ترتبط مرحلة الطفولة بالبراءة واللعب والخيال، لكنها باتت فى السنوات الأخيرة مساحة مضغوطة يطالب فيها الطفل بأن يكبر بسرعة، ويأخذ أدوار ًا ومسئوليات أكبر، جيل كامل أصبح يتصرف كأنه «كبير قبل أوانه»، لا يحن للطفولة، ولا يرى فيها قيمة، وكأن شيئًا ما انتزع من هذه المرحلة دون أن ينتبه أحد. ومع تزايد انشغال الأبوين، وهيمنة السوشيال ميديا، وتعرض الأطفال لمحتوى وخبرات غير مناسبة لسنهم، بدأ المجتمع يطرح تساؤلًا حاسمًا: إلى أين ذهبت الطفولة؟ وهل ما نراه اليوم هو تطور طبيعى لنمو الطفل؟ أم أن هناك عوامل اجتماعية وثقافية جعلتنا نحن الكبار نشعر بأن الطفل لم يعد طفلًا؟ البراءة والوداعة يؤكد الدكتور تامر شوقي، أستاذ علم النفس التربوى بجامعة عين شمس، أن الطفولة ما زالت مرتبطة بالبراءة والوداعة والبساطة، مهما اختلفت الأجيال والظروف، لكن التغيير الحقيقى حدث فى العالم المحيط بالطفل، وفى نوعية الخبرات التى بات يتعرض لها فى سن مبكرة، وهو ما جعل الكبار يشعرون بأن الأطفال يكبرون قبل أوانهم.
تامر شوقى: انشغال الأب أو الأم عن الطفل فى سنواته الأولى يعد من أكثر الأخطاء التربوية خطورة
ويشير شوقى إلى أن استخدام الأطفال للأجهزة الرقمية والإنترنت والألعاب الإلكترونية منحهم وعيًا أكبر بما يدور حولهم، وفتح أمامهم نوافذ لم تكن متاحة فى الماضي، كذلك أسهم التحاق الأطفال المبكر بدور الحضانة ورياض الأطفال، واشتراك الأسر فى الأندية والأنشطة المختلفة، فى إتاحة خبرات واسعة لهم سرعت من نضجهم مقارنة بالأجيال السابقة. ويرى أن تعامل الأطفال اليوم وكأنهم أكبر من سنهم يعود أيضًا إلى مرور بعضهم بخبرات نوعية، سواء إيجابية أو سلبية، تؤدى إلى تحميلهم مسئوليات أكبر من طاقتهم، فمن ناحية قد يتعرض الطفل لظروف قاسية مثل الفقر، أو انفصال الوالدين، أو غياب الأب بسبب السفر، أو مشاهدة خلافات أسرية حادة، أو حتى التعرض للعنف، وهو ما يفرض عليه أدوارًا وتوقعات لا تتناسب مع عمره. العزلة الاجتماعية وكانت دراسة ميدانية أجرتها كلية التربية بجامعة المنصورة (2022) قد أكدت أن إدمان الألعاب الإلكترونية بين الأطفال المصريين مرتبط بارتفاع مستويات العزلة الاجتماعية وتراجع التفاعل الأسري، وبينت النتائج أن الطفل كلما زادت ساعات لعبه، قلت قدرته على التعبير عن احتياجاته ومشاعره، مما يجعل وعيه بذاته أكبر من قدرته على التعبير عنها، وهى إحدى الظواهر التى تفسر لماذا أصبح كثير من الأطفال «يظهرون كأنهم كبار»، لكن بنضج نفسى غير مكتمل. ويحذر الدكتور تامر شوقى، من غياب اللعب الحر عن حياة الأطفال، مؤكدًا أنه عنصر أساسى فى النمو النفسى والعاطفى والسلوكي، فاللعب يعزز نضج الطفل الحركي، ويساعده على محاكاة أدوار عالم الكبار بطريقة آمنة، كما ينمى علاقاته الاجتماعية، ويُبعده عن السلوكيات العدوانية، ويقوى مهارات التركيز والانتباه والإدراك. ويؤكد أن انشغال الأب أو الأم عن الطفل فى سنواته الأولى يعد من أكثر الأخطاء التربوية خطورة، لأنه يؤدى إلى افتقاد الطفل للقدوة، والشعور بالأمن والأمان، وتأخر النمو اللغوي، وضعف اكتساب المهارات النفسية والاجتماعية المناسبة لجنسه، إضافة إلى تعزيز شعور الوحدة والانعزال وفقدان القيمة الذاتية، وتظهر آثار هذا الإهمال فى علامات واضحة، منها قلة الكلام، الانطواء، الانفعال الزائد، الميل للاستخدام المفرط للأجهزة الرقمية، وتفضيل العمل الفردي. النمو العاطفى وأوضحت نتائج دراسة صادرة عن مؤسسة Child Development Research الأمريكية (2021) أن غياب اللعب الحر من حياة الأطفال يعرضهم لاضطرابات فى النمو العاطفى والاجتماعي، ويقلل من قدرتهم على بناء علاقات صحية مع أقرانهم.
د. مصطفى سعداوى: لا بد أن نراجع قانون الطفل بعد بروز جرائم ارتكبها الأطفال، خصوصًا تلك الجسيمة والخطرة
فيما يرى الدكتور وليد رشاد، أستاذ علم الاجتماع الرقمى بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، أن طبيعة العصر تغيرت بشكل كبير، وأن التكنولوجيا أصبحت جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية، إلى جانب انتشار المنصات الرقمية والألعاب الإلكترونية التى استحوذت على مساحة واسعة من وقت الأطفال واهتماماتهم، وهو ما جعل الطفل غير قادر على العودة لمرحلة الطفولة الطبيعية. وأكد أن تعرض الطفل للمحتوى السريع يسبب العديد من التأثيرات السلبية على الدماغ، من بينها حدوث تلوّث ذهنى وظهور ما يسمى ب الأنشطة الروتينية الناتجة عن التصفح المتكرر والسريع، وهى حالة قد تؤدى إلى لخبطة فى الدماغ أو ما يعرف أحيانًا ب «العفن الرقمي»، هذا الاضطراب، بحسب قوله، قد ينعكس على سلوك الطفل ويجعله منحرفًا فى بعض الأحيان دون أن يشعر، لأن الأنشطة الروتينية التى يمارسها قد تقوده تدريجيًا إلى هذا الانحراف. وأضاف «رشاد» أن الترندات أصبح لها تأثير بالغ على المجتمع بشكل عام، وعلى الأطفال بشكل خاص، موضحًا أنه حين يتحول الطفل نفسه إلى صانع للترند، فإن الوضع يصبح خطيرًا وله تداعيات واسعة، ليس على الطفل فقط، بل على المجتمع كله، لأن بعض الأطفال الذين يحققون الترند يتحولون إلى قدوة لغيرهم، مما يدفع أطفالًا آخرين إلى تقليدهم وإعادة إنتاج نفس السلوكيات، حيث تظهر مضامين لا نتمنى أن يمارسها أبناؤنا. هوية رقمية وفى دراسة حديثة صادرة عن جامعة دبى (2024) حول علاقة الأطفال بالترندات الرقمية على منصة TikTok، توصل الباحثون إلى أن الأطفال الذين يصنعون محتوى بانتظام تتشكل لديهم هوية رقمية بديلة تدفعهم لتقليد أنماط سلوك لا تتناسب مع عمرهم، بهدف القبول الاجتماعي. وأكدت الدراسة أن هذه الظاهرة تنقل الطفل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة تمثيل شخصية أكبر من عمره، ما يخلق فجوة بين نضجه النفسى الحقيقى والصورة التى يقدمها للجمهور. القومى للطفولة وفى مقابل التحولات السريعة التى تدفع الأطفال لتجاوز طفولتهم قبل أوانها، يبرز دور المجلس القومى للطفولة والأمومة كخط دفاع أساسى فى حماية الصغار من ضغوط العالم الرقمى وظواهره المستجدة، فالمجلس باعتباره الجهة الوطنية المعنية بحقوق الطفل فى مصر، يتلقى على مدار الساعة بلاغات «خط نجدة الطفل 16000» والواتساب المخصص لمواجهة كل صور الخطر التى تطال الأطفال، من الإهمال والعنف الأسرى إلى التنمر الإلكترونى واستغلال المحتوى على السوشيال ميديا. وخلال شهرى يناير وفبراير من العام الجارى فقط، تعامل المجلس مع أكثر من 66 ألف مكالمة، وفق بياناته الرسمية، بينها شكاوى تتعلق بتأثير المحتوى الرقمى على سلوك الأطفال أو تعرّضهم لضغوط لا تناسب أعمارهم. ولا يكتفى المجلس بتلقى البلاغات، بل يتدخل عبر وحدات حماية الطفل فى المحافظات، ويوفر دعماً نفسياً وقانونياً فورياً، وقد يصل الأمر إلى إنقاذ طفل من خطر مباشر أو وقف أنشطة رقمية مسيئة يتعرض لها. الحماية القانونية من جانبه أكد د. مصطفى سعداوي، أستاذ القانون الجنائى بجامعة المنيا، أن المشرع الجنائى المصرى وفر للطفل حماية قانونية مميزة، حيث اتخذ من الطفل ظرفًا مشددًا للجرائم التى تقع عليه أياً كانت صفة الجريمة، كما جاء فى المادة 116 من قانون الطفل، التى تنص على مضاعفة الحد الأدنى للعقوبة إذا وقعت الجريمة على طفل. وأشار سعداوى إلى أن المشرع فرض عقوبات جسيمة على الجرائم التى تخل بالحياء العام أو العرضية، إذا وقع الضحية طفلًا، سواء كانت هذه الجرائم من صور اغتصاب، هتك عرض، أو تحرش، وعلى سبيل المثال، فإن عقوبة الاغتصاب قد تصل إلى الإعدام أو المؤبد، وإذا وقعت على طفل دون الثامنة عشرة تصبح العقوبة الإعدام، بينما جريمة هتك العرض يعاقب عليها بالسجن المشدد من 3 إلى 15 سنة، وتتضاعف العقوبة إذا كان الضحية طفلًا لتصبح من 7 إلى 15 سنة. كما أوضح أستاذ القانون الجنائى أن الجرائم مثل التنمر، الابتزاز، وكافة صور الجرائم التى تقع على الأطفال تحت سن 18 عامًا تعتبر ظرفًا مشددًا، ويجب فى هذه الحالات الإبلاغ للجهات المختصة المعنية بحماية الطفولة والأمومة، أو تقديم البلاغ للنيابة العامة والشرطة، ويتم تثبيت سن الطفل بشهادة الميلاد أو الوضع الظاهر، أما إذا ارتكب طفل جريمة عنف ضد طفل آخر أو شخص بالغ، فقد فرض قانون الطفل معاملة عقابية خاصة بغض النظر عن جسامة الجريمة، حيث لا يُحكم على الطفل بالإعدام أو المؤبد أو المشدد، والطفل الذى يقل عمره عن 12 سنة لا يُسأل جنائيًا. وحول الحاجة إلى تعديل التشريعات، أشار سعداوى إلى أنه من الطبيعى أن نراجع قانون الطفل بعد بروز جرائم ارتكبها الأطفال، خصوصًا تلك الجسيمة والخطرة التى يرتكبها من تجاوزوا سن 16 حتى 18 عامًا. وأوضح أن مثل هذه الجرائم، مثل واقعة اغتصاب طفلة فى حمام سباحة أدت لوفاتها، تستدعى تعديل المادة 80 من القانون، لمواجهة الجرائم التى يرتكبها الأطفال، وكفالة حماية جديدة لهم، إضافة إلى تشديد العقوبات على الجرائم التى تعرض الطفل للخطر. بناء الوعى وقدم الدكتور محمد فتحي، الكاتب الصحفى والأكاديمي، رؤية شاملة لمشروعه حول الطفل المصرى وبناء وعيه، مؤكدًا أن البداية الحقيقية يجب أن تنطلق عبر جهة مركزية واحدة تتولى رعاية الطفل المصرى وتوحيد جهوده الموزعة بين وزارات متعددة، لا تتعامل معه بالاهتمام الكافي، وتعتبره رقمًا فى إحصاءاتها النهائية، على حد تعبيره. وشدد فتحى على أن هذه الجهة ينبغى أن تتمتع بثقل معنوى وسياسي، وترعاها واقعيًا السيدة الأولى بما لها من نفوذ وقوة تأثير، لتضع استراتيجية وطنية واضحة تعالج قضايا الطفل، وتحدد الأولويات، وتطلق مشروعًا قوميًّا جديدًا للتربية يدخل حيّز التنفيذ الفعلي، دون إغفال محور التربية الوالدية، وضرورة وجود منصّات قوية لمحتوى الطفل فى الإعلام، والفنون، والثقافة. وحول ما إذا كان الطفل المصرى «مستعجل يكبر» أو «فقد طفولته تحت الضغوط»، رفض فتحى هذه الفرضية، معتبرًا أن الطفل المصرى أذكى وأكثر نضجًا من التصورات السائدة، لكنه يشعر بوضوح بإهمال الكبار له. مشروع وطنى وعن كيفية استعادة الطفولة للجيل الحالي، أكد أن الطفولة موجودة بالفعل، لكن الخطأ فى طريقة فهمها لا فى وجودها، واعتبر أن البداية الحقيقية تكمن فى مشروع وطنى شامل للطفل، يتضمن منصات رقمية وتطبيقات وألعاب تربوية جاذبة، تدمج داخل مؤسسات الدولة كافة، إلى جانب تطوير التعليم التقليدى الذى وصفه بأنه «ممل»، والتخفيف من الضغط الأسري، وتقديم محتوى إبداعى يستعيد الخيال بدلاً من خنقه. وأوضح أن غياب هذه العناصر هو ما يضع ضغوطًا اجتماعية تعرقل المستقبل الذى نتمناه لأطفالنا. وقدم دكتور محمد فتحى الكاتب الصحفى والأكاديمي، رؤية شاملة لمشروعه حول الطفل المصرى وبناء وعيه، مؤكدًا أن البداية الحقيقية يجب أن تنطلق عبر جهة مركزية واحدة تتولى رعاية الطفل المصرى وتوحيد جهوده الموزعة بين وزارات متعددة، لا تتعامل معه بالاهتمام الكافي، وتعتبره رقمًا فى إحصاءاتها النهائية، على حد تعبيره. وشدد فتحى على أن هذه الجهة ينبغى أن تتمتع بثقل معنوى وسياسي، وترعاها، واقعيًا، السيدة الأولى بما لها من نفوذ وقوة تأثير، لتضع استراتيجية وطنية واضحة تعالج قضايا الطفل، وتحدد الأولويات، وتطلق مشروعًا قوميًّا جديدًا للتربية يدخل حيّز التنفيذ الفعلي، دون إغفال محور التربية الوالدية، وضرورة وجود منصّات قوية لمحتوى الطفل فى الإعلام، والفنون، والثقافة. وحول ما إذا كان الطفل المصرى «مستعجل يكبر» أو «فقد طفولته تحت الضغوط»، رفض فتحى هذه الفرضية، معتبرًا أن الطفل المصرى أذكى وأكثر نضجًا من التصورات السائدة، لكنه يشعر بوضوح بإهمال الكبار له. وقال: «نحن نتحدث عن الطفل أكثر مما نتحدث مع، جعلناه أسيرًا لاعتقاداتنا، فصنع لنفسه عالمًا موازيًا لم ندركه بعد، ليس لأنه يتعجل النضج، بل لأنه أنضج منا فى مثل عمره، لا أعتبر الطفل مشكلة، نحن المشكلة، والطفل هو الحل». وأوضح أن الأسرة والدولة كلتاهما فشلتا فى تقديم بديل حقيقى ينتمى إليه الطفل، وهو ما دفعه إلى «الهجرة الداخلية» إلى عالمه الخاص، فى ظل غياب محتوى جاذب أو مساحات تخاطب خياله واحتياجاته النفسية. وعن كيفية استعادة الطفولة للجيل الحالي، أكد فتحى أن الطفولة موجودة بالفعل، لكن الخطأ فى طريقة فهمها لا فى وجودها، واعتبر أن البداية الحقيقية تكمن فى مشروع وطنى شامل للطفل، يتضمن منصات رقمية وتطبيقات وألعاب تربوية جاذبة، تدمج داخل مؤسسات الدولة كافة، إلى جانب تطوير التعليم التقليدى الذى وصفه بأنه «ممل»، والتخفيف من الضغط الأسري، وتقديم محتوى إبداعى يستعيد الخيال بدلاً من خنقه، وأوضح أن غياب هذه العناصر هو ما يضع ضغوطًا اجتماعية تعرقل المستقبل الذى نتمناه لأطفالنا.