على الرغم من كل ذلك لم يمنع هذا الرفض من قِبَل الأساقفة أن يثور هذا الأسقف ويتهم الأنبا يوحنا قلتة بالكفر والخروج عن المسيحية. وبالطبع لم يكن هو الوحيد الذى صدر منه هذا، ففى الوقت نفسه كانت هناك معركة أخرى مشتعلة داخل مصر بين التيار المسيحى السلفى المتعصب الرافض للمقال من جانب، والتيار المستنير الذى لا يجد أى مساس بالعقيدة أو الإيمان المسيحى فى المقال نفسه من جانب آخر. وكعادتهم لم يشأ أقباط المهجر أن يكونوا بعيدين عن الساحة، خاصة بعد انحسارهم الأخير بسبب طلبهم التدخل الأمريكى فى الشؤون الداخلية لمصر بحجة الدفاع عن الأقباط! فجاءتهم الفرصة للعودة مرة أخرى لفرض وصايتهم على الأقباط فى مصر.. وانهالت الفاكسات التى تكفر الأنبا يوحنا قلتة إلى كل الهيئات والمؤسسات القبطية فى مصر، وكذلك إلى الأنبا يوحنا قلتة نفسه.. وقادت هذا الهجوم إحدى هيئات أقباط المهجر فى إنجلترا من ناحية، والدكتور سليم نجيب أحد قيادات أقباط المهجر فى كندا من ناحية أخرى.. فى اتهام علنى له بالخروج على العقيدة المسيحية.. بل وصل الأمر إلى اتهامه بأنه ارتد عن المسيحية إلى الإسلام!. فهل يعتبر اختراق الكاتب لحاجز التاريخ – كما يقول هو فى مقدمة المقال – فى محاولة للعبور فوق أوهام لا تمت للحقيقة بصلة، سكنت فى وعى أو لاوعى الشرق أو الغرب واستوطنت أعماقه، خاصة فى وجدان البشر شرقًا وغربًا لايزال مزدحمًا بما يشبه صراع العواطف.. ممزقًا بأصوات تناقلها التاريخ عبر القرون الطويلة، محملا بالأثقال من المغالطات والتهم الباطلة والتفسيرات الغيبية والتحامل على الإنسان الآخر.. فأصبح الخوف والحساسية والتحفز السلبى أمورًا تحكم رؤية المسلم للمسيحى ورؤية المسيحى للمسلم. لقد أراد الكاتب أن «يخترق حاجز التاريخ» فكان جديراً بالتشجيع لأنه أراد العودة إلى الحقيقة وإزالة الأكاذيب التى نالت من الرسول وكانت سببا فى التاريخ القديم – فى الحروب الصليبية – كما كانت فى التاريخ الحديث سببا فى الجفاء بين المسلمين والمسيحيين. والأغرب أن يتولى دعوى التكفير أحد رجال الكنيسة الأرثوذكسية المصرية التى يعيش الأقباط فيها فى ظل الإسلام الذى حرر الأقباط من الاضطهاد البيزنطى وأعاد للكنيسة استقلالها وكيانها. فهل هناك فجاجة أو حماقة مثل هذه؟! ■ ■ ■ فى عام 1971 وقعت ثلاثة أحداث مهمة: كان أول هذه الأحداث تولى الرئيس السادات الحكم بعد وفاة عبدالناصر. وكان ثانى الأحداث (29 أكتوبر 1971) انتخب الأنبا شنودة بطريركاً بفضل القرعة الهيكلية، لأن نتيجة التصويت على المرشحين الثلاثة كانت الأنبا صموئيل 440 صوتاً، الأنبا شنودة 434 صوتاً، القمص ثيموثاوس 313 صوتاً. وأخيراً، ظهور الجماعات الإسلامية التى تؤمن بالعنف وتستلهم فكر المودودى وسيد قطب. وقد انتخب السادات فى هدوء تام لأنه كان نائباً عن الرئيس، ولأن المجموعة الناصرية التى كانت تستحوذ على السلطة اعتقدت أنه سيكون آلة فى يدها، وأنها ستوجهه حيث تشاء وكانت مجموعة كريهة قميئة مجردة من المواهب، منتفخة الأوداج بالسلطة، كان فى أيديها كل شىء الجيش، الداخلية، الاتحاد الاشتراكى، الإعلام، صورت لهم حماقتهم أنهم لو استقالوا جميعًا فسيحدث خلل دستورى، ولكنهم لم يكد يفعلون حتى كان السادات لهم بالمرصاد فاعتقلهم جميعًا فيما سمى بحركة التصحيح (15 مايو) وخلص منهم وسط تهليل الشعب. ولكن السادات وإن كان قد اعتقلهم إلا أن هذا لم ينف أنه لم تكن له قاعدة فى الشعب، لأن الاتجاهات الشعبية كانت قسمة بين الناصريين واليساريين وهما معًا يرفضانه، فكانت القاعدة كلها ضده، وتصور السادات أنه إن أطلق شباب الجماعات الإسلامية خاصة فى الصعيد فإن هؤلاء سينقضون على المجموعات اليسارية والناصرية. وقام شباب الجماعات الإسلامية بالفعل بالمهمة المطلوبة وقضوا على فلول اليساريين والناصريين، ولكنهم وقد تذوقوا النصر ما كان يمكن أن ينتهوا، وكانت فلسفتهم «عدوانية» الطابع تؤمن بالعنف وسيلة لأن الذين يخالفونهم كفار أو أقرب إلى الكفار، فضلاً عن وجود خلاف عميق مضمر بينهم وبين السادات وقتئذ، فقد كانوا يؤمنون بالدولة الإسلامية التى تطبق الشريعة، بينما كان السادات يرفض أى جمع للدين والسياسة، وعندما أخذ يكرر بطريقته الخاصة: «لا دين فى السياسة، ولا سياسة فى الدين»، فإنهم اغتالوه فى مشهد دراماتيكى فريد. ولم يكن السادات هو الضحية الوحيدة للجماعات الإسلامية لأنها كانت قد قتلت الشيخ الذهبى، وهو شيخ أزهرى جليل اختطفته جماعة التكفير والهجرة وأرادوا من الدولة فدية لإطلاق سراحه، وعندما رفضت الدولة قتلوه بيد باردة، ولم يقف أثر الجماعات الإسلامية عند هذا، فقد أفتى لهم فقهاؤهم ب«حلية» اغتصاب أموال بعض الصاغة الأقباط، فضلاً عن أن فكرهم المعروف عن الولاء والبراء كان يملى عليهم كراهية الأقباط والنيل منهم. وظهرت أولى نتائج قيام هذه الأحداث الثلاثة فيما سمى بحادثة الخانكة التى صورها كاهن قبطى هو القمص أندراوس عزيز فى كتابه «الحقائق الخفية عن الكنيسة القبطية» (ص 208): «لقد عشنا سويا مسلمين ومسيحيين على ثرى هذا الوطن، آلاف السنين معا فى السراء والضراء، على الحلوة والمرة، يدا واحدة، والخلافات إذا وجدت بين الإخوة تصفى أيضًا بين الإخوة، دون أن يسمع الغريب». ولكن حدث شىء غريب لم يحدث مثله فى تاريخ الكنيسة، وليس له شبيه.. فى حادثة «الخانكة» عام 1972، أن يأمر رئيس الكنيسة الكهنة ويقول لهم: «أنتم كم؟ مائة وستون، عايزكم ترجعوا ستة عشر كاهناً، والباقى يفترشون الأرض افتراشاً ويستشهدون»، حتى أجابه أحد الكهنة: (لماذا لا تأتى معنا يا سيدنا علشان تستشهد أولنا؟). وهذه واقعة توضح إن صحت كيف أن رئيس الكنيسة بدلا من أن يطفئ نار الفتنة فإنه يضرمها وينفخ فيها.. ولماذا هذا؟! «... هو أن يموت عدد من الكهنة والشعب فى احتكاك مفتعل ومثير وعن طريق زبانيته القلائل المعتصمين فى الخارج يأخذونها ذريعة للدعاية ضد الوطن وإثارة الرأى العام العالمى بدعوى أن المسلمين يقتلون المسيحيين». إن الاستشهاد فى العصور الأولى للمسيحية معنى جميل، أن يموت المسيحى لأجل مبدأ أنه مسيحى فى عالم وثنى لا يعترف بالمسيحية ويحظرها.. وقد انتشرت المسيحية وانتهى عهد الاستشهاد منذ زمن بعيد جدًا بموت البطريرك بطرس خاتم الشهداء قبل ظهور الإسلام.. «أما أن تأخذ فكرة الاستشهاد وسيلة الهدف منها الدعاية ضد الدولة والتشنيع بدين الدولة الرسمى الذى نعيش فى رحابه وسماحته فى حب ووئام آلاف السنين، لأجل أن أخلق من نفسى «زعيماً شعبيًا» ذا صيت واسع فى دنيا السياسة وشاشات التليفزيون.. أبنى نفسى بهلاك الآخرين، فهذه أنانية وذاتية مفرطة...». «أحلام الأنبا شنودة بتكوين جبهة قبطية للرأى العام العالمى خارج مصر الهدف منها أن يكون زعيمًا شعبيًا، هى سراب خادع أضر به وبالمسيحيين فى مصر..». قد يشكك البعض أو يطعن فى هذه الرواية، ولكن تصوير الأستاذ محمد حسنين هيكل لها قريب مما جاء فيها، فقد قال: «كان سبب الاحتكاك هو السبب التقليدى القديم: كنيسة قامت بغير ترخيص فى الخانكة (إحدى ضواحى القاهرة)، وكان قيامها بالطريقة نفسها القديمة قطعة من الأرض اشتريت وأحيطت بسور من الدكاكين، ثم أصبحت الأرض الفضاء فى قلبها ملعبًا، ثم مدرسة ثم ملتقى دينيًا، ثم جاءها المذبح ذات ليلة، ودشنها أحد الأساقفة وفتحت لإقامة الصلوات فقامت وزارة الداخلية بواسطة البوليس بإزالة بعض المنشآت، ومنعت استعمالها لغير الغرض الذى كان مقررًا لها. ولم يسكت شنودة، وإنما أصدر أمره فى اليوم التالى إلى مجموعة من الأساقفة بأن يتقدموا موكبًا ضخمًا من القسس، ويسيروا صفا بعد صف فى زحف شبه عسكرى إلى ما بقى من مبنى «الكنيسة» ثم يقيموا قداس صلاة حتى بين أطلاله، وكانت الأوامر لهم بأن يواصلوا التقدم مهما كان الأمر، حتى إذا أطلق البوليس عليهم نيران بنادقهم، وحاول البوليس أن يتعرض لموكب الأساقفة والقسس ولكن الموكب مضى حتى النهاية، وكان المشهد مثيرًا، وكانت عواقبه المحتملة خطيرة».