فى كل يوم من أيام هذا الشهر سوف تقرأ مقالة مستمدة من إسلاميات العقاد، طموحى من نشرها أكبر بكثير من توضيح معلومة أو زيادة علم أو نقل معرفة، طموحى الحقيقى أن يحدث لنا - مع نهاية الشهر الفضيل - انقلاب استراتيجى فى طريقة تفكيرنا، أن نميز بين جواهرنا الحقيقية والمزيفة. فاطمة بنت محمد.. أمها خديجة بنت خويلد التى تميزت بحنكة العقل وحنان الأمومة، فبقى محمد، صلى الله عليه وسلم، يذكر لها هذه الأيام حتى ختام حياته، ويتفقد ذكراها أعواماً بعد أعوام. منها ولد للنبى جميع أبنائه عدا إبراهيم، ماتوا جميعاً فى حياته عدا فاطمة. ترعرعت فاطمة وهى تنعم بالحنان من قلبين كبيرين، حنان جاد رصين، يشملها به أب مات أبناؤه، ولا عزاء له غير عبء النبوة الذى تنوء به الجبال، وتشملها به أم جاوزت الأربعين، وبقيت لها الابنة الصغيرة بعد فراق الذرية بالموت، أو بالزواج والانتقال، فكان الحنان الذى يعلّم الوقار، ولا يُعلّم الخفة والانطلاق، منطوية على نفسها، لا تعرض لشىء غير شأنها وشأن بيتها، ولم تتعود أن تسأل عما لا يعنيها، سمعت القرآن الكريم من أبيها وزوجها، ووعت أحكام فرائضه. ولدت قبل البعثة المحمدية، وتزوجت فى الثامنة عشرة من ابن عمها على بن أبى طالب، كان غائباً فى حاجة للرسول، فلما أقبل تبسم له النبى، وقال: يا على إن الله أمرنى أن أزوجك فاطمة، فخرّ على ساجداً لله، فلما رفع رأسه قال الرسول: بارك الله لكما وعليكما وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيب. جهزت فاطمة وما لها من جهاز غير سرير ووسادة حشوها ليف وإناء وسقاء ومنخل وقدح ورحاءين وجرتين. عاشت فاطمة فى كنف الحنان الأبوى والنور المحمدى، يأتى إلى بابها كل صباح فيأخذ بعضادتى الباب، ويقول: السلام عليكم أهل البيت، الصلاة، ثم يتلو: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً». وإذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يثنى بفاطمة، ثم يأتى بيوت نسائه. فاطمة الزهراء، نحيلة يمازجها الشحوب، تشكو حيناً بعد حين، فيعودها النبى مواسياً، زارها يوماً وهى مريضة، فقالت له: إنى وجعة، وإنه ليزيدنى أنى مالى طعام آكله، فبكى الرسول وقال: يا بنية، أما يرضيك أنك سيدة نساء العالمين! وزارها يوماً وهى تطحن بالرحى، وعليها كساء من وبر الإبل، فبكى وقال لها: «تجرعى يا فاطمة مرارة الدنيا لنعيم الآخرة». ولم يكن الرسول يضن على فاطمة لو كان معه مال، ولكنه شظف العيش الذى كان يعمهم جميعاً، وجعله يخير نساءه بين التسريح لينعمن بالدنيا وزينتها، وبين الصبر على ما هو صابر عليه. يبكى محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يرى أحب الناس إليه وأقربهم منه جائعة مرهقة، ثم لا يملك أن يشبعها ويعفيها من عنائها، وهو يملك كل شىء فى الجزيرة العربية، ثم يسأل السائلون عن برهان نبوته! إن لم يكن هذا برهان النبوة، فبرهان أى شىء يكون؟!!