بقدر ما شعر الكوارشى الكبير بالسعادة بعد هروب المطجن البصاص، لدرجة أنه صار ينثر الأموال فى الطرقات على السابلة، لعلمه أن غيابه يفتح الباب لبراءة ولده همام من تهمة المشاركة فى قتل المغنية إيزابيلا، بقدر ما تحطمت سعادته القصيرة بعد أن قام المجرم الأثيم باختطاف ابنته والفرار بها إلى حيث لا يعلم أحد. أرسل الكوارشى مراسيل كثرًا إلى السلطان البيكيكى يرجوه العمل على استعادة هيبة السلطنة، والقبض على البصاص لتعود اليه ابنته وقرة عينه. ومن ناحية أخرى شملت جهوده استدعاء السحلاوى قاطع الطريق إلى القصر، وبصحبته الشيخ عجينة الذى لم يكن يترك مصيبة تحل بالبلاد وبالعباد دون أن يفيد منها ويحقق من ورائها نفعاً! ويروى السحلاوى عن هذه الزيارة أن الكوارشى كان منهاراً تماماً لأن المصائب قد تتالت عليه وهو على فراش المرض، وبدا أن الحياة التى ابتسمت له طويلاً قد أولته ظهرها، ففجع فى آخر عمره بجريمة ابنه الوحيد الذى كان يعده سنده وذخره وحامل راية التجارة من بعده، ثم تأتى الطامة الكبرى وتختفى البندرية ويطول غيابها. فى هذا اللقاء كان الرجل الكبير مكسوراً من شدة الحزن، وقد قام على غير المعهود منه بالتوسل إلى السحلاوى واستعطافه لدرجة وضع ثروته كلها تحت تصرف قاطع الطريق. قال الكوارشى: سأمنحك كل ما أملك من أراض وجواهر وأموال ومدائن عامرة. فقط أريد رأس المطجن البصاص، وأريد ابنتى سالمة. والحقيقة أن السحلاوى قد أظهر التأثر لنكبة الرجل الذى يشبه مصيره مصير الأندلس ذاتها ، تلك التى تضعضعت أركانها وتكاثرت عليها النوائب من كل جانب بعد أن كانت منارة للبشرية. فى هذه الجلسة لم ينس الشيخ عجينة أن يطلب الغذاء والتحلية وشراب الينسون، ولا أن يطلب عند الرحيل صندوقاً من الجواهر لزوم المصروفات النثرية! وهو الأمر الذى أثار حفيظة السحلاوى الذى كان رغم إجرامه التاريخى يملك شيئاً من الحس الإنسانى وبعض القدرة على إخفاء مطامعه، على العكس من الشيخ الخليع الذى كان فاجراً فى التعبير عن أطماعه، والذى لم تشغله أبداً سوى ملذاته وشهواته. وفى جلستهما وحدهما بعد أن غادرا قصر الكوارشى ووصلا إلى قصر الشيخ عجينة الواطى، وجلسا يحتسيان الشراب بينما الراقصات يتحلقن حولهما، والغلمان يشغلون ردهة القصر، أعاد السحلاوى على مسامع الرجل امتعاضه من النذالة المكشوفة التى أبداها، فى الوقت الذى كان يتعين عليه أن يخفف من لوعة الرجل المكلوم، خاصة أن أيادى الكوارشى البيضاء تبصم على حوائط القصر الذى بناه له لقاء خدمات سابقة. قال عجينة:ألا تعلم يا رقيق الفؤاد أن القدر الأكبر من أموال الكوارشى قد جمعها من خلال التصاقه بالسلطان البيكيكى ونالها دون جهد حقيقى، وما هى فى حقيقتها إلا نفحات آثمة ممن لا يملك إلى من لا يستحق؟ فلماذا بحق الشيطان لا نأخذ نصيبنا منها؟ ثم إن الكوارشى قد أخذ بكل درهم دفعه لى طوال السنوات السابقة فتاوى من النوع الفاخر سهلت له أعماله ونصرته على منافسيه، وأنا لست مديناً له، ثم إن رجلاً مثلك يا سحلاوى ورجلاً مثلى لا يؤمنان بالله أو بالآخرة والبعث إلى آخر هذا الكلام العجيب.. جنّتهما الوحيدة هى على الأرض وفى هذه الحياة، فلماذا نرق للكوارشى أو لغير الكوارشى؟ وأضاف : لقد فهمت من كلامك العطوف أنك لا تريد نصيبك فى صندوق الجواهر..إذن سآخذه كله، وخذ أنت الثواب!. قال السحلاوى فى هلع: يا لك من ملعون.. ألا يستطيع المرء أن يمازحك أبدأ، إنى أريد نصيبى طبعاً وإلا قطعت رقبتك. قال عجينة ضاحكاً:كنت أعلم أنك لن تقطع شوطاً كبيراً على طريق الشرف، وأن همتك ستقصر بك عن بلوغ آخره.. أنا الآن مطمئن عليك. قاطعه السحلاوى: آه لو علم الناس أن شيخ الجامع الكبير لا يؤمن بالله، إذن لقطعوا لحمك وأطعموه للكلاب. قال عجينة: هلا خرست قليلاً حتى ننظر فى خطة للعمل.. اسمع يا سحلاوى..من الغد أنت تطلق رجالك يفعلون ما عجزت عنه جندرمة البيكيكى، تلك التى أصاب رجالها الوهن، بعضهم من فرط التخمة والمال السائب، وبعضهم من العمل المضنى والجوع الكافر، عليك أن تجعلهم يمسحون التلال المحيطة بالمدينة، ويجوبون القفار على الجهة الأخرى من النهر، حتى كهف العفريت اجعلهم يذهبوا إليه ويدخلوه بحثاً عن الوغد، واطلب منهم ألا يعودوا إلا بصحبة رأس المطجن البصاص، أما أنا فسوف أعلن غداً من فوق المنبر عن مكافأة ضخمة يرصدها الكوارشى لمن يأتيه بالمطجن حياً أو ميتاً، أو لمن يساعد فى عودة البندرية. كان همام الكوارشى فى تلك الأيام العصيبة قد استسلم لليأس من طول مكوثه بالسجن، وكذلك من افتقاده البندرية التى كانت تزوره كل صباح تحمل إليه الطعام والأخبار، فصار يأكل كثيراً، وأصبح يلتهم معظم ما يحويه السماط اليومى الذى يُمد داخل غرفته الفاخرة آتياً من قصر أبيه. وأغرق نفسه بالملذات فقام باستدعاء تشكيلة من جواريه الروميات ليدخلن على نفسه السرور، وكلف حراس السجن بأن يحضروا له الخلطات القوية التى يقوم بتخليقها «أبو حصيرة» العطار اليهودى، فصاروا يجلبون إليه يومياً قدراً من القلقشند وبعض الحبشتآن المطحون فضلاً عن النخشبرت الجبلى، فكان يسفّ منه حتى يغيب عن الوعى فيحملوه إلى فراشه ويتركوه حتى الصباح. وفى نفس سجن الأدغم الذى حظى فيه همام الكوارشى بإقامة ملوكى، كان يقبع فى زنزانة رطبة شديدة القذارة الحسين الذى زامل المطجن وشاركه الغرفة قبل أن يخرج ذات ليلة مع رجال شمروخ ولا يعود مرة أخرى. كان الحسين من خلال الشق الذى أحدثوه بالجدار يلتقى كل يوم بالشيخ شهاب ويواصلان الحفر دون كلل، يحدوهما الرجاء أن يتمكنا ذات يوم من أن يبصرا نور الشمس. وقد خففت الصحبة عليهما وعثاء الأيام العسيرة، ووجد كل منهما فى صاحبه أنيساً يركن إليه، وكان الشيخ شهاب قد فقد ولده الوحيد فى معركة العقاب فاعتبر الحسين ابناً له، وقد عقد كلاهما العزم إذا ما كتبت لهما النجاة واستطاعا الفرار من سجن الأدغم أن يعبرا البحر إلى مراكش ومنها إلى مصر بعيداً عن السلطان البيكيكى ورجاله المجرمين، وبعيداً عن بقية ولاة الأندلس الذين فقدوا النخوة وعملوا فى خدمة الأعداء. وكان الشيخ شهاب يحسن الظن بالمماليك الذين استولوا على حكم مصر وكانوا رغم جورهم محاربين أشداء أصحاب حمية وغيرة على الديار، فقاموا للصليبيين يصدون غاراتهم ويردون حملاتهم المحمومة التى لا تنقطع، وكان يأمل فى أن يطلعهم على حقيقة الأمر فى الأندلس ويطلب منهم العون فى إنقاذ دولة المسلمين فى أوروبا، بعد أن مُنيت بالفشل الجهود التى بذلها بنو حفص الذين حكموا أفريقيا (تونس) فى إنجاد الأندلس، فضلاً عن إخفاق الموحدين فى مراكش فى عمل أى شىء بعد أن صار الجنود القشتاليون أقرب إليهم من إخوانهم وبنى جلدتهم.