رفضت ثورة الخامس والعشرين من يناير المصرية, رغم افتقادها إلي قيادة ظاهرة تعلو علي القيادة الجمعية لضمير الأمة التي التفت حولها في حماية جيشها الباسل العظيم أن يلتف حول مقاصدها أو ينحرف بها عن مسارها أحد. هذه الثورة النبيلة والمتفردة تتعرض اليوم لمحنة قاسية واختبار أن تكون أو لا تكون... وتتعرض معها الدولة المصرية, التي بدأت تخطو بثقة وقوة نحو بناء جديد يؤسس لدولة ديمقراطية مدنية حديثة تكون السيادة فيها للشعب تعلي مبدأ المواطنة وتداول السلطة وسلطان الدستور والقانون, هذه الدولة فرض عليها أن تواجه اليوم وحدها ثورة مضادة يقودها جحافل من الغوغائيين والفوضويين جندتهم جهات داخلية تقزمت أمام الثورة ولم تستطع أن تجد لها موقعا مشرفا من خلال المؤسسات والقنوات الشرعية وتلاقت نزعاتها العدائية للمجتمع والدولة مع قوي خارجية أرجفتها الثورة المصرية فأرادت أن تطفئ شعلتها حتي لا تشكل نموذجا ناجحا وقبل أن تتطاير نيرانها فتصيبها بعواصف وتخلق لديها تحديات تقتلع الهش وتزعزع المزعوم. ولم يشأ هؤلاء وأولئك أن يروا ثورة البركان وأن يستشعروا بركان الثورة التي زلزلت الكثير من الأوضاع بحيث لم يعد في الإمكان تقزيم دور مصر لحساب دويلات وكيانات وحتي جماعات عاثت في الأرض فسادا وإفسادا...!! في هذه الأجواء المشبعة بنزعات القفز علي الثورة ومحاولة كسر هيبة الدولة ممثلة في أجهزة الأمن والاستهانة بكل شيء والإمعان في أعمال التخريب والنهب وترويع المواطنين والسعي إلي إحراج الدولة عن طريق خلق مناخ يوحي, عن غير قصد بتقصيرها تجاه التزاماتها الدولية, لابد لنا من توجيه رسائل قصيرة لمن يهمه الأمر. ولعل أولي هذه الرسائل وأكثرها أهمية أوجهها إلي النخب المصرية الذين يمثلون قاطرة الحراك الوطني والمؤتمنون علي تشكيل الضمير الجمعي للأمة. إن المتأمل في مواقف معظم النخب في مصر قبل ثورة الغضب المتراكم وخلالها وبعدها وحتي اليوم لابد أن يشعر بقدر كبير من الخجل والإحباط. فقد كان معظمهم قبل الثورة وعلي مدي عقود سابقة يكتب ويحاور ويحاضر ويصرح بما مفاده أنه ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن وأن مصر تعيش أزهي عصور الحرية والكرامة! وكما كان الحديث علي إطلاقه قبل الثورة فقد تبدل علي إطلاقه أيضا بعدها وبات كل شيء كما لو كان خربا... هذه النخب ذاتها, وقد تواري معظم الثوار عن المشهد, تبدو اليوم غارقة في صراعات ممزقة الأوصال غير واضحة الرؤي تكاد تفتت أهداف الثورة وتطوعها لتحقيق غايات تبعد كثيرا, بل وتتناقص, مع مفهوم الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة. بهذا السلوك فإن هذه النخب باتت تهدد الثورة في الصميم وتنزلق بها وبالدولة والمجتمع إلي غياهب المجهول... ومما زاد الطين بلة أن معظم هذه النخب تقف اليوم في حالة من اللامبالاة تجاه ما يجري من أحداث مأساوية في الشارع المصري, والتي بلغت ذروتها في مساء التاسع من شهر سبتمبر, وتركت الدولة وحدها تواجه تداعيات ذاك المساء الأسود... إن حالة الصمت المريب لمعظم تلك النخب يحمل أيضا معني الرضا عن الحدث ومباركته ليس اقتناعا به بالضرورة بل نفاقا للمتورطين فيه والمحرضين عليه أو ابتزاز للدولة.. وقد يحمل أخيرا معني مشاركة البعض في التخطيط للأحداث وتوجيهها. ومما يدعو إلي التعجب الممزوج بكثير من الألم حالة الانفلات الإعلامي, وهذا التوجه السلوكي العام لدي عدد غير قليل من المذيعين ومقدمي البرامج الحوارية في تليفزيون الدولة لتغليب لغة التحريض والإثارة, فضلا عن غياب المهنية وافتقاد الحرفية وثقافة الحوار لدي معظمهم. كيف تسربوا إلي هذه المواقع وكيف يسمح لهم بذاك السلوك في هذا الجهاز الأشد تأثيرا في تشكيل الرأي العام ؟! وإلي الغوغائيين والفوضويين, وقد استباحوا المحرمات وناصروا أعداء الأمة- أقول لهم ارحلوا فالوطن بدونكم طهور. أشد عودا وأقوي تماسكا وأكثر استقرارا ونماء.. ارحلوا تبت أيديكم فأنتم أشد الأعداء.. وبقدر تعلق الأمر باسرائيل والقضية الفلسطينية, أقول للغوغائيين والمنظرين والمنظمين لأحداث الشغب والتخريب ليلة التاسع من سبتمبر السوداء لقد فقدتكم القدرة علي قراءة التاريخ الذي يستحيل معه المزايدة علي دور مصر في نصرة القضايا العربية- هذا الدور الذي لا يمكن لغير الحاقدين إنكاره كما يستحيل أن يتطاول عليه أو يتنافس علي حجم تضحياته أي من أقزام السياسة ومراهقيها الذين يجدون دوما في استمرار الصراع والاتجار السياسي والاقتصادي به موردا لشعبية زائفة وسندا لإضفاء شرعية مضللة علي أنظمة استبدادية منزوعة المشروعية وفي هذا السياق أيضا أدعو القائمين علي وزارة التربية والتعليم, إلي جانب تنقية كتب التاريخ من التشوهات, أن يثقفوا شباب مصر بأن يقدموا لهم وجبة مجردة في تاريخ مصر القومي موضحين حقائق التاريخ لوطن يحمل علي أكتافه نضالا قوميا غير مسبوق. وأقول للمؤسسات الأمنية لا تنخدعوا بعد اليوم أمام المتربصين بأمن وطن عزيز حباكم بشرف حراسته والسهر علي أمنه واستقراره. لم يعد يصح التعامل بحسن نية مع ما يسمي فزاعة المليونية ولم يعد مسموحا أن تأخذكم رحمة أو شفقة أو التماس عذر للخارجين علي القانون الذين استمرأوا التطاول علي السلطات والإساءة إلي هيبة الدولة وإحراجها ومحاولة إسقاطها. مفسدة مطلقة.. وأعتب علي بعض من كبار المسئولين السياسيين والإعلاميين الانجراف بغير حنكة بالإشادة بتصرفات هي في الأساس مخالفة للقانون والمواثيق الدولية وتكريم فاعليها وإضفاء البطولة وتسليط أضواء الإعلام عليهم.. ولتكن دوما مصر فوق الجميع واتقوا الله فيها فلا تسقطوا هذا الشعار.