فى كل يوم من أيام هذا الشهر سوف تقرأ مقالة مستمدة من إسلاميات العقاد، طموحى من نشرها أكبر بكثير من توضيح معلومة أو زيادة علم أو نقل معرفة، طموحى الحقيقى أن يحدث لنا - مع نهاية الشهر الفضيل - انقلاب استراتيجى فى طريقة تفكيرنا، أن نميز بين جواهرنا الحقيقية والمزيفة. كان مقتل عثمان جرحا داميا لم يبرأ منه جسد الإسلام حتى الآن، لذلك يحسن بعض التمهل فى أحداث الفتنة مستصحبين فضل الصحابة وحرمة الوعى والتاريخ، من المهم أن نتذكر أننا نتحدث عن تاريخ وليس عن دين، لا ندافع عن خطأ مهما كان فاعله، محاولين الفهم لا الرجم ولا التلفيق. ينفى العقاد تهمة الضعف الشائعة عن عثمان، فالرجل الذى أسرع بالإسلام، رغم حواجز العداوات بين بنى أمية وبنى هاشم، الرجل الذى اشتهر بالسماحة، وهى قوة لا يضطلع بها طبع ضعيف، الرجل الذى لم يكتف بإخماد الثورات التى قامت فى تخوم الدولة، وإنما أمر قواده بمواصلة الزحف، الرجل الذى امتلك جرأة الحسم لقرار الغزو البحرى الذى تخوف منه عمر، الرجل الذى لم يبال بخطر الموت وهو يحدق به، ورفض أن تراق من أجله قطرة دم مسلم، ولم يأذن لأنصاره بالدفاع عنه.. الرجل الذى يفعل هذا كله لا يمكن أن يكون ضعيفا. صحيح أن المعارك لم تحفظ له موقف الشجاعة الباهر، فقد كان السخاء فضيلته الكبرى، حيث يعز السخاء على ذوى الثراء، هذه هى آية العقيدة فى مناقب عثمان الذى سبق أقرانه فى ميدان السخاء حين سبقوه فى ميدان الفداء. كان مقتله أشبه بحادثة محلية على أثر مشاغبة الدهماء، ولو وضع حرسا كثيفا ما قتل، وها هى عوامل السخط زادت بعد عهده فلم يُقتل ملك ولا والٍ، وبعض الأمور التى أخذوها عليه قد سبقه فيها الصديق والفاروق.. فجَمْع القرآن فى نسخة وحرق باقى النسخ سبقه إليه الصديق والفاروق عند تنفيذ جمع المصحف، وكان عملهما محمودا، وما استحدثه مخالفا للمألوف سبقه إليه عمر، حين منع زواج المتعة ونقص من عطيات المؤلفة قلوبهم، وأعفى من حد السرقة عام المجاعة، فلم تقم ثورة ولم يُحمل سلاح. السبب الحقيقى للمأساة المؤسفة هو التغير الذى حدث فى المجتمع الإسلامى، كان هناك شعور أن الذروة السامقة لن تدوم، ولابد من تغيير وتبديل، وقد جاء فى أقوال الرسول والصديق والفاروق ما يشير إلى ذلك، كانت خلافة عثمان أصعب خلافة، قامت فى صدر الإسلام، ومحنتها فاقت محنة الصديق فى مواجهة المرتدين، لأن المسلمين نهضوا صفا واحدا، أما عثمان فابتلى فى وقت كثر فيه الاختلاف، والتخلخل المجتمعى بعد ذهاب الهيبة العمرية، فما إن ذاع مقتل عمر حتى تلاحقت الثورات والفتن، وتمردت قبائل الفرس والروم. البطر كان أُس البلاء، البطر الناشئ من الترف، والبطر على الحقوق التى كسبتها الرعية مع سهولة الشكوى، كانت هناك أسباب للقلاقل، لم يكن عبدالله بن سبأ الملقب بابن السوداء متسببا فيها، فشأنه أهون من ذلك، وإنما هو اضطراب الفترة المتأرجحة بين الخلافة والملك.