لغة الحوار والتفاهم في المجتمع المصري بعد الثورة تردت إلى أدنى مستوى أخلاقي.. فعبارات التخوين والشتائم تملأ قانون الحوار بين كل الأطياف السياسية .. وعبارات التكفير والتفسيق والتبديع تملأ قاموس بعض الشباب المسلم ضد كل من لم يتفق معهم في رأي مهما كان بذله وعلمه وفضله.. حتى أنني أسمع شتائم مقذعة تنال علماءً أجلاءً ورموزًا إسلاميةً عظيمةً من بعض مدعي العلم ومن بعض الشباب حديثي التدين.. لم يسلم منها القرضاوي أو العوا ولا ابن باز ولا حسان ولا الحويني ولا غيرهم.. وكأنه كتب علينا نحن أهل السنة ألا يخرج منا عالمٌ أو فقيهٌ إلا وشتمناه وأهلنا الترابَ عليه لمجرد أنه لا يعجبنا رأيه في شيء.. فضلا عن البدعة الأخلاقية السيئة التي تفشت في المجتمع المصري وهي رفع الأحذية أو الضرب بها وهي الطامة الكبرى التى أصابت أخلاق المصريين في مقتل. وقد رأيت بعيني رأسي في الانتخابات الرئاسية من يضربون صور مرشح رئاسي بالأحذية في أكثر شوارع الإسكندرية ازدحاما.. وبالأمس رفع متظاهرو 24 أغسطس الأحذية أيضًا في مظهر بذيء وغير أخلاقي.. أما الطامة الكبرى فهي ضرب رئيس وزراء مصر بالأحذية في موقف مهيب كان ينبغي علي الجميع الخشوع لجلاله.. ولكن الانتهازية السياسية والتردي الأخلاقي والفوضى الأمنية جعلت هؤلاء ينسون أنه لا ذنب له فيما حدث فالرجل قدم إلى السلطة قبل شهرين من الحادث.. ولكنه العمى الأخلاقي والصمم عن الفضيلة وركوب بحر الإسفاف الذي لا ساحل له. وهذا جعلني أتذكر المتظاهرين الذين كانوا يسبون الجنودَ والضباط الذين يحرسون وزارة الدفاع المصرية بالعباسية بأقذع الشتائم ويسبونهم وأسرهم ويشيرون إليهم بإشارات بذيئة.. ولم يفكروا يوما أن هذا الجندي والضابط من أبناء الشعب المصري يقفون لحراسة هذا المنبر العريق الذي يمثل العسكرية المصرية العظيمة ولا دخل له بالصراع السياسي.. وهو لم يجرم في حق أحد حتى يشتم ويسب بهذه الطريقة. والبعض كانوا يقولون لهؤلاء الضباط والجنود يا طاغوت يا صغير.. وأنتم جنود الطاغوت. وقد حاول هؤلاء الضباط والجنود إثناء هؤلاء عن الشتائم بإذاعة القرآن الكريم تارة دون جدوى أو اهتمام بقدسية القرآن الذي يتلي.. وتاره بالأغاني الوطنية وكأنهم يقولون لهم من خلالها نحن جميعا لسنا من أرباب السلطة أو السياسة.. وكانت نهاية هذا المشهد الأخلاقي المأساوي الذي صفق له الكثيرون دون وعي هو انهيار قيمة وقدر الجيش المصري الوطني لدي الكثيرين.. وانتهي عند البعض بتكفيره ثم قتله قي مذبحة يندي لها الجبين في رفح. إن حالة التردي القيمي والأخلاقي وصلت إلي حدود النخبة فقد حضرت مؤتمرات علمية سياسية بحثية يتطاول فيها بعضُ الساسةِ والأكاديميين علي بعضهم البعض بأفحش الكلمات.. وكأنهم من السوقة أو الرعاع.. وها نحن نسمع عن حالة اشتباك بالأيدي في نقابة الصحفيين وهم صفوة الصفوة في المجتمع والذين يعلمون الناس بكتاباتهم وإطلالتهم المستمرة علي الفضائيات. لقد حارب رسولُ اللهِ صلي اللهُ عليه وسلم أقوامًا كثيرة.. وخاصمه الكثيرون واضطهده الكثيرون.. ولكنه لم يقل كلمة فحش قط طوال حياته.. حتى أنه نهى عن سب أبي جهل رأس الكفر بعد موته توقيرا لابنه عكرمة ولأولاده الذين أسلموا ومراعاة لمشاعرهم. ذاكرًا أن سب الأموات يؤذي الأحياء.. لقد راعى مقام الابن فامتنع عن التعريض به بعد موته رغم حربه الضروس للإسلام والمسلمين. وقد نال عبد الله بن أبي بن سلول من رسول الله كثيرًا ونال من عرض زوجته البتول السيدة العفيفة أمنا عائشة رضي الله عنها ولكنه أبى أن يقتله أحد.. وأبى أن يقتله ابنه.. وقال لأصحابه: " لئلا يتحدثُ الناسُ أن محمدًا يقتلُ أصحابَهُ".. وقال لابنه: "نحسن صحبته ما عاش بيننا". لقد نأي رسول الله صلي الله عليه وسلم طوال حياته عن الكلمة النايبة أو اللفظة الجارحة رغم كثرة خصومه ورغم كثرة الصادين عنه وعن دعوته ورغم كثرة السفهاء الذين تبذلوا معه.. ولكنه قابل هؤلاء جميعا بشعار واحد أمره به ربُّه" فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ " وهتف بنداء ربه " فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ. "سَلَامٌ" فقال الجميع حتى الذين استهزءوا به وبدعوته"سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ" .. وقالها قبل التمكين وبعده فلم يتغير ولم يتحول بعد التمكين والسلطة.. وقال لأهل مكة بعد فتحها: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".. فلم يعير أحدًا بذنب فعله ولم يثر حزازات الماضي أو يجتر آلامه.. وإنما تأسي بصاحبه وصديقه نبي الله يوسف الذي قال لإخوته الذين أرادوا يوما قتله: " قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ". أين هذا من دكتور وعالم أزهري يقول في قناة فضائية متحدثا ً عن ممثلة" كم من الرجال اعتلاك".. هل هذا أسلوب الدعاة إلي الله وطريقتهم.. هل هذا هدي النبي مع الذين اختلف معهم . إننا نختلف مع طريقة هذه الممثلة وآرائها.. ولكن الإسلام لا يعرف الإسفاف .. والدعوة لا تعرف الابتذال .. فما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا .. وهو الذي علم الدعاة جميعا أسلوبه الرائع " ما بال أقوام ". وهل تعني الثورة أن نتفلت من أخلاقنا .. وأن نتنكر لكل ما هو ستقر من أعراف وأخلاق الإسلام والمجتمع المصري العريق . إننا نحتاج إلي صحوة أخلاقية قبل النهضة الاقتصادية وقبل الانطلاق إلي بناء منظومات التعليم والإدارة والصحة الجيدة.. فكل ذلك لا جدوى منه بغير الأخلاق . أن الدعوات الصالحة لابد إن تخرج من لسان عف.. ولابد أن تكون في إطار من الأدب الراقي والخلق النبيل .. ودون ذلك كله فلا جدوي من أي شيء .