثمين فى رحلة العودة إلى زعيمهم السحلاوى القابع فى قلعة الشمقمق. لم يشأ السحلاوى أن يعلن الخبر فى المدينة وأوصى رجاله بالكتمان، ثم مضى من فوره إلى قصر الكوارشى الكبير فزف إليه النبأ السار وأخبره أن البصاص القاتل بين يديه. تهللت أسارير الكوارشى وظل يلهج بشكر الله وحمده وقال للسحلاوى: مكافأتك ستكون كبيرة جداً..أين الرجل؟ ضحك السحلاوى من خبر المكافأة ولم يشأ أن يطلع الكوارشى على الكنز الذى استولى عليه وقال : لم أفضل أن أحضره معى مخافة أن يلمحه جنود السلطان فيعودون به للسجن ويفلت الأمر من بين أيدينا. ثم أضاف: الآن يمكننا أن نضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، نستجوب المطجن ونعرف مكان البندرية ثم نقتله، فيسقط بذلك ركن مهم من أركان القضية ويعود إليك همام من سجنه يا سيدى، ونترك السلطان على اعتقاده بأن المطجن قد عبر إلى مراكش كما أخبره صاحب الشرطة. استحسن الكوارشى الفكرة فخرج بصحبة السحلاوى ومضى تحت جنح الظلام صاعداً الجبل فى الطريق إلى قلعة الشمقمق.