قيل الكثير عن القذافي وصدام حسين وغيرهما من أباطرة الزعماء العرب ، وبعض ما قيل كان ظلماً بيناً في تقدير قيمة الزعيم بين شعبه ، لذلك أختلف مع كل من يعتقدون أن زعيماً مثل القذافي مثلاً قد فقد عقله ، أو أنه كان لا يعرف ما يقول ، أو أنه " هبله ومسكوها طبلة " ، كما أنني لا أتفق مع الهجوم الجارح الذي تشنه بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية علي سيرة هذا الرجل ، فهو إنسان عاقل تماماً رغم ما قد كان يبدو عليه من تصرفات ، ورغم ما كان يحمله خطابه أحياناً من لهجة توحي بأنه وحده منقذ الإنسانية والحضارة ، ولولاه لضاعت الدنيا ... التاريخ يحكي لنا عن صور عجيبة ومسلية لأكثر من زعيم ، فمنهم مثلاً من أشعل النيران في روما وجلس علي أحد تلالها يغني ، وهناك من كان يرسم علي الأرض خريطة للأقطار التي يحكمها ، ثم يدوس عليها بقدميه راقصاً ، وهناك من شن الحروب المتتالية وأسهم بذلك في تدمير الإمبراطورية نفسها ، وهناك .. هناك إمبراطور " الطرشي " في حواري وأزقة مصر ، يكون ثروته من المرارة التي يشربها المصريون مع الطرشي الذي يبيعه لهم ... وأي زعيم عربي لا يختلف عن أي إمبراطور آخر .. ومن الصفات المشتركة بين أغلب من حملوا هذا اللقب ، أنهم يتمتعون بقدر هائل من تورم الذات والشعور بالعظمة المطلقة ، لذلك لم يكن غريباً علي فرعون مصر في أوج إزدهار الحضارة المصرية أن يقول بثقة : " أنا ربكم الأعلي " ، فالقوة لها تأثير الخمر علي رؤوس من يملكونها ، فإذا كانت هذه القوة مطلقة فأن ذلك التأثير يصبح بلا حدود ، فهو خمر الليل والنهار ، وليس علي السكير حرج .. وحتي لا نظلم الزعيم فيكفي أن ننظر في الأمر ملياً ، فهو وحيد في قصره وحوله بطانة تسبح بحمده وقدراته العجيبة ، وحوله إعلام يؤكد له في كل ساعة أن لديه قدرات غير مسبوقة في تاريخ البشرية ، ويمتلك أجهزة رصد تقنعه أنها تتسلل ما بين الرجل وزوجته في أشد لقاءاتهما حميمية وسرية ، وأن تقرأ عقول الناس ، وأن تغسلها أيضاً إذا لزم الأمر... كل هذه المكنات وغيرها تدير أي رأس ، وتشحن العقل بشحنات غير عادية من التفوق والغرور ، وتجعل من الظلم أن نطالبه بعد كل ذلك أن يصبح إنساناً عادياً مثل أي إنسان ، أو نطبق عليه معايير العدل والإنصاف والأخلاق التي نطبقها علي غيره من خلق الله .. هذا الرجل الزعيم يكون عادة جماع ثقافة مجتمع يؤمن بالخرافات ، بحيث يصبح الزعيم خلاصة سوبرمان والرجل الوطواط وجيمس بوند ورامبو وأبو خطوة ، وهو كأغلب القادة من الصفوة التي تري في نفسها مخلص العالم من الضلال ، ونبي ينشر رسالته إن سلماً أو حرباً .. ومن الخطأ أن يتصور أحد أن الزعيم يخترع شيئاً جديداً ، فإمكانياته أقل من ذلك بكثير ، كما أنه لا يدعي ذلك لنفسه ، غاية ما في الأمر أنه بحكم موقعه المرتفع يضخم نغمات هي بالفعل موجودة في المجتمع المريض ، بل أنه يكشف عن حقائق لا يمكن إنكارها تتعلق بمدي تطور ونمو المجتمع .. كيف يمكن لأحد أن يتخيل نزع هذا الرجل من واقعه وثقافته وتاريخه ؟ .. أن ذلك يعتبر محاولة لإنتهاك حقوق الإنسان ، تلك الحقوق التي تكفل للإنسان تمتعه بثقافته وبأسلوب التعبير عنها ، ولذا فأن الإنتقادات التي يحلو للبعض أن يوجهها إلي بعض الزعماء تخلو من الفهم الصحيح لتلك الأبعاد ، وإعتداء علي الحرية التي ننادي بها جميعاً .. ومن الأخطاء المترتبة علي ذلك الفهم غير الصحيح أيضاً ، أن البعض يتهم تصريحات الزعيم بالسذاجة أو بالحماقة والتهور ، رغم أن أهم صفات أي زعيم هي الحماقة والتهور ، وهي ليست صفات سلبية لأنها تقترن في قاموس الزعماء بالشجاعة والإقدام ، أما الحكمة والتروي فهي صفات كريهة لأي قائد ، وهو ما تحدث عنه تفصيلاً الشهير هنري كيسنجر ، فالحكمة تعني عدم الثقة بالنفس وعدم إستخدام الإمكانيات المتاحة ، أما التروي فهو ضعف وتردد وتخاذل لا ينبغي أن يتصف به من يمتلك القوة .. أي أن الحماقة في هذه الحالة هي صفة من يري في حماقة الزعيم حماقة بالمعني الدارج الذي يعتنقه الضعفاء. ولكي يصبح الكلام مفهوماً ، فليس أسهل من تطبيق ذلك علي حالات كثيرة ، علماً بأن ما سبق ليس فلسفة أو – لا سمح الله – سخرية ، بل محاولة لوضع الأمور في نصابها ، دفاعاً عن أشخاص ساقها قدرها أن تحتل موقع القيادة .. ومرة أخري أرجو ألا يفهم أحد من ذلك أننا نلوم أي زعيم ، فلا يمكن لوم زعيم يفكر ويتصرف بطريقة الزعماء ، فهو متسق مع نفسه تماماً ، ويجب أن ننظر إليه من هذه الزاوية وليس من أي زاوية أخري ، ولم يعد الزعيم في حاجة لتغليف كلماته وسياساته بورق السلوفان الدبلوماسي ، ومن المؤسف عندما تجيئ لحظة الحقيقة أن نكتفي بالإفتراء علي الرجل الزعيم وننعته بالصفات الكريهة ، ولعل ذلك يريح بعض الضمائر والعقول ، فحين يواجه الإنسان الضعيف خصماً عتياً قوياً ، فأنه يكتفي بشتمه في سره أو أحلامه ، أو يتهمه بالجنون والحماقة ويحلم بأنه ذات يوم سيسترد عقله ، الإنسان الضعيف في هذه الحالة يستبدل مواجهة الواقع بالفرار من الواقع ، حيث يحلق في تهويمات يدعي بها لنفسه تفوقاً أخلاقياً ومعنوياً كي يواري عجزه المادي ، وهو في الحقيقة عاجز في الحالتين .. وأخيراً يكفي هؤلاء الزعماء ما يلاقونه من مصير حتمي في النهاية ، والتاريخ شاهد علي نهايات مفجعة لهذا النوع من الأباطرة ، لن يكون آخرها تلك اللقطات البشعة لنهاية القذافي ، لقد أخرج فيه شعبه كل سنوات الخوف والذل والقهر ، وتلك للأسف الحكمة التي لا يدركها المستبدون ، ولذلك كانت صرخة القذافي الأخيرة والشهيرة :" من أنتم ؟؟ " .. لقد كان معزولاً عن شعبه لدرجة أنه لم يعد يعرفه .. ولله الأمر من قبل ومن بعد ... -------------- مساعد وزير الخارجية الأسبق المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية