عفوا ليس المقصود أنا -لا سمح الله- ولكن هذا هو عنوان مقال إعلانى، نشر منذ عدة أيام فى إحدى الصحف الحكومية (العريقة).. صاحب هذا المقال الإعلانى، الذى اشترى صفحة كاملة يحدثنا عن عبقريته فيها، وأخرى مقابلة لها للحديث عن إنجازات شركة المقاولات الكبرى، والدفاع عن عبقريته إزاء ما ينشر من «تشهير» فى «الصحف الوليدة» على حد قوله، قد نجح بالفعل فى لفت اهتمامى شخصيا، للدرجة التى جعلتنى أحتفظ بالجريدة (2 يوليو 2009)، لكى تدرس فى الجامعات، كما طالب هو... بعيدا عن العنوان الاستفزازى لشخص يقول «أنا عبقرية اقتصادية يجب أن تدرس فى الجامعات»، وبعيدا عن الاتهامات والدفاع -وهذا مكانه ساحة القضاء- فإن الإعلان المذكور، يفجر عددا من القضايا الموضوعية، التى ينبغى أن نتناولها، فى إطار علمى لصالح هذا المجتمع الذى نعيش فيه، وننتمى إليه: القضية الأولى: هى أن المال أصبح يشترى كل شىء، وللأسف أن المال الذى يدفع مقابل شراء صفحات كاملة، أو مساحات من الإعلانات فى الفضائيات، وفى التليفزيون المصرى، بشكل تخطى حاجز المهنية بكثير.. مادمت أمتلك المال، لا مانع من الإعلان عن أى شىء وكل شىء، ولا مانع أيضا من التشهير بآخرين، ولا مانع لترويج إمكاناتى الهائلة كعقلية اقتصادية جبارة، والترويج لعبقرية من نوع جديد، لم نعرف مصدرها، إذا كانت شهادة علمية غير مسبوقة، أو ابتكار جديداً، أو اختراعاً، أو نظرية اقتصادية، أو حلاً عبقرياً لأزمة الإسكان فى مصر... باختصار الإعلانات تدر دخلا هائلا، وكفى، ويمكن توظيفها لأى شىء... وهذا الأمر يعمق بلا شك من أزمة الأخلاقيات والقيم المهنية، وفى كل دول العالم هناك مواثيق شرف أخلاقية، ضابطة للسلوك المهنى، فى مجال الإعلان عن خدمة أو منتج، ولكن فى المحروسة لا يوجد "ضابط ولا رابط"، ولا تتواجد مراقبة لهذا التدفق الإعلانى.. القضية الثانية: أن الأعراف والتقاليد المهنية، توفر حق الرد للطرف المشكو فى حقه، وفى نفس الصحيفة، ودون أن يتحمل أى أموال، فقط يكفى أن يرد بشكل موضوعى على الدعاوى المثارة ضده، مستندا إلى بيانات محددة، ووثائق أو مستندات، تبرئ ذمته... أما مسألة الطعن فى صحف أخرى، من خلال مقال إعلانى مدفوع الأجر فى صحيفة ما، فهذا شىء جديد، يستحق بالفعل أن يدرس فى الجامعات، كنموذج سلبى، يتخطى المواثيق الأخلاقية المتعارف عليها فى الإعلام والإعلان. القضية الثالثة والمهمة: أن الإعلان عن هذه العبقرية الفذة هو جزء من سياق عام وشامل، لابد من التوقف أمامه، بكل موضوعية وأمانة... فالإعلام المصرى -سواء الصحف أو الفضائيات- يشهد تجاوزات كبرى تخترق كل الأعراف والتقاليد المهنية (ولن أقول مواثيق الشرف الأخلاقية التى فقدت قيمتها)... نحن الآن نتابع «حروب المحامين» فى القضايا الكبرى التى تشبه الأفلام العربى الرديئة.. يخرج علينا المحامى ليعلن أنه سيقلب موازين القضية، ويفجر قضايا كبرى لصالح طرف ما، ثم يخرج علينا محامون عن أطراف أخرى لمهاجمته، بل وتناقش أحكام القضايا، ويتم «الغمز واللمز» فى سمعة القضاة... هى حرب دعائية وإعلانية مجانية (والله أعلم)، كل ما نقوله عنها إنها لا تحترم الرأى العام، ولا تتسم بالشفافية، وتتجاوز كل التقاليد المهنية. القضية الرابعة: أن هناك تجارة كبرى، تتم تحت سمع وبصر الجميع، دون أن تتحرك أى جهة -حكومية أو مجتمعية- للوقوف أمامها، وهى الجوائز الوهمية التى تمنح، عبر الهاتف المعلن عن رقمه، إذا تم التوصل للإجابة الصحيحة... هناك شباب كثيرون يتعلقون بالأمل، ويتجاوبون مع هذه الإعلانات الوهمية، طمعا فى أى مكسب، لن يحققوه بالمرة.. نحن فى حاجة إلى التمسك بالمهنية، وبقواعدها فى كل مناحى حياتنا، وأحد أبعاد الأزمة المصرية غياب القواعد المهنية، وهو ما يؤكد الخلل المجتمعى، ويكشف عن انهيار قيم الأداء المتميز، بما يعنيه من التزام وانضباط وشفافية... كما يكشف عن ضياع الحقوق بين أطراف مختلفة أو متنازعة، ويبرز لنا -وهو الأهم- أن المال يستطيع أن يشترى كل شىء، حتى المهنية، والأخلاقيات.