تعالت الصيحات مؤخرا تطالب بإقالة الدكتور يسري الجمل وزير التربية والتعليم ومحاكمة قيادات وزارته، بل وصل الأمر بالبعض إلي المطالبة بمحاكمة الوزير بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.وذلك علي خلفية وفاة التلميذ " إسلام عمرو" تلميذ الإسكندرية _ شهيد فوضي التعليم في مدارسنا. وقبل أن أقول رأيي في هذه القضية ، أقول إن أخوف ما أخافه أن يكون مدرس المدرسة " إيهاب" الذي ضرب التلميذ فتسبب في موته هو " كبش الفداء" الذي سيدفع ثمن ما حدث ، ثم تعود " ريما إلي عادتها القديمة" وننسي جميعا كما تعودنا القضية، لننام عنها، ثم نستيقظ بعد ذلك علي كارثة أخري ، حالنا في ذلك مثل حالنا في كل قضايانا. المشكلة في اعتقادي ليست مشكلة مدرس خرج عن القانون وتجرد من الأبوة والرحمة فقضي علي حلم ، ودفن مستقبل ، وقتل أمل، المشكلة أكبر وأكثر تعقيدا، من قتل " إسلام" هو نظام تعليمي عاجز،ونظام سياسي فاسد، ومنظومة مصالح لا يهمها مستقبل هذا البلد. دم " إسلام" الذي مات، ومستقبل المدرس الذي تحطم ، في رقبة الدكتور " يسري الجمل" ومن قبله مسئولية الدكتور" فتحي سرور" بوصفه وزير تعليم سابق، وبصفته أيضا رئيسا لمجلس الشعب ، الذي كان من المفروض أن يحاسب الوزراء ،ويفعل أسئلة النواب واستجواباتهم عن تدهور العملية التعليمية، بدلا من إصابة هذه الاستجوابات بالسكتة القلبية علي يديه، مثلما ماتت التلميذة " خديجة" بالسكتة القلبية خوفا من عقاب المدرس ولسوء العملية التعليمية. ما حدث في الإسكندرية كان يمكن تداركه لو أن السادة الوزراء في حكومتنا الرشيدة ينظرون بعين الاعتبار لأسئلة نواب الشعب،فقد تقدم أحد نواب الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين في الإسكندرية منذ فترة ليست بالقصيرة بسؤال إلي رئيس مجلس الشعب وإلي وزير التعليم في أيامها "د. أحمد جمال الدين جاء فيه: "غير معقول ما يحدث حاليا في مدارس التعليم الابتدائي بالإسكندرية ،الفصول مكدسة بالتلاميذ الذين يجلس أكثر من نصفهم علي تخت وكراسي مكسرة لا تصلح أصلا والباقون يقضون اليوم الدراسي إما وقوفا وإما جلوسا علي الأرض،كثافة الفصول من الحائط وحتي السبورة كيف يشرح المدرس "إذا كان موجوداً " وكيف سيري الطالب هذا الشرح المدرس لا يستطيع دخول الفصل ويكتفي بالوقوف علي الباب والتلاميذ يقفزون فوق التخت للوصول إلي مقاعدهم _ هذا في حالة المدارس التي توجد بها تخت !!! عجز المدرسين أكثر من 50 % من قوة أي مدرسة ، حتي المدارس التجريبية يوجد بها عجز كبير في هيئة التدريس وذلك بالرغم من وجود آلاف الطلبات التي تطلب فرصة عمل في التدريس مما يدل علي عجز الحكومة في إدارة العملية التعليمية ليس من الناحية الفنية فقط بل من الناحية الإدارية البحتة. " وذهب الوزير وجاء وزير آخر وتقدم نائب آخر إلي الوزير الحالي باستجواب عن حال التعليم وتدهوره ،حيث اتهم عبد الوهاب الديب (عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين) الحكومةَ بإفساد العملية التعليمية وانهيارها وأرجع ذلك إلي عدم تناغم السياسة التعليمية بالمتطلبات المجتمعية، والتخبط في قيادة الأمور، وارتباطها بشخص من يتولي الوزارة وفقًا لمنظوره الشخصي بعيدًا عن آراء المتخصصين والتربويين، وعدم وجود استراتيجية ثابتة وطويلة المدي. وتناول النائب الخللَ الموجود في الأدوات الخاصة بالعملية التعليمية والتي بدأها بالمعلم، مشيرًا إلي عدم وجود آلية ثابتة وفعالة لاختيار المعلم بصفته ركيزة العملية التربوية التعليمية، وضعف إعداد وتأهيل وتدريب المعلم في جوانبه الشخصية وقدراته المهنية. وأشار إلي أن العملية التعليمية تأثرت بضعف قدرة المعلم علي استخدام التقنيات الحديثة، والعجز الصارخ في أعداد المدرسين، إضافةً إلي عدم عدالة التوزيع، مدارس بها نسبة زيادة في حين أن بعض المدارس بها نسبة عجز، وضعف مستوي المعلم المهني وافتقاد التدريب. وفيما يتعلق بالإدارة في العملية التعليمية، أوضح الديب أنه لا يوجد ربط بين التعليم وخطة الدولة للتنمية، وعدم وجود فلسفة واضحة للتعليم، وعدم استقرار السياسة التعليمية وارتباطها بشخص الوزير. أما بالنسبة للمناهج، فقد أوضح النائب أن عجز المناهج عن تنمية الابتكار والإبداع واعتماد العملية التعليمية علي التلقين، وعجز النظام التعليمي عن مواجهة متغيرات العصر ساهم بشكلٍ كبير في تدهور العملية التعليمية في مصر." ولم يهتم أحد حتي حدثت الكارثة في الإسكندرية وتطاير شررها ليفجر أزمة " العنف في مدارسنا" كاشفا عورات نظامنا التعليمي،والسبب أن السادة الوزراء لا يبالون باستجوابات النواب، ولا يهتمون بالدراسات التي تجريها الهيئات المختلفة ، ويصدرون قراراتهم برؤي فردية بعيدة عن الدراسة والعمق، وتأتي في معظمها قرارات مكتبية ليس لها علاقة بالواقع، لأن الوزير يأتي في أغلب الأحيان من بيئة بعيدة تماما عن طبيعة الوزارة التي يتولي قيادتها . وزراء التربية والتعليم بدءا من الدكتور فتحي سرور مرورا بالدكتور حسين كامل بهاء الدين وصولا إلي الدكتور يسري الجمل، جعلوا من تلاميذ مصر فئران تجارب لوجهات نظرهم الخاصة،وهي للأسف وجهات نظر قاصرة في معظم الأحيان لا تضع في اعتبارها العملية التعليمية بكل عناصرها المختلفة، وخاصة المعلم، الذي هو أساس العملية التعليمية،ونسي وزراء التعليم عندنا إن الدولة القوية هي نتاج معلمين أقوياء. لو أن الدكتور يسري الجمل ومن قبله الدكتور أحمد جمال الدين استمعوا وعملوا بملاحظات نواب الشعب ما تسبب مدرس الإسكندرية في وفاة "إسلام" وهنا أسأل الدكتور " يسري الجمل" ماذا فعلت لتجتذب أفضل العناصر إلي مهنة التدريس؟ وماذا فعلت لرفع مستوي إعداد هذا المعلم قبل تخرجه؟ ودوام تدريبه بعد تخرجه، وماذا وفرت للمعلم من حياة كريمة ليتفرغ لمهمته ورسالته المفتوحة علي المستقبل؟ إن الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها المعلم تؤدي إلي استنزاف جسمي وانفعالي, وأهم مظاهره: فقدان الاهتمام بالتلاميذ, وتبلد المشاعر, ونقص الدافعية, والأداء النمطي في العمل, ومقاومة التغيير, وفقدان الابتكارية, كما يؤدي إلي فقدان الدعم الاجتماعي ومهارات التكيف لمستوي الأحداث. صفحات الحوادث بالصحف تؤكد أن واقعة الطالب إسلام ليست الأولي _ فقد سبق أن أصيب طلاب في المدارس بسبب الضرب من جانب المدرسين فهذا مدرس فقأ عين تلميذ، وذاك تسبب في كسر ذراع تلميذ آخر ، ناهيك عن حالات اعتداء طلاب علي مدرسين خلال العام الماضي والتي تراجعت خلال العام الحالي لتحل محلها وقائع اعتداء مدرسين علي طلاب ،وهو الأمر الذي يؤكد فشل سياسات الوزارة بدلا من العلاقة السوية القائمة بين المدرس والتلميذ._ الغريب في الأمر أن هذه الظاهرة تتفاقم يوما بعد يوم رغم وجود قرار من وزارة التربية والتعليم يحظر العنف في المدارس منذ عشر سنوات. وتزايد ظاهرة العنف في المدارس الحكومية والخاصة في الآونة الأخيرة يعكس فشل سياسات وزارة التربية التعليم في إرساء أساليب تربوية وتعليمية سليمة داخل المدرسة_ ،سواء كان هذا العنف من قبل المدرس أو الطالب ،كما أن تزايد هذه الظاهرة يعكس بالتأكيد غياب القيم ومبادئ احترام الآخر ،وأيضا التقاليد التربوية العلمية والتي يجب أن يتحلي بها المعلم داخل الفصل، ومن هنا تأتي ضرورة تأهيل المعلم واعداده تربويا لأداء هذه المهنة من خلال التدريب علي سعة الصدر وإرساء قيم الحوار مع الطلاب. كما أن السبب الرئيسي لتفشي العنف من جانب المدرسين ضد التلاميذ بطريقة غير مسبوقة هو استعانة وزارة التربية والتعليم ومنذ أكثر من عشر سنوات بالمدرسين غير التربويين عن طريق تعيينهم بعقود مؤقتة وليس مدرسين بالمعني الحقيقي للكلمة علميا وتربويا، ومن هنا يكون هؤلاء المدرسون قلقون وغير مطمئنين علي مستقبلهم لأنهم مدرسو حصة وغير مثبتين علي درجة وظيفية ، ومن السهل الاستغناء عنهم في أي وقت وهو ما ينعكس بالسلب علي أدائهم المهني داخل الفصل ويزيد من حالة توترهم وارباك علاقاتهم بالطلاب. و السؤال هنا هل من المعقول أن تستعين الوزارة بمدرس غير تربوي لا يفقه شيء عن قواعد تربية الطلاب والتعامل معهم في مقابل استبعاد مدرسين تربويين قادرين علي التعامل بمهنية شديدة مع الطلاب ، وهذا التصرف شبيه بتعيين خريج كلية الطب وهو من المفترض طبيبا في وظيفة مهندس زراعي مثلا ،مع الفارق الكبير لان مهنة التدريس اخطر من مهنة الطب، فالطبيب يعالج جزء من جسم الإنسان بينما يعالج المدرس الإنسان كله، فهو يشكل الإنسان وخطا مدرس يدمر جيل بأكمله، فالمجرم في ذلك هي الوزارة في المقام الأول ،و الحل يكمن في تعيين التربويين ورفع أدائهم التربوي من الحين للأخر. وفي يقيني أن المسئول الأول عن هذه الظاهرة هي ظروف بيئة العمل التي تحيط بالمدرس والسبب الثاني هو الحكومة وسياسيات الوزارة وليس المدرس فقط ،فالكثافة العالية للطلاب في الفصول بما يعني وجود 80 أو 90 طالب في الفصل تؤدي إلي أن يسعي المدرس لاستخدام العنف بهدف السيطرة علي هذه الكثافة العالية والغير معقولة. وكذلك سياسات الوزارة التي رفعت جداول حصص المدرسين في الآونة الأخيرة إلي 24 حصة بدلا من 14 حصة، وهو ما يتسبب في تزايد الضغوط علي المدرسين ويرفع درجة التوتر لديهم، مما يؤدي إلي لجوئهم إلي استعمال القسوة والعنف مع الطلاب، إضافة إلي أسباب أخري تتعلق بتدني أجور ومرتبات المدرسين وعدم تناسب هذه الأجور مع متطلبات الحياة اليومية في ظل الارتفاع المستمر والرهيب في الأسعار، بما يضيف إليه أعباء جديدة تجعله عنيفا مع كل المحيطين به وليس الطلاب فقط. ومن هنا وحتي تختفي ظاهرة العنف في المدارس لابد أن تقوم الحكومة بالعمل علي تحسين وتهيئة بيئة العمل المحيط بالمدرس بشكل يمكنه من أداء مهمته التعليمية والتربوية علي أكمل وجه ،وذلك من خلال رفع المرتبات والأجور وأيضا تقليص الكثافة الطلابية بالفصول وحتي يستطيع المدرس السيطرة علي الفصل بسهولة لأداء عمله وأيضا وضع جداول حصص معقولة ولا تجهد المدرس ولا تحمله فوق طاقته،ولابد علي الحكومة ضرورة اعتبار التعليم قضية أمن قومي, وربط الحق في التعليم بحقوق الإنسان والديمقراطية كإطار أوسع.