ارتبط العالم العربي طوال تاريخه بعلاقات متنوعة مع محيطه الإقليمي والدولي، سواء أكان هذا المحيط دولا أو أقاليم فرضت الجغرافيا والمصالح المشتركة على العرب التواصل معها قبل وبعد الإسلام، ومن ضمن الأقاليم التي ارتبط معها العرب بعلاقات تاريخية، ما يعرف اليوم بدول البلقان التي شهدت علاقات العرب معها مدا وجزرا طول ثلاثة آلاف عام مضت بحسب الدارسين والباحثين، وسنتناول في هذا التقرير أهم المحطات في العلاقات العربية البلقانية لمعرفة مدى إمكانية تحليل حاضرها واستشراف مستقبلها ومآلاتها. المحطة الأولى تعتبر الحقبة التي أزال فيها الإسلام حواجز كثيرة بين العرب وغيرهم من الشعوب الأخرى مرحلة هامة في نسج علاقات كثيرة فرضها الواقع الجغرافي الجديد بعد توسع الامبراطورية الإسلامية التي امتدت من جبال الصين شرقا إلى الأندلس غربا وهو ما كان له بالغ الأثر في احتكاك العرب بشعوب كثيرة كانت تفصلهم معها أمم أخرى كما هو الحال بالنسبة للبلقان، وأجمع الباحثون والمؤرخون على أن الخلافة العثمانية مثَّلت جسرا هاما مكّن الطرفان –العربي والبلقاني- من التواصل عبره بعد الغزوات العثمانية التي كان العرب يشكلون طليعة لجيوشها لما عرف عنهم من شجاعة والإقدام، ودخل بسببها جزء هام من شعوب منطقة البلقان في الإسلام، الأمر الذي يحتِّم على المسلمين الجدد دراسة اللغة العربية والاطلاع على ثقافة العرب التي كانت لغة الدين الأولى التي لا يستطيع مسلم التعمق في فهم الإسلام بدونها، بالإضافة إلى ما كان لرحلات الحج إلى البلاد المقدسة –مكة والمدينة بالنسبة للمسلمين، والقدس بالنسبة للمسيحيين- بالغ الأثر في توطيد العلاقة أكثر بين شعوب المنطقتين العربية والبلقانية؟ المحطة الثانية بعد الاطلاع على ما ترجمه الباحثون العرب من ثقافة بلقانية إلى اللغة العربية يتضح أن الحقبة التي تلت سقوط الخلافة العثمانية واستقلال دول البلقان والتحاقها بأوروبا الشرقية والغربية مثَّلت شبه قطيعة تامة بين الشعبين البلقاني، والعربي بعد دخول كل منهما في صراع جديد للتخلص من ربقة الاستعمار، مما تسبب في قطيعة شبه كاملة لم تنتهي إلا بعد قيام حركة عدم الانحياز وبناء الدول العربية الدائرة في فلك القطب السوفيتي علاقات مع يوغسلافيا التي كانت تضم معظم دول البلقان الحالية قبل تفككها ودخول شعوب البلقان في مرحلة جديدة من الصراع أدى إلى تلك المآسي التي شاهدها العالم في تسعينيات القرن الماذي، وما خلفته تلك الحروب والصراعات من أحقاد بين الجانبين نظرا لوقوف الشعوب العربية ضد إبادة المسلمين في البوسنة والهرسك، ولاحقا في كوسوفو، حيث شكَّل الدعم العربي، -والخليجي خصوصا- نقطة الارتكاز التي ساهمت في بقاء كيانات المسلمين هناك بعد توافد آلاف المجاهدين العرب على المنطقة للقتال إلى جانب المسلمين والدفاع عنهم. ونتيجة لمشاركة المجاهدين العرب في حروب المنطقة –سواء في الحقبة العثمانية، أو حقبة التسعينيات- تباينت مواقف بعض أدباء وكتاب الصرب والكروات مع نظرائهم من المسلمين البوشناق حول رسم صورة للإنسان العربي في مخيال شعوب المنطقة، فالأدباء الصرب والكروات رسموا –في أشعارهم ورواياتهم الأدبية والثقافية- صورة سيئة للإنسان العربي يتطلب تصحيحها الكثير من الجهد الثقافي والدبلوماسي، فقد تأثر هؤلاء بآراء وأفكار المستشرقين الأوروبيين الذين لا يرون في العربي سوى ذلك الأسود المراوغ المتوحش الدموي الباحث عن كأس خمر يعاقرها، أو امرأة يسبيها ويغتصبها، بينما رسَّخ كتاب المسلمين من البوشناق صورة وردية للعربي الذي يرون فيه المخلص والمنقذ، وصاحب الأخلاق والشجاعة المحكومة بالعدل الإلهي المتمثل في الوحي الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم. المحطة الثالثة بعد انتهاء حرب البوسنة والهرسك واستقلالها وتفكك ما كان يسمى بيوغسلافيا دخلت العلاقات العربية البلقانية مرحلة جديدة بعد تمدد الاستثمارات الخليجية إلى تلك الدول واستحواذ كل من قطروالإمارات على شركات كبيرة ودخول الدولتين في شراكات هامة في أكثر القطاعات الاقتصادية حيوية وأهمية في دول البلقان، فدولة الإمارات تكاد تطوق الاقتصاد اليوناني والصربي بعد شرائها شركة الطيران اليونانية، ومساهمتها في القطاع المصرفي القبرصي والنهوض به، ناهيك عن استثماراتها الضخمة المتنوعة في صربيا. أما قطر فقد ضخت استثمارات كبيرة في كل من البوسنة والهرسك، وكوسفو، وألبانيا، واليونان، وتنوعت تلك الاستثمارات بين قطاع الاتصالات والإعلام، والقطاع الزراعي والمصرفي، والصناعي، وتوجت قطر خطواتها الاقتصادية بفتح نافذة إعلامية للعالم العربي على الشعوب البلقانية تمثَّلت في " الجزيرة بلقان" التي باتت القناة الأولى الأكثر مشاهدة في المنطقة، بالإضافة إلى استثمارات لا بأس بها لكل من المملكة العربية السعودية ودولة الكويت وإن كانت لم تبلغ حجم الاستثمارات القطريةالإماراتية. وخلاصة لما سبق يمكن استشراف مآلات العلاقات العربية البلقانية والتأكيد على أنها آخذة في التطور أكثر فأكثر بعد المواقف الجديدة للدول العربية المؤثرة في تلك المنطقة اقتصاديا، والتي فتحت سفاراتها في كل دول المنطقة ودخلت معها في شراكات اقتصادية وثقافية بغض النظر عن الدين أو المذهب، وهذا مؤشر على إمكانية استمرار العلاقة بين الطرفين، لكن لا يمكننا أن نغفل أن هذه العلاقات محكومة بمصالح القوى العظمى في المنطقة التي تحدد لبقية دول العالم حجم وطبيعة العلاقات مع دول البلقان التي ما زالت خاضعة اليوم للنفوذ الغربي والروسي والتركي. ففي مؤتمر العلاقات العربية البلقانية الذي نظمه منتدى العلاقات العربية والدولية في الدوحة مؤخرا أوضح الرئيس البوسني السابق حارث سيلاديتش أهمية العلاقات العربية البلقانية ودعا إلى ترسيخها وتعزيزها، خصوصا بالنسبة للمسلمين في المنطقة الذين يتعرضون لهجوم إعلامي شرس من اليمين الأوروبي المتطرف الساعي إلى إخلاء القارة الأوروبية من بؤرة إسلامية أصيلة كما هو الحال للمسلمين في منطقة البلقان، وأضاف: "إن شعوب البلقان المسلمة بحاجة اليوم قبل أي وقت مضى إلى ترسيخ علاقاتها مع العالم العربي الذي يعتبر عمقها الاستراتيجي وسندها القوي أوقات الكوارث والأزمات، فنحن لم ولن ننسى الهبة القوية والوقفة التاريخية الصادقة التي وقفتها الدول العربية حكومات وشعوبا مع المسلمين في كل من البوسنة، وكوسوفو أثناء تعرضهم للعدوان من الدول المجاورة التي كانت تسعى إلى إبادتهم، وما من بوسني مسلم أو كوسوفي مسلم إلا ويرى نفسه جزءا لا يتجزأ من العالم العربي، نظرا للماضي الديني الذي وحد شعوب المنطقتين، والمصير المشترك رغم اختلاف الجغرافيا، ولتوطيد هذه العلاقات أكثر يجب على شعوب المنطقتين الاهتمام بقافة بعضهما البعض ودراسة اللغات التي تعتبر الجسر الصلب لتلاقي الثقافات، فأنا –يضيف حارث سيلاديتش- أجسد مثالا حيا وجسرا لتلاقي العالم العربي البلقاني لأنني أجيد اللغة العربية وعالم بالتاريخ العربي الإسلامي. The post بعد انتهاء أسباب الفرقة والاختلاف هل تتعزز العلاقات العربية البلقانية appeared first on IslamOnline اسلام اون لاين.