فى كل يوم من أيام هذا الشهر سوف تقرأ مقالة مستمدة من إسلاميات العقاد، طموحى من نشرها أكبر بكثير من توضيح معلومة أو زيادة علم أو نقل معرفة، طموحى الحقيقى أن يحدث لنا - مع نهاية الشهر الفضيل - انقلاب استراتيجى فى طريقة تفكيرنا، أن نميز بين جواهرنا الحقيقية والمزيفة. الإنسان فى القرآن الكريم مخلوق مكلف لا يعرف الخطيئة الموروثة، ولا يحاسب بذنب أبيه ولا تزر وازرة وزر أخرى. ارتفاعه وهبوطه منوطان بالتكليف وقوامه الحرية، فهو بأمانة التكليف قابل للصعود إلى قمة الخليقة أو الهبوط إلى أسفل سافلين. بهذه الأمانة ارتفع فوق مكانة الملائكة، لأنه قادر على الخير والشر، فله فضل على من يصنع الخير لأنه لا يقدر على غيره ولا يعرف سواه. وربما هبط إلى دون منزلة الشياطين. ولايزال فى الحالتين قابل للتوبة بعد أن تكرم الله بفتح باب التوبة مهما أذنب وأخطأ. ويستعرض العقاد طبيعة الشيطان كما وردت فى القرآن الكريم. لقد عرف الإنسان الشر والخير منذ قديم الأزل وكانت عقيدة الهند أن المادة كلها شر فلا خلاص منه إلا بالخلاص من الجسد، بينما كانت عقيدة مجوس فارس أن الشر من عند إله الظلام والخير من عند إله النور. مصر الفرعونية تصورت أن الإله سيت شرير مع خصومه خير مع أتباعه. ولم تتميز الديانة العبرانية بفاصل حاسم وكانوا ينسبون العمل الواحد إلى يهوا مرة وإلى الشيطان مرة فجاء فى كتاب صموئيل الثانى أن الرب حينما غضب على إسرائيل أمر داود بإخصائهم، بينما جاء فى كتاب الأيام أن الشيطان هو الذى وسوس لداود. وانفصلت الصفات الإلهية والشيطانية بعد ظهور المسيحية وأصبح للإله عمل وللشيطان عمل ولكنه عمل جسيم لأنه سمى فى الأناجيل باسم رئيس هذا العالم وإله هذا الدهر، فقد كانت له مملكة الدنيا ولله ملكوت السموات، وبلغ من نفوذه سقوط الجنس البشرى بعد الخطيئة ووجوب الكفارة بالفداء. فى الإسلام الشيطان هو قوة الشر ولكنها قوة بلا سلطان على ضمير الإنسان ما لم يستسلم لها بهواه وضعفه «إن عبادى ليس لك عليهم سلطان» و«إن كيد الشيطان كان ضعيفاً»، «وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى». والشيطان لا يعرف الغيب «لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا فى العذاب المهين» وبهذه العقيدة الوجدانية الفكرية أقام الإسلام عرش الضمير. من مفاخر الإسلام أن المسلم حين يمارس عباداته لا يحتاج لوسيط أو كهانة. يصلى حيث أدركه موعد الصلاة ولا تتقيد صلاته الجامعة بمراسم كهانة ويؤمه فى هذه الصلاة من هو أهل للإمامة. ويصوم ويفطر ويزكى ويحج إلى بيت لا سلطان فيه ولا حق عنده لأحد. وذلك لينبه ضمير الإنسان إلى وجوده الروحى إلى جانب وجوده الجسدى الزائل. يصلى مستقبلاً القبلة فى الليل والنهار واقفاً بين يدى الله، مستهدياً إياه فى عمله، ومتذكراً حق الروح فى صيامه، ومتذكراً نصيب الإنسانية فى زكاته، ومعانقاً إياها فى فريضة الحج، التى تتمثل فيها الأخوة الإنسانية كأنها صلة الرحم مع البشرية بأسرها.