استقرار أسعار الخضار والفاكهة اليوم السبت 25 أكتوبر 2025 في الأسواق المصرية    كل ما تريد معرفته عن محفظة فودافون كاش: الحد الأقصى للتحويل ورسوم السحب والإيداع وخدمات الدفع    الأهلي يخطط لضم فيستون ماييلي من بيراميدز بعرض يتجاوز 80 مليون جنيه    حادث تصادم في نهر النيل.. باخرة سياحية تصطدم بكوبري    اليوم.. شبورة مائية وطقس حار نهارا على أغلب الأنحاء والعظمي بالقاهرة 31    اليوم.. أولى جلسات محاكمة رمضان صبحي وآخرين في قضية التزوير    عمرو أديب يرد على شائعة انتقال محمد صلاح إلى الأهلي: «سيبوا الراجل في حاله»    استقرار طفيف بأسعار الخشب ومواد البناء في أسوان اليوم السبت 25 أكتوبر 2025    عاجل- القبض على مالك المنزل المتهم بالاعتداء على مستأجر مسن بالسويس    إصابة 9 أشخاص فى حادث انقلاب ميكروباص علي طريق بنها شبرا الحر بالقليوبية    موعد مباراة ميلان القادمة عقب التعادل أمام بيزا والقنوات الناقلة    إيهاب توفيق يحيي حفلًا غنائيًا في أمريكا بعد نجاحه في مهرجان القلعة    إلهام شاهين تهنئ أحمد مالك بحصوله على جائزة أفضل ممثل من مهرجان الجونة    «مجانًا وبجودة عالية».. القنوات الناقلة مباشر ل مباراة الأهلي وإيجل نوار في دوري أبطال أفريقيا    شيكو بانزا يدعم محمد السيد بعد هجوم جماهير الزمالك: لا تستمع لأى شخص    شاهد لاعبو بيراميدز يحتفلون بالكؤوس الثلاثة    إمام عاشور عقب أنباء تحسن حالته الصحية: اللهم لك الحمد حتى ترضى    سعر التفاح والموز والفاكهة في الأسواق اليوم السبت 25 أكتوبر 2025    90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. السبت 25 أكتوبر 2025    تفاصيل بيان الفصائل الفلسطينية للتشديد على وقف إطلاق النار وبدء إعمار غزة    المبعوث الروسى ل CNN: قمة بوتين ترامب ستتم وسيوجد حل دبلوماسى لحرب أوكرانيا    ترامب: علاقاتي مع زعيم كوريا الشمالية جيدة وآمل لقاءه خلال جولتي الآسيوية    ماذا حدث فى حريق مصنع ملابس بقليوب؟ التفاصيل الكاملة من موقع الحادث.. صور    مستوطنون يهاجمون المغيّر ويحرقون 3 مركبات    وظائف البنك الزراعي المصري 2025 للخريجين الجدد.. سجل الآن    21 يرتفع من جديد.. تحديث ل أسعار الذهب اليوم السبت 25-10-2025    أحمد فهمي وهشام ماجد إخوات رغم انفصالهما فنيا.. اعرف ماذا حدث فى فرح حاتم صلاح    رسميًا.. موعد افتتاح المتحف المصري الكبير 2025 وأسعار التذاكر لجميع الأعمار    فلكيًا.. موعد شهر رمضان 2026 وأول أيام الصيام    تطبيق لائحة الانضباط يواجه مخاوف التسرب من التعليم.. أزمة فصل الطلاب بعد تجاوز نسب الغياب    اليوم.. محاكمة رمضان صبحي بتهمة التزوير داخل معهد بأبو النمرس    الشرطة المصرية.. إنجازات أبهرت العالم    الصين تعتمد يوم 25 أكتوبر ذكرى وطنية لاستعادة تايوان    «بوابة أخبار اليوم» تكشف حقيقة تداول صور لثعبان الكوبرا بالغربية| صور    خمسة مسلسلات في عام.. محمد فراج نجم دراما 2025    «عمود إنارة» ينهى حياة لص بالصف    «الأزهر العالمي للفتوى» يرد| قطع صلة الرحم.. من الكبائر    الإفتاء تُجيب| تحديد نوع الجنين.. حلال أم حرام؟    الإفتاء تُجيب| «المراهنات».. قمار مُحرم    لماذا تتزايد حالات النوبات القلبية بين الشباب؟    جماهير ليفربول تدعم صلاح بأرقامه القياسية أمام الانتقادات    عبد الحميد كمال يكتب: بطولة خالدة.. المقاومة الشعبية فى السويس تنتصر على القوات الإسرائيلية    "أسير لن يخرج إلا ميتًا".. الدويري يكشف عن لقاءه مع رئيس "الشاباك" في تل أبيب    مادورو يتهم واشنطن باختلاق حرب جديدة ضد فنزويلا بذريعة مكافحة المخدرات    أسهل وصفة للتومية في البيت.. سر القوام المثالي بدون بيض (الطريقة والخطوات)    فضائح التسريبات ل"خيري رمضان" و"غطاس" .. ومراقبون: يربطهم الهجوم على حماس والخضوع للمال الإماراتي ..    «حرام عليك يا عمو».. تفاصيل طعن طالب في فيصل أثناء محاولته إنقاذ صديقه    «زى النهارده».. وفاة الكاتب المسرحي محمود دياب 25 أكتوبر 1983    «زي النهارده».. «الكاميكازي» يضرب الأسطول الأمريكي 25 أكتوبر 1944    إنزاجي يشيد بلاعبى الهلال بعد الفوز على اتحاد جدة    عاجل | تعرف على أسعار الذهب في ختام تعاملات اليوم الجمعة    أسعار القهوة الأمريكية ترتفع بشكل حاد بسبب الرسوم الجمركية والطقس السيئ    "الجبهة الوطنية" يكلف "الطويقي" قائما بأعمال أمين الحزب بسوهاج    بمشاركة 150 طالبًا.. جامعة قناة السويس تطلق معسكر صقل وتنمية مهارات الجوالة الجدد    26 أكتوبر، جامعة أسيوط تنظم يوما علميا عن الوقاية من الجلطات    لو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت.. أزهرى يجيب عن حكم قبول الهدايا.. فيديو    مؤتمر حميات الفيوم يناقش الجديد في علاج الإيدز وفيروسات الكبد ب 12 بحثا    وزارة الصحة تعلن محاور المؤتمر العالمي للسكان والتنمية البشرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجال عرفتُهم (1).. عامر سلطان
نشر في المشهد يوم 28 - 11 - 2011

"لماذا لم تسم ابنك على اسمه؟" سألتني زوجتي. فأجبتها بالصمت.
رزقت بطفل في الأول من أكتوبر الماضي، انتظرته كثيرًا وطال انتظاري، وعندما رأيته أحسست أنه جسد صغير وأمل كبير. فلم أسمه على اسمه، خشية أن يتعرض صغيري لغبن مما تعرض له بطلنا هذه المرة.
هو رجل تلازمه "أفعل" التفضيل في أي مكان يجلس فيه، فهو الأسرع والأحوط، والأدق، وهو الأطلق والأرشق والأكثر تحركًا، والأفصح، والأنبه بين كل من حوله، وهو الأنشط بين كل الذين يعملون معه، وهو الأدرى بأحداث العالم، وهو كذلك الآنق والأوسم، إن جاز لنا التعبير.
رجل يتعب الذين يعملون معه ويسعون لملاحقته ولايستطيعون إلى ذلك سبيلاً.
لاينام ولا يترك أحدًا ينام.
هو ليس رقمًا في حياتي، وهو ليس مجرد رجل عملت معه، فهو ليس أقل من رجل منحني حياة جديدة بها دافع لم أقربه قبلاً.
وإنني إذ أكتب عنه في مفتتح هذه السلسلة التي استحسن أن أباركها في نسختها الأولى بالكتابة عنه، فإن مهمة شاقة بانتظاري، وغاية بعيدة المنال كذلك، لأن شعورًا لم أعهده في حياتي يعتريني حيال رجل لا يعرف المرء من أي منطقة يتحدث عنه ومن أي طرف يمسك بمادته الفريدة.
يكاد يحار العقل حقًا في قدرته الاستثنائية على المد والجزر، والسرد والتعاطي مع كافة الأطراف.وربما تكون المهمة أقل مشقة إذا قسًمت الحديث عنه إلى مراحل أرتبها زمنيًا تماشيًا مع ترتيبة الأحداث.
المرحلة الأولى :
بدأت الحكاية عندما هاتفني الأستاذ أشرف خليل وعرض علي العمل لدى مؤسسة إعلامية كبرى وأخبرني أنني ربما أجد في تلك المؤسسة مبتغاي. ذهبت إليه في ضاحية المهندسين حيث مقر المؤسسة وألقيت نظرة سريعة تفهمت من خلالها أن الأمر جلل، وأنني لست بصدد العمل في مؤسسة تقليدية كالتي عهدتها في الوسط في السنوات القليلة الماضية.
في ذات اليوم كان الجمعة الثالثة من رمضان عرفت أن مدير المؤسسة هو الأستاذ وليد بدران، والذي عرفني بدوره عليه، وفهمت خطأ بطبيعة الحال في البداية أنه صاحب المؤسسة، أو على الأقل العضو المنتدب لتلك الشركة، وهي إحدى مجموعة شركات كبرى.
أسخر الآن من تصرفاتي في تلك المرحلة لأنني أتذكر وأنا أنقر بأصابعي أزرار لوحة المفاتيح الخاصة بجهاز حاسوبي النقال الحوار الأول الذي دار بيني وبينه والذي أنقله كما حدث بالحرف الواحد:
هو: كيف حالك؟
أنا : بخير والحمد لله.
-: سمعت من السيد وليد أنك متعدد اللغات وأنك متخصص في الشؤون الإيرانية؟
- : هذا صحيح.
-: ما هي المصادر التي تعرفها في إيران؟
-: أخبرته وسخرية تعتريني كنت أظن أنه ربما من نوعية المتحاذقين الذين يسألون لمجرد تمثيل دور أنا أعرف كل المسؤولين البارزين هناك ولي علاقات متشعبة، ولكن لماذا تسأل؟.
- : مجرد تعارف.
- : من فضلك هل تعرف رمز المرور الخاص بشبكة الإنترنت سألته كأنه أحد الموظفين أو الإداريين في المؤسسة وعيناي تمسحان تضاريس وجهه بكل تجرؤ.
- : بروية، لا للأسف لا أعرف.
- : شكرًا.
أتذكر ذلك الحديث وكأنه دار بالأمس وأذكر تفاصيل ملابسه التي كانت تدهشني روعتها وبساطتها في آن. القميص (بولو شيرت) الوردي ماركة بيير كاردين إلى البنطال "البيج" إلى الحذاء الرياضي مرورًا بالجوارب التي يطلق عليها شباب هذه الأيام "هاف".
كل تلك التفاصيل تأخذني إلى الحوار الثاني الذي دار بيينا، والذي تصورت أنه من فئة الحوار الأول، وأنني سأعامله بنفس كبرياء الصحفي، والأكاديمي المتخصص المحترف.
"من فضلك شرفني في مكتبي بالطابق الأسفل". بعد أن رن جرس الهاتف الداخلي. كلمات معدودات قالها لي.
فلم أنبس ببنت شفة، ونزلت.
أنا: أفندم. أي خدمة؟
هو: أنت قلت لي أنك متخصص في الشؤون الإيرانية؟
- : "بامتعاض" فعلاً.
-: وما هى الجرائد والمواقع والوكالات التي تتابعها؟
- : وكالة أنباء الطلبة.
- : هل تعرف أن تلك الوكالة بها أكبر نسبة مراسلين ومندوبين على مستوى إيران. كانت تلك هى الصدمة الأولى.
- : ووكالة إرنا.
- : هذه هي الوكالة الرسمية في إيران وهى مدعومة من المرشد خامنئي شخصيًا وهى أيضا تغذي نشاطها بالتنسيق مع مؤسسة الحرس الثوري. كانت تلك هى الصدمة الثانية.
- : ووكالة مهر.
-: تلك الوكالة شبه رسمية مقربة جدًا من مكتب المرشد ولها علاقات وثيقة بأطراف الدولة المفصلية. الصدمة الثالثة.
- : بعد أن تماسكت واستجمعت قواي، كيف عرف كل تلك المعلومات التي لايعرفها إلا المختصين؟
- : أنا صحفي وقد ذهبت إلى هناك أكثر من مرة وقمت بتغطية واحدة من أشرس الانتخابات التي مرت في تاريخ إيران بعد الثورة. الصدمة الرابعة.
في تلك اللحظة كانت المفاجأة بالنسبة لي مدهشة لدرجة جعلتني أغيب عن الحوار هنيهة، فشردت بذهني للحظات.ثم بدأ يعاود الأسئلة.
-: من هو السفير المصري الحالي في إيران؟
- : السفير علاء الدين يوسف.
- : هو رجل جيد أنا أعرفه. هل تعرف أنني عندما كنت أتردد على إيران كان سفيرنا هناك هو السفير محمد رفاعة الطهطاوي.
- : ولكن هذا كان في نهايات القرن المنصرم.
-: نعم. كان هذا في 1997م تقريبًا.
-: أرجوك يا أستاذ. اسمح لي بإكمال الحديث في وقت لاحق. لا أعرف ماذا أقول لك.
-: من فضلك ضع لي خطة للعمل في وحدة الشؤون الإيرانية.
-: وهو كذلك.
مر هذا الحديث بسلام دون أن أتمادى في المزيد من الحماقات، ولو جاز لي أن أضع عنوانًا لتلك المرحلة من علاقتي به لأسميتها دون تردد "التصرف بغباء".
المرحلة الثانية :
بدأت تلك المرحلة بالحذر وكانت سياستي ألا أبادر رغم أنني متخصص في المجال وشديد الثقة في المرحلة العلمية التي وصلت إليها إليه بمعلوماتي، وأنتظر ولا أمل لي سوى في الانتظار.
وكثيرا ما أفضل وصف تلك المرحلة بأنها مرحلة سياسة رد الفعل لا الفعل، لأن الوقائع أظهرت لي أنني أمام رجل يخفي ظاهره البسيط تاريخ طويل وتجارب متراكمة تجعل محاولاتي في مجاراته والعدم سواء، وأيقنت أن أي نقاش مهني بيننا من شأنه ترجيح كفته على الدوام.
في الأيام الأولى من شهر أكتوبر تصادف أن شاهدت رائعة من روائع الأدب الأمريكي للكاتب المعروف ستيفين كونراد حولها بعد ذلك إلى عمل سينمائي جسد فيه الممثل الأمريكي الأسمر ويل سميث، قصة رجل مكافح شديد الاصطبار على بؤس حياته وسوء حظه.
ومن الغريب أن الكاتب اختار للرواية اسمًا غير تجاري بمقاييس هوليوود وهوPursuit of happiness ومعناه بالعربية "السعي نحو السعادة" فقررت أن أطلق على تلك المرحلة من علاقتي به مرحلة البحث عن السعادة.
وليس من نافلة القول أن أذكر أنني وجدت في ذلك الرجل طريقًا معبدًا نحو تلك السعادة، ورغم أنني كنت أعمل بكامل طاقتي لساعات عديدة تستغرق النهار كله، وبعض ساعات الليل إلا أن أملا كان يملؤني بأن خلف هذا العمل سعادة مهنية لا تضاهيها متع قراءة مؤلفات آية الله حائري مثلا أو متابعة الأحداث على شاشات الفضائيات المفضلة، أو قراءة أبيات لأمل دنقل، أو حتى التسكع على شاطئ النيل في درجة حرارة باردة.
يسعى المرء دائما إلى السلطة، أو المال، أو القوة، لكن التجرد من كل تلك الدنيويات الزائلة من الصعوبة بمكان أن يجده مقدمًا في كل صباح كما المن والسلوى. هو استطاع أن يفعل ذلك...
كان الأداء مبهرًا دائمًا، وكنت أنظر، وأتأمل وقت تكليف المهام في اجتماع كل صباح وكأن مهندسًا محترفًا يعرف كيف يضخ المواد الخام إلى الماكينات ويدفع بالوقود، أو المحفزات كل في وقته المناسب.
أو ربما أنني أمام لاعب ماهر، يجلس على رقعة شطرنج كبيرة الحجم، يذكرني بزياراتي لفندق هيلنان فلسطين في ضاحية المنتزه بمدينة الإسكندرية.
اختارت لي إدارة الفندق الطابق الثالث في أول مرة أذهب إلى هناك وعندما صعدت وجدت أن الغرفة تطل على مشهد بديع حيث البحر والنخيل.
لكن مشهدًا مختلفًا كان في انتظاري...
اختار مهندسو ديكور الفندق أن يصمموا رقعة من الشطرنج الخشبي العملاق في الأسفل مباشرة من غرفتي وكنت في ذلك الاجتماع الصباحي أسترجع مشهد الغرفة والرقعة الكبيرة، وأستشعر أن الرجل يقف مكاني في شرفة الغرفة الفارهة ويحرك القطع بانتظام، وحرفية لم أعهدها بين العاملين في بلاط مهنة البحث عن المتاعب.
كان مطلوبًا مني في تلك المرحلة السعيدة أن أنتصت وأتعلم وألاحظ وأشاهد وأحول ما يدور أمامي من خطوات عملية إلى فقرات كتابية، ماذا يفعل الرجل؟ وكيف يخطط؟ وكيف يعيد ترتيب أوراقة؟ بل وكيف يعترف بالخطأ؟ وكيف يتعامل مع المستجدات والطوارئ؟ وكيف يترفع عن صغائر الأمور إذا أجبر على التعرض لها.
المرحلة الثالثة :
أفقت في نهايات المرحلة السالفة إلى اتساع هائل في فجوة المنهج بيننا، ففارق الخبرة والتجربة واختلاف المدرسة المهنية التي نشأت فيها وانطبعت على فطرتي، عجلت بالتباعد بيننا.
في أحد الصباحات السعيدة في نهايات المرحلة السابقة كنت مكلف بالتشبيك مع مصادر في العاصمة الإسبانية مدريد، وعند مكالمتي مع أحدهم، في حضوره، تنبهت إلى حقيقة مفادها كنت قد تحدثت بإسبانية طليقة مع الطرف الآخر ما أثار اندهاشه واعجابه أن الرجل ربما وقع في حيرة من أمره.
كيف يستعملني؟ وإلى أية وجهة يوجهني؟ وهل أصبحت عبئًا عليه وعلى انشغالاته؟ أم أنني مجرد رقم في خاناته؟.
المهم أنه اختار تسكيني في وحدة الشؤون العربية وأراح واستراح بذلك.
ومن المفيد أن أذكر أن تلك المرحلة كانت تقتضي ذلك القرار بالضبط لا أكثر منه ولا أقل.
صحيح أنني حرمت بعد ذلك من العمل اللحظي معه وحرمت أيضا من مراقبة أدائه الرصين وحرمت كذلك من ملء حقيبتي بالأفكار والخبرات إلا أن هذا كان قرار المرحلة المفيد لكلانا.
تفرغت له وهو ما كان يتحسسه مني. ذلك أنني رزقت بوقت يومي للبحث عنه وعمدت إلى سؤال المختصين وخصصت جزءًا ليس بالقليل من وقتي للقراءة له وعنه.
أعتقد أنه سيسترجع تلك المرحلة عندما يذكر الاجتماع الثلاثي الذي دار بيني وبينه في حضوره الأستاذ أحمد صبري وقد حدثته أنني درست حواراته الصحفية مع سفير مصر بالأمم المتحدة ماجد عبد الفتاح، وادخرت بعضًا من جوانبها لرسالة الدكتوراه الخاصة بي.تلك كانت مرحلة الدراسة. لا ريب في ذلك. درسته وعكفت على دراسة كل كتاباته وسيرته الذاتية ومسيرته المهنية واجتهدت قدر الطاقة في تجميعها وخلصت منها إلى حقائق..
تخرج الأستاذ في كلية الإعلام بجامعة القاهرة بتفوق عام 1988م، ومنها التحق بمؤسسة الأهرام الصحفية، ليعمل في قسم الشؤون الخارجية بالإصدار اليومي، ثم تدرج في المؤسسة ذاتها إلى أن أصبح مديرًا لمكتب الأهرام بالعاصمة الإنجليزية لندن، ليحصل على درجة الماجستير في علوم الإعلام من هناك.
ومن هناك أيضًا جمع بين إدارة مكتب الأهرام، ومكتب التليفزيون المصري في واحدة من نوادر العمل الصحفي في وطننا العربي، لكنه لم يلبث أن التحق بمؤسسة الشرق الأوسط الناطقة بالعربية والتي تصدر من عاصمة الضباب.
وسط هذا التوهج الحاد كانت مؤسسة ال بي بي سي العريقة على شفير إطلاق أول نسخة عربية من مجموعة قنواتها وموقعها الأمر الذي كان طبيعيًا جدًا معه أن تجلب المؤسسة ذلك الشاب الذي لمع في لندن في سنوات معدودات.
تدرج في العمل لدى المؤسسة الملكية، بالتوازي أيضا مع كتاباته في صحيفته الأم أعني الأهرام إلى أن أصبح كبيرًا لمراسليها ومنها أسندت إليه العديد من المهام الصحفية الشاقة، وتعرض على أثرها للعديد من الصعاب كان من بينها تغطية حملة المرشح المحتمل للرئاسة الأمريكية، وقتها، باراك حسين أوباما.
ذهب إلى هناك حيث مقر حملته الانتخابية في ولاية إلينوي بالولايات المتحدة، وأخرج للقارئ العربي مادة صحفية تليق بأن تقدم إليه.
قبل ذلك كان قد ذهب إلى إيران كما سبق أن ذكرت وأجرى العديد من التغطيات الهامة والتي تعد مرجعًا للمختصين في الشؤون الإيرانية، وكثيرًا ما استحسن وصف تلك التقارير بأنها المتكئ الأساسي لمن يرغب في الباحث في تلك الفترة التسعينية من دارسي العلوم السياسية. حيث تعد رصدًا شديد القرب لأحداث وملابسات التغير الجذري الذي شهدته إيران في إرهاصة من إرهاصات صعود المرشح الإصلاحي خاتمي إلى سدة الحكم.
لاحقا ذهب إلى بؤرة من بؤر المشقة المهنية حيث العاصمة الأفغانية كابول وتعرض هناك لما أسماه أسوأ 40 دقيقة يمكن أن يعيشها صحفي. ثم ذهب إلى سراييفو وكوسوفو. إذا لم يترك مكانًا ملتهبًا في أرجاء الكوكب إلا وذهب إليه يبتغي البحث عن الحقيقة.
وللتعرف عن قرب على قيمة هذا الرجل أستطيع أن أسوق بعض العبارات التي تنم عن تناقض كبير بين ما هو أصولي لديه وما هو تقدمي أيضا.
ذلك التناقض هو عنوان الإبداع لدى من يحترفون العمل في الكتابة باللغة العربية. إذ تبحث اللغة دائما عن من يحول مفرداتها الجامدة إلى روح حديثة متجدة. كل حسب العصر وطبيعة الإنتاج.
وبالرغم من إنجليزيته الطليقة إلا أن المرء يشعر وهو بين يدي أعماله أنه أمام كاتب من جيل الأستاذ العقاد. ثم تخرُج من كتابة إلى الأخرى لتجد نفسك أم كاتب حداثي يختار لغة سهلة بلا تعقديات، أو تركيبات تشق على غير المختصين. ما يوقعك في حيرة من أمرك عند إسقاط قوانين تحليل النصوص على أعماله.
وأحب أن أفرد تلك الأسطر لبعض من هذا الخلط الفريد بين ما هو قديم وحديث.
مثلا عندما تقرأ موضوع بعنوان "أسوأ 40 دقيقة يمكن أن يعيشها صحفي" تجده يتحدث بسلاسة محيرة فيكتب عبارات على شاكلة :
"ولكنه هز كتفيه حتى كادت رأسه تغوص فيهما"."رمقني بنظرة مسحتني بتأن من قدمي إلى رأسي. ولم يقل شيئا".
وعبارات من تلك النوعية الفاخرة التي لا تقدم إلا من أصحاب المواهب الكبرى في الأوساط الإعلامية.
وعند الحديث عن موهبته في سيلان المعاني، أو ما أصطلح عليه فن السرد لا يسع المرء إلى أن يقدم بعضًا من روائعه.
في ذات الموضوع شديد التشويق يكتب :
"كانت الساعة الواحدة والنصف فجر الخميس، يوم التصويت في الانتخابات الرئاسية والمحلية. داهمت فرقة مشتركة من القوات الأجنبية والأفغانية فندق "بارك بالاس" شمال كابول. ودبت حركة عصبية في أرجاء الفندق. جنود أشداء مدججون بالسلاح، يرتدون سترات واقية يطرقون الغرف ويفتشون عن شيء ما.
فتحت باب غرفتي وأحد هواتفي المحمولة في يدي، فوجدت في صدري فوهتي بندقيتين رشاشتين. جلبني جندي إلى خارج الغرفة وطلب مني بغلظة مواجهة الحائط ورفع يدي.وفتشني ذاتيًا.
رن الهاتف، انتبه الجنود الذين تزايد عددهم فجأة، فبدا لى أنني هدفهم المقصود.
أخرج جندي من جيبه كيسًا من القماش ووضع فيه هاتفي وبعض متعلقات جلبها من الغرفة بعد تفتيشها، وعلق الكيس في رقبتي.
تنفست بعمق اعتقادا بأن قائد المجموعة سوف يستجوبني بعد أن كررت كثيرًا أنني في كابول ضمن فريق "بي بي سي" لتغطية الانتخابات، ثم يتنهي الأمر".
وفي موضوع كتبه بخفة ظل ومهنية رفيعة المستوى عن مظاهر الشعب الأمريكي إبان الانتخابات الأمريكية السابقة رصد يقول :
"أصبح بمقدور الأمريكيين "تذوق" طعم استطلاعات الرأي، والتأكيد على اختيارهم للرئاسة باحتساء رشفات من الشراب.
فقد عمدت سلسلة متاجر "سفن- إليفين" بالولايات المتحدة إلى استطلاع آراء الناخبين عبر أكواب القهوة التي تحمل إما اسم "أوباما" أو "ماكين".
ويمكن بسهولة اختيار الكوب الأزرق، الرامز للديمقراطيين، أو الأحمر المقترن بالجمهوريين.
ورغم الهدف التجاري للفكرة، إذ يبلغ سعر الكوب دولارًا وربع، إلا أن الأكواب الزرقاء تتصدر قائمة الاستهلاك، على الأقل في الوقت الراهن.
وقد توجهت إلى أحد المتاجر التي تبيع تلك القهوة في شيكاغو بولاية إلينوي، حيث مقعد السناتور أوباما والدعم القوي له، غير أن حيادية بي بي سي اقتضت تناول كوب "غير ملون"، وإن كان الطعم لم يتغير.
وبالنسبة لتغطياته وجولاته المكوكية في المناطق الملتهبة مثل كوسوفو تجده يسوق الأفكار، والعبارات ويسير بهما إلى حيث يريد دون عناء فيقول :
"في اليوم التالى بعد إعلان الاستقلال في السابع عشر من شهر فبراير الماضي، أعربت منظمة المؤتمر الإسلامي عن تضامنها مع شعب كوسوفو.
واعتبرت أمانة المؤتمر العامة أن هذا الإعلان "سيعزز مكانة العالم الإسلامي ويزيد العمل الإسلامي المشترك نهوضًا وتقدمًا".
كل الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي إلا أن أيا منها لم يعترف باستقلال كوسوفو.
وهذا ما يثير التساؤل لدى الكوسوفيين والسبب هو أن للعرب وجود مؤثر بدرجات مختلفة منذ كانت "الجمهورية المستقلة" جزءًا من صربيا.
لذا توقع السياسيون الكوسوفيون والمشيخة الإسلامية، ذات النفوذ، أن يسارع العرب بالاعتراف باستقلال بلادهم فور إعلانه".
وعلى جانب آخر وفي نفس المهمة الشاقة، وفي واحدة من أورع ما رصد تجده يدقق في العبارات حتى تخرج معبرة عن حقيقة الوضع كما هو دون تجميل، أو رتوش فيكتب عن مدرسة علاء الدين حيث يتعلم الطلاب في فصول منفصلة، وعن أجواء الشارع في كوسوفو فينقل لك الحدث كأنك أنت الذي ذهبت إلى هناك فيقول :
"باستثناء أصوات الآذان وخاصة يوم الجمعة، لا يلمس زائر كوسوفو مظاهر للإسلام في البلاد إلا نادرًا.وعندما تسير في شوارع العاصمة بريشتينا لا تجد ما يميزها عن شوارع أوروبا. ورغم أن حوالي 85 بالمئة من سكان كوسوفو مسلمون، فإنك لا ترى شواهد ذلك سواء في العاصمة أو الأقاليم.ويقول رجال دين في كوسوفو إن أهلها "مسلمون بالاسم فقط".
ليس هذا فحسب بل تجده كذلك يكتب عن قضايا معاصرة لبلده "مصر"، ويستخرج الأفكار والموضوعات، كأنما يمد يده في جيب التاريخ ويخرج ما يريد.
فمجرد حديث مع فتاة صغيرة يحوله إلى مادة صحفية مشوقة وهامة في نفس التوقيت وكأنما برع الرجل في تجميع الضوء على ما يراه غير مألوف، ثم يخرج لك بقضية تشغل بالك ولو لساعات. فيكتب عن إشكالية التواجد العثماني في الكتب الدراسية المصرية :

"بعد أن انتهت "نهى محمد" من قراءة أحد فصول كتاب الدراسات الاجتماعية للسنة الثالثة الإعدادية ، سألتها عن انطباعها. "أكره العثمانيين لأنهم عزلونا عن أوروبا ومنعوا تقدم مصر"، تقول نهى.
تلك هى خلاصة انتهت إليها "نهى"، 14 عاما، بعد قراءة ثماني صفحات تشكل الوحدة الثالثة من الكتاب، وعنوانها "الغزو العثماني لمصر ومقاومة الاحتلال". وبعكس نهى وزملائها، تعلمت أجيال من المصريين، من كتب التاريخ القديمة أن العثمانيين، أسلاف الأتراك الحاليين، قدموا إلى مصر فاتحين وليسوا غزاة.
وعندما تسمع تلك الكلمات شديدة الدلالة وهو يتحدث إليك طورًا من أمام جامعة القاهرة حيث تخرج قبل أكثر من عقدين وتارة من أمام سور مجلس الشعب تدهشك قدرته على سلاسة التركيب وبساطة الفكرة، وروعة المنتج الأخير.
يستطيع المرء مع كتابات كهذه أن يعيش حيوات متعددة وهو أمام ما يقرأه، ويطوف بخيالاته حيث غاية المنتهى ومراد ما كان يرنو إليه.
هذا ليس رأيًا أبثه في الصحراء فقد سبقني إلى نفس الغرض الزميل الأستاذ محمد العطيفي، ومن الواجب أن أنقل بعضًا مما جاء في مقالة محايدة منشورة على جريدة الوطن الإلكتروني قال فيها بحق الأستاذ :
"إنه صحفي مشهود له بالمهنية العالية".
وأكمل العطيفي دفاعًا عن الأستاذ في أحد مواقف الغبن التي تعرض له بقوله :
"إنه أختير من قبل بي بي سي نفسها لتغطية حملة باراك أوباما في شيكاغو ولتغطية انتخابات الرئاسة الإيرانية، ما ساهم في تعزيز مكانة تليفزيون بي بي سي العربي الوليد. وهذا يشير أنها تدرك جيدا كفاءة ذلك الصحفي وأنه يستحق الدفاع عنه".
ويتضح من الفقرة أن العطيفي يعزي نجاح ال بي بي سي العربية إلى الأستاذ.
وإذا كنت أمام رجل بهذه القيمة، وإذا كنت أمام رجل حقق لمصر طابع الصحفي العالمي بهذا الأسلوب، فإن قولة واجبة الذكر أقولها وقلبي مفعم بالإيمان أنني أمام موهبة لا يشوبها غبار، متوقفًا على دراسة روح لماكينة صحفية ضخمة لم يصبها عطب.
ولوجه الله والتاريخ أن أذكر: "أن كثيرًا من الذين عاصرتهم في تلك المهنة، هم بالقياس إليه كمن يتتعتع في حروف الهجاء عند مجالس البلغاء والشعراء".
تلك كانت حكايتي مع الأستاذ عامر سلطان.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.