فى كل يوم من أيام هذا الشهر سوف تقرأ مقالة مستمدة من إسلاميات العقاد، طموحى من نشرها أكبر بكثير من توضيح معلومة أو زيادة علم أو نقل معرفة، طموحى الحقيقى أن يحدث لنا - مع نهاية الشهر الفضيل - انقلاب استراتيجى فى طريقة تفكيرنا، أن نميز بين جواهرنا الحقيقية والمزيفة. كانت النبوة تختلط مع السحر والكهانة، وتقوم على الغرائب والأعاجيب ونبوءة التنجيم والقدرة على تسخير نواميس الطبيعة، وقد عرفت ديانات العبريين نبوءات السحر والكهانة والتنجيم، كما عرفتها الشعوب البدائية، فكانوا يقصدون صموئيل ليدلهم على مكان الماشية الضائعة وينقدونه أجراً على ردها، وكانوا يعولون على النبى يعقوب عليه السلام فى التنجيم، ووجب على النبى فى عرفهم أن يكون مستعداً بكراماته ومعجزاته فى كل وقت كلما أريدت منه، بل وصل الأمر إلى ما يشبه مباريات الرياضة بين فريقين متنافسين، وقد ثبت لهم غلبة أنبياء «يهوا» على أنبياء «بعل» على إثر مباراة من هذا القبيل فى التنبؤ والإنذار بالأخطار. ثم جاء محمد، رجل ليس بساحر ولا بكاهن ولكن إنسان كسائر الناس، لا يعلم الغيب، لا يملك خزائن الأرض «قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إنى ملك، إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ»، ولا يستطيع دفع السوء عن نفسه، فضلاً عن قومه «قل لا أملك لنفسى نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله»، فالأمر كله لله عز وجل «ليس لك من الأمر شىء». رجل لا يعرف صناعة الخوارق والمعجزات فيقول لمن يطالبه بها «سبحان ربى، هل كنت إلا بشراً رسولاً؟» (الإسراء: 93) وحينما أتته المعجزة طائعة بكسوف الشمس وقت دفن ابنه إبراهيم وتهامس المسلمون أنها كسفت حزناً عليه لم ينسه الحزن أمانة الهداية للمؤمنين فبادرهم بقوله: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنخسفان لموت أحد ولا حياته. جاء محمد لأن العالم يحتاجه، كان عالماً متداعياً قد شارف على النهاية، فقد الطمأنينة كما فقد النظام، بيزنطة خرجت من الدين إلى الجدل، وفارس تعبد النار، والعرب يعبدون الأوثان ويفتكون بالضعيف، عالم يتوق إلى الخير والجمال. فى صميم قريش، ولد محمد يتيماً بين رحماء، عريق النسب، قليل المال، أعدته فطرته للرسالة العالمية، صبوحاً وسيماً، دمثاً مألوفاً، جامعاً للرقة والمحبة، والصدق والأمانة، عطوفاً ودوداً، محباً للناس، باقياً على المودة، يلقى مرضعته وقد جاوز الخمسين فيقول: أمى.. أمى، ويعطيها من الشاة والإبل ما يغنيها فى السنة الجدباء، يواسى طفلاً فى موت طائر يلهو به، ويوصى المسلمين بالدواب: «دخلت امرأة النار فى هرة حبستها، ودخلت بغى الجنة فى كلب سقته». عاطفة إنسانية شملت القريب والبعيد، إذا لقيه أحد من أصحابه قام معه، وإذا تناول يده لا ينزعها، وإذا قدم من سفر بدأ بملاعبة الصبيان، أشد حياء من العذراء من خدرها، وأصبر الناس على أقذار الناس. وفوق ذلك أمانة يثق بها العدو قبل الصديق، يودعونه الأمانات وهم يناصبونه العداء. قالت الدنيا: أحتاج محمداً، وقالت الآخرة: أحتاج محمداً، وليس بعد كلمتى الدنيا والآخرة مجال لقائل!