خلال أكثر من ثلاثين عامًا نجح نظام مبارك في إبعاد الشعب المصري عن السياسة وتحويله لشعب سلبي لا مبال بما يحدث له وحوله. وأفقد نظام مبارك أجيالاً متعاقبة من المصريين القدرة على الحلم بتغيير النظام السياسي أو تطويره. وجاءت ثورة يناير 1952 لتحدث حراكًا شعبيًا هائلا .. حراكا طال كل المصريين.. فتم استدعاؤهم - فجأة - لعالم السياسة من أوسع أبوابه .. فدخلوه مسلحين بوعي سياسي جديد.. وهكذا رأينا مع تصاعد وتيرة الأحداث السياسية، خفوت الاهتمام بمباريات كرة القدم وغياب المشاجرات المعتادة حولها .. وخفوت الاهتمام بالمسلسلات الدرامية وأبطاله ونجومها .. وحل محل ذلك كله الاهتمام بالبرامج السياسية الحوارية والإخبارية .. وأصبح رجال السياسة نجومًا لدى المصريين يتداولون تصريحاتهم وأقوالهم ومواقفهم .. وصارت البيوت والشوارع والمقاهي والمصالح الحكومية والنوادي، لا همّ لها إلا السياسة والسياسيين وما يحدث في البلد من مواقف .. وكان ذلك جديدًا على المصريين و"ثورة" كبيرة في سلوكهم وهم الذين باعدوا بأنفسهم عن السياسة كل هذه السنين الطويلة. ولكن مع توالي تدهور الاوضاع السياسية - بعد الثورة - واشتداد الصراع على السلطة بين القوى السياسية المختلفة .. ومع "ابتزال" لغة الخطاب السياسي السائد في البرامج الحوارية أو الدائر في المجالس التشريعية المنتخبة .. ومع سيادة لغة خشنة وتهديدية وصلت إلى درجات سفلية ومنحطة في الحوار .. هنا بدأ المصريون يشعرون بعقم وتفاهة ما يدور حولهم .. وبدأ إحساس الملل يتسرب إلى نفوسهم مرة أخرى .. وصار يجتاحهم مرة أخرى الشعور بعدم الجدوى من السياسة والسياسيين .. ومع توالي عبثية القرارات التي يتخذها القائمون على الحكم .. سواء المجلس العسكري أو الرئيس المنتخب وحزبه .. بدأ مصطلح الأغلبية الصامتة وحزب الكنبة في الظهور مرة أخرى. إن كم الحماقات التي ارتكبت منذ سقوط مبارك وحتى هذه اللحظة .. كانت كفيلة بإهدار كل الجوانب الإيجابية للثورة المصرية والإساءة لحركة الشعب المصري المبهرة أثناءها. ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنني كنت أشعر منذ اللحظة الأولى لسقوط مبارك بأن هناك من يرغب - عن سبق إصرار وترصد - في إعادة المصريين لحالة اللا مبالاة والسلبية التي ميزتهم لمدة نصف قرن تقريبًا قبل الثورة.. ولقد حاولنا - بشتى الطرق - مكافحة ذلك المخطط الخبيث الذي تديره الدولة المصرية الماكرة المنغرزة في التاريخ الطويل للمصريين والتي تجيد امتصاص أي صدمة أو زلزال بصبر وآناة .. ثم تعيد إنتاج نفسها من جديد على ذات القواعد والسلوكيات القديمة .. ولسان حالها يردد في مكر "كل غربال وله شدة" .. ولا يمكن أن ننسى شعارها الأبدي الذي تطبقه بعبقرية شديدة: "أصبر على الجار السوء .. يموت .. أو تأتي له مصيبة تزيحه". لقد تبدل الحكام .. وتبدل الحزب الحاكم .. وتبدلت الأفكار السياسية.. ولكن الدولة المصرية لا تتبدل ولا تتغير .. تسير على ذات القواعد الثابتة المستقرة .. ويساعدها "هزل" الحاكمين والسياسيين!! ولا يبدو أن هناك مخرجا منظورا في المدى القريب .. اللهم إلا إذا ظهرت زعامة جديدة موهوبة للتعامل مع الظروف المتدهورة .. ربما ينقذ هذا المصريين من عالم الملل واللا مبالاة!!