عرفت مصر المدارس المهنية عبر تاريخها الحديث فكانت هناك على سبيل المثال مدرسة «الرى» ومدرسة «السكك الحديدية» (بما فيها عمال الدريسة) كما ظهرت المدرسة «التاريخية» والمدرسة «الجغرافية»، وكانت هذه كلها وغيرها من المدارس المهنية والحرفية بل والعلمية هى نتاجٌ للعصر «العلوى» وبدايات التنوير وميلاد النهضة المصرية التى ارتبطت بميلاد الدولة الوطنية الحديثة، والذى يهمنى هنا هو الحديث عن «المدرسة الجغرافية المصرية» والتى كانت تدور حول «الجمعية الملكية الجغرافية» التى مازالت كائنةً فى مبناها بجوار «مجلس الشورى» وهى إرثٌ مصريٌ رائع سوف نظل نحتفى به دائمًا لأنه يعبِّر عن مؤسسة علمية عريقة ظهرت بالتوازى مع نظيرتها فى أوروبا الحديثة، ونحن لا نتذكر «الجمعية الجغرافية المصرية» إلا ونتذكر اسم الدكتور «سليمان حزين» الذى اقترن اسمه برئاسة هذه الجمعية باعتباره واحدًا من أبرز الجغرافيين العرب ومؤسسى المدرسة الجغرافية المصرية الحديثة التى تضم كوكبةً كبيرة من الأسماء اللامعة، أتذكر منهم على سبيل المثال الدكاترة «محمد عوض محمد» و«عباس عمار» و«جمال حمدان» و«عز الدين فريد» و«عبد العزيز كامل» و«محمد صبحى عبدالحكيم» و«محمد محمود الصياد» و«محمد السيد غلاب» و«محمد صفى الدين أبوالعز» و«إبراهيم زرقانة» و«يوسف أبوالحجاج» و«نصر السيد نصر» و«سيد الحسينى» و«محمد الشرنوبى» وغيرهم من عشرات الأسماء التى ارتبطت بعلم «الجغرافيا» وهو من أهم العلوم النظرية وأكثرها تأثيرًاً فى الحياة العملية، وإذا كانت الظروف لم تشرفنى بالعلاقة المباشرة مع مؤرخ الجغرافيا العظيم راهب العلم «جمال حمدان» فإنها شرفتنى بالعلاقة المباشرة مع د. «سليمان حزين» الذى شق طريقه الطويل بثقةٍ وموضوعية فهو مؤسس «جامعة أسيوط» - منارة الصعيد الكبرى - وإليه يرجع الفضل فى قيام ذلك الصرح الكبير الذى تغيرت به شخصية محافظة «أسيوط» بل محافظات الوجه القبلى كلها، ولقد كرَّس الرجل كل جهده لإنشاء تلك الجامعة وتطويرها وكان أول رئيسٍ لها، كما شاركته قرينته الجانب الاجتماعى العام من نشاطه الأكاديمى والثقافى فتركا بصماتٍ باقية لن ينساها «الصعيد» المعروف بعرفان الجميل دائمًا لكل من يقف إلى جانب قضاياه التنموية والاجتماعية، ولقد ربطتنى بالدكتور «سليمان حزين» صداقة وود دائمان برغم فارق العمر بيننا، ومازلت أعتز بنصائحه وأتذكر أفكاره وأناقشها حتى الآن مع الأصدقاء، كما مازلت أتذكر دوره المرموق فى «المجمع العلمى المصرى» الذى يترأسه حاليًا العالم المصرى الجليل د. «محمود حافظ» أطال الله فى عمره، كما أننى لن أنسى أبدًا بعض التعبيرات التى سمعتها مباشرةً من الدكتور «حُزين» عندما كان يصف المصرى القديم صانع الحضارة الأولى بأنه امتلك «ذكاء اليدين» للتدليل على مهارات المصريين إذا أرادوا أن يصنعوا شيئاً يبقى مع الزمان! فالدكتور «سليمان حزين» ينحت تعبيراتٍ جديدة تشير إلى أفكار عميقة، ومنها حديثه عن «ذكاء الحواس»، ولقد حضرت له لقاءً فى «صالون الأوبرا» قبل رحيله بفترة قصيرة، ورأيت أن ذلك العالم الجليل يحمل على كاهليه فى تلك السن المتقدمة أعباء وطن بكامله يعيش همومه ويتأمل حاضره بل يستشرف مستقبله، إن نموذج «سليمان حزين» سوف يبقى مرصعاً سماء الوطن كواحد من كواكبه اللامعة ورموزه الشامخة لأن ابن قرية «الوفائية» من أعمال محافظة البحيرة والذى ينتمى إلى مركز «كوم حمادة» المشهور بنسبة التعليم العالية فيه قد قدم للوطن كل عمره وعصير حياته، وعندما تولى الدكتور «سليمان حزين» وزارة «العلاقات الثقافية» لفترة وجيزة كان أداؤه هو ذاته الذى عرفناه له على امتداد سنوات حياته، تحيةً من «الصعيد والدلتا» بل من خريطة الوطن كله لذلك العالم الجغرافى الموسوعى الذى خرج على نطاق دراسته المتخصصة ليصبح شخصية عامة فريدة فى تاريخ الحياة المصرية بجانبها الأكاديمى ودورها الثقافى ورسالتها الإنسانية.