محمد جبران: قانون العمل الجديد يسد ثغرة "استمارة 6" ويضمن الأمان الوظيفي    محافظ القاهرة يعتمد جدول امتحانات الفصل الدراسي الثاني| صور    أسعار الذهب ترتفع 2.3% وسط تراجع الدولار وترقّب قرار الفيدرالي الأمريكي    وزير الاتصالات يغادر إلى طوكيو للمشاركة فى فعاليات مؤتمر "سوشى تك" SusHi Tech TOKYO 2025    وزارة البترول تكشف حقيقة وجود بنزين غير مطابق للمواصفات بمحطات الوقود    خطة احتلال غزة.. بن غفير وسموتريتش يهددان بتجويع وتهجير سكان غزة    أيرلندا تحذر من توسيع إسرائيل حربها على غزة: ما يتعرض له الفلسطينيون مقزز وعديم الرحمة    ناصر منسي يقود هجوم الزمالك أمام البنك الأهلي    قبل مواجهة الأهلي.. بوسكيتس: إنتر ميامي ليس مؤهلا للمنافسة في مونديال الأندية    إحالة أوراق زوجة وشابين قتلا زوجها في الشرقية للمفتي    وفاة نجم "طيور الظلام" الفنان نعيم عيسى بعد صراع مع المرض    نائب وزير الخارجية التايلاندي في جولة بالمتحف اليوناني بالإسكندرية    دعاء صلاة الحاجة لجلب الرزق والمال وقضاء الحاجة.. تفاصيل    وصلت لحد تضليل الناخبين الأمريكيين باسم مكتب التحقيقات الفيدرالي.. «التصدي للشائعات» تناقش مراجعة وتنفيذ خطط الرصد    رئيس جامعة المنوفية يعقد اجتماع لجنة البحوث العلمية «أون لاين»    سيخضع لفحص طبي جديد.. يوفنتوس يعلن إصابة كامبياسو    مصر تحصد 62 ميدالية بالبطولة الأفريقية للمصارعة بالمغرب وتتصدر كؤوس المركز الأول    سفيرة الاتحاد الأوروبي ومدير مكتب الأمم المتحدة للسكان يشيدا باستراتيجية مصر لدعم الصحة والسكان    الأرصاد: طقس غداً الثلاثاء حار نهاراً معتدل ليلاً على أغلب الأنحاء    وضع السم في الكشري.. إحالة متهم بقتل سائق وسرقته في الإسكندرية للمفتي    جنايات بورسعيد تؤيد سجن متهم ثلاث سنوات لتهديد سيدة بصورها الخاصة وابتزازها ماليًا    "المصري الديمقراطي" يعقد جلسة نقاشية بعنوان "الإصلاح الاجتماعي من منظور الديمقراطية الاجتماعية"    «دور الشباب في تحقيق رؤية مصر 2030» فعاليات المؤتمر الطلابي الأول بسوهاج    الغرف السياحية: التأشيرة الإلكترونية ستؤدى إلى زيادة كبيرة في أعداد السائحين    حظك اليوم.. تعرف على توقعات الأبراج اليوم 5 مايو    مهرجان مسرح الجنوب يُكرم الكاتب محمد ناصف    جانتس: التأخير في تشكيل لجنة تحقيق رسمية بأحداث 7 أكتوبر يضر بأمن الدولة    ما حكم الاقتراض لتأدية فريضة الحج؟.. عضو مركز الأزهر تُوضح    هل يجوز التحدث أو المزاح مع الغير أثناء الطواف؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    محافظ الدقهلية يتفقد مستشفى المنصورة التخصصي: يثني على أداء المستشفى والاطقم الطبية والتمريض    بعد جنازته بمصر.. كارول سماحة تقيم عزاء زوجها في لبنان الخميس    الرئاسة الروسية: سننظر إلى أفعال المستشار الألماني الجديد    «المركزي» يطرح سندات خزانة ب3 مليارات جنيه    حقيقة تعثر مفاوضات الزمالك مع كريم البركاوي (خاص)    أسعار الأسماك اليوم الإثنين 5 مايو 2025 .. البلطي ب 100 جنيه    مستقبل الذكاء الاصطناعي ضمن مناقشات قصور الثقافة بالغربية    شام الذهبي: الغُناء بالنسبة لي طاقة وليس احتراف أو توجه مهني    وزير التعليم العالي يُكرّم سامح حسين: الفن الهادف يصنع جيلًا واعيًا    لمدة 20 يوما.. علق كلي لمنزل كوبرى الأباجية إتجاه صلاح سالم بالقاهرة    «اللعيبة كانت في السجن».. نجم الأهلي السابق يفتح النار على كولر    رئيس الاتحاد الدولي للترايثلون: مصر تستحق تنظيم دورة الألعاب الأولمبية    محافظ الجيزة يوجه بصيانة مصعد فرع التأمين الصحي ب6 أكتوبر    الهند تحبط مخططا إرهابيا بإقليم جامو وكشمير    ترامب يرسل منظومتي باتريوت لأوكرانيا.. ونيويورك تايمز: أحدهما من إسرائيل    وزارة الصحة تعلن نجاح جراحة دقيقة لإزالة ورم من فك مريضة بمستشفى زايد التخصصي    قطاع الرعاية الأساسية يتابع جودة الخدمات الصحية بوحدات طب الأسرة فى أسوان    "وُلدتا سويا وماتتا معا".. مصرع طفلتين شقيقتين وقع عليهما جدار في قنا    الدكتور أحمد الرخ: الحج استدعاء إلهي ورحلة قلبية إلى بيت الله    جوري بكر في بلاغها ضد طليقها: "نشب بيننا خلاف على مصروفات ابننا"    شيخ الأزهر يستقبل والدة الطالب الأزهري محمد أحمد حسن    فيديو.. ترامب يكشف عن نيته بناء قاعة رقص عالمية في البيت الأبيض    هيئة الرعاية الصحية: نهتم بمرضى الأورام ونمنحهم أحدث البروتوكولات العلاجية    جدول امتحانات الترم الثاني للصف الثاني الثانوى في القليوبية    صدمة لجماهير الأهلي.. صفقة واعدة تبتعد    مقتل شاب على يد آخر في مشاجرة بالتبين    نتنياهو: خطة غزة الجديدة تشمل الانتقال من أسلوب الاقتحامات لاحتلال الأراضى    الدولار الأمريكي يستقر أمام الجنيه في بداية تعاملات اليوم 5 مايو    بكام الشعير والأبيض؟.. أسعار الأرز اليوم الإثنين 5 مايو 2025 في أسواق الشرقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من التحرش إلي الخيانة العظمي‏.. الشعوب تحطم قيودها

ذات يوم دخل طاغية التاريخ الأشهر الامبراطور الروماني كاليجولا‏,‏ قاعة مجلس الشيوخ‏,‏ ممتطيا صهوة حصانه تانتوس‏, و لما اعترض أحد الأعضاء علي هذا السلوك المشين,قال له كاليجولا: أنا لا أدري لم يبدي العضو المحترم ملاحظة علي دخول حصاني المحترم, برغم أنه أكثر أهمية من العضو المحترم, فيكفي أنه يحملني!,ثم أصدر قرارا بإقالة هذا العضو, وتعيين حصانه تانتوسس.. البشري, هلل بقية الأعضاء لحكمة كاليجولا الذي دعاهم إلي احتفال كبير بمناسبة تعيين زميلهم الجديد, وكانت المفاجأة أن المأدبة لم يكن بها سوي التبن و الشعير!.. فلما اندهشوا, قال لهم كاليجولا إنه شرف عظيم لهم أن يأكلوا في صحائف ذهبية ما يأكله حصانه!..وقبل ذلك أباح كاليجولا لنفسه كل جريمة في حق رعيته, وكان يردد: غريب أني إن لم أقتل أشعر بأني وحيد, وإذا أعجبته أي امرأة متزوجة يأمرها بالطلاق من زوجها فلم توجد امرأة ذات مكانة إلا دعاها اليه- كما قال عنه المؤرخوول ديورانت- فهو أعتي طاغية في التاريخ الإنساني المعروف, بوحشيته و جنونه, وقد اقتدت به جموع الطغاة إلي اليوم, مهما باعدت بينهم مسافات الزمان والمكان, يتفقون في قدرتهم علي( تخنيث الشعوب), وفي نهاياتهم المفزعة, عندما تثور عليهم هذه الشعوب, ثأرا لكرامتها.. يكفي أن تتذكر خواتيم أمثال لويس السادس عشر, والحجاج بن يوسف, وهتلر وموسوليني وبينوشيه وتشاوسسكو و صدام والقذافي وبن علي ومبارك, وغيرهم ممن أركسهم الله بتسلطهم علي شعوبهم, في هذا الملف قراءة سريعة في سجلات الطغيان المتكاثرة, ومصائر الطغاة والمستبدين الذين تنتفض عليهم شعوبهم وتحاكمهم, وتقتص منهم, وتلقي بهم في مزبلة التاريخ!!
يأتي الطغاة فتصبح الأوطان- علي اتساعها- سجونا مظلمة وأقبية للفساد والعنف والخراب, حتي لو أخرج الزعيم القائد من قبعة الديكتاتورية أرنبا اسمه الديمقراطية,تتقافز علي وقع الطوارئ المقيدة للحريات, واعتقالات وسجون مرعبة وتعذيب منهجي, وتزييف للانتخابات وتعددية حزبية شكلية لحساب الحزب الحاكم, احتكار للمال والسلطة, بمنطق تاجر البندقية, بعد أن وصل الوجدان السياسي الأمار بالسوء إلي حد تأليه المستبد, ونشأ لون من التواطؤ الجمعي بين أفراد الشعب علي السكوت عما يجري, انتظارا للفجر الموعود, ومن ثم لا يمكن إنكار مسئولية الشعوب عن وقوعها فريسة للديكتاتورية والفساد,وأيضا قدرتها علي وضع حد نهائي لعصور الظلمات والطغيان..
الطغيان ومظاهره
هذا ما أوضحه عالم السياسة جين شارب, من خلال الأمثولة المعروفة بأسطورة سيد القرود, وهي أسطورة صينية قديمة تحكي عن رجل عجوز كان يعيش في ولاية تشو الإقطاعية, واستطاع هذا الرجل البقاء علي قيد الحياة, باحتفاظه بقرود لخدمته, وكان أهالي تشو يسمونه جو غونج, أي سيد القرود. فقد كان يجمع القردة كل صباح ثم يأمر كبيرهم أن يقودهم لجمع الفاكهة من الأشجار والعودة بها إليه, وكان يعاقب كل قرد لا يلتزم بذلك بجلده, دون رحمة, وكانت معاناة القرود عظيمة, ولكنها لم تجرؤ علي الشكوي... وذات يوم خاطب قرد شاب بقية القرود, متسائلا: هل زرع هذا العجوز جميع أشجار الغابة؟ ألا نستطيع أن نأخذ الفاكهة منها دون استئذانه؟ فأجابوه: نعم نستطيع.. فأجابهم: لماذا إذن نعتمد علي الرجل العجوز؟ ولماذا علينا أن نخدمه؟.. هنا يعقب شارب قائلا: فهمت القردة جميعا ما كان يرنو إليه القرد الصغير, حتي قبل أن ينهي جملته, وفي الليلة نفسها وعند ذهاب الرجل العجوز إلي فراش النوم, وغط في سبات عميق, مزقت القردة قضبان أقفاصها واستولت علي فاكهة العجوز المخزنة, وأخذتها إلي الغابة ولم تعد إليه أبدا, وتركته حتي مات جوعا!..هكذا يحكم بعض الرجال شعوبهم باتباع الخدع, هؤلاء الحكام يشبهون سيد القردة, فهم لا يعون تشوش أذهانهم, ولا يدركون أنه في اللحظة التي يدرك فيها الناس أمرهم ينتهي مفعول خداعهمب.
والطغيان هو أقدم النظم السياسية,حيث تحدث أعجب عملية تقمص في التاريخ, إذ تتقلص وتتقمص الأوطان بأهلها وناسها وملايينها في شخص واحد, الزعيم, القائد, المفدي, الركن, الرفيق,..إلخ, فتسافر إن سافر, وتقيم إن أقام, وتمرض إن مرض, وتهوي إن هوي.. دولة فيها ملايين العبيد يحكمها سيد واحد, تلغي عقولها وتكتفي بعقله, وتزدري ملايين الآراء وتمجد رأيه,وحيث يعيش الطاغية تنعدم الحرية ويكثر الوشاة والمرجفون, وتحاك الدسائس والمؤامرات, والطاغية نفسه يعيش في شك وريبة من الجميع, فيزرع جواسيسه بينهم تنقل حركاتهم وسكناتهم, التي تعاقبهم عليها أجهزته القمعية المسماة بالأمنية, وليس للديكتاتور قيم أخلاقية فلا وفاء بوعد, ولا كلمة شرف, وسرعان ما تتسرب صفاته وآثامه إلي المجتمع, فتتخلق نماذج مصغرة منه ف(كما تكونوا يول عليكم),فتجد كل من يؤدي مهنة ترتبط بها مصالح الناس مستبدا متعجرفا أو مرتشيا قامعا, أو مدير عمل ظالما أو أبا متسلطا.. الرعية في نظرهم زمرة أغنام في قبضة ذئب ضار ينهش أعراضهم, ويسفح دماءهم, إنه استرقاق جماعي, علي أفراد الشعب أن ينحنوا حتي تتقوس ظهورهم, وأن يبتكروا عبارات التبجيل ويحتفلوا بالإنجازات الدائمة للزعيم المبجل.. فما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله, أو تعطيه مقاما ذا علاقة بالله كما قال الكواكبي في طبائع الاستبداد ولا داعي لأن نقول حكما دينيا, فالأديان بريئة مما يفعل باسمها, فالحاكم الطاغية أو الديكتاتور أو المستبد وأشباههم كلهم إخوة, ولو في الرضاعة حاكم يري نفسه ذا طبيعة إلهية, الحضارات القديمة عموما, في مصر وفارس والهند والصين, قامت علي أساس هذه النظرية, وكان الملوك والأباطرة ينظر إليهم بوصفهم آلهة, وإن كان الرومان قدسوا الإمبراطور فإنه يبقي أن للاستبداد والطغيان الشرقي مذاقه الخاص المعتق, حتي إن الفيلسوف أرسطو أرسل إلي تلميذه الإسكندر الأكبر رسالة ينصحه فيها بمعاملة اليونانيين كقائد لهم, وأن يعامل الشرقيين معاملة السيد, لأنهم عبيد, وقد تبعه هيجل في ذلك عندما قال إن الشرقيين كانوا جميعا عبيدا للحاكم الذي ظل هو وحده الرجل الحر في الدولة..
الاستبداد الشرقي.. لماذا؟
يحاول الدكتور إمام عبدالفتاح وضع أيدينا علي علة استنامة شعوب الشرق للطغيان والديكتاتورية وصنوفهما, مبينا أن استعداد الشرقيين لتأليه الحاكم ليس وليد اليوم, إنما هو أمر موغل في القدم, منذ كان فرعون هو الإله أو ابن الإله الذي لا راد لقضائه, فهو يعرف كل شيء بما في ذلك مصلحة الشعب نفسه, مرورا بالعصر الوسيط, حيث الخليفة الذي عينه الله بحكمته, ليسوس الناس ويروضهم لما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة, إلي أن اخترعنا فكرة الزعيم الأوحد والمنقذ الأعظم والرئيس المخلص مبعوث العناية الإلهية والملهم الذي يأمر فيطاع, لأنه يعبر عن مصالح الناس ويعرفها خيرا منهم.. والذي استعار صفة من صفات الله عز وجل لايسأل عما يفعل وهم يسألون, وهو العليم بكل شيء, الذي يسمع كل شيء بأجهزته البارعة في التنصت, ويري كل شيء, من خلال عيونه المبثوثة في كل مكان, وهكذا نشأت بيننا زعامة تجب المؤسسات وتعلو علي الرقابة, وتتجاوز المحاسبة والمراجعة, فلم العجب أو الدهشة أن أصبح لدي أبناء الشرق عامة- والعرب خاصة- استعداد للركوع أمام الطغاة, علي تنوع مجالات الركوع واختلاف أغراضها.مع أن القرآن الكريم جاء هادما لكل صور الاستبداد والطغيان الذي يأتي بالإكراه وينبني عليه, فإذا كان لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي,إذ ليس في دين الله جنس إكراه بتاتا, فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر, ومن باب أولي رفع الإكراه عن بقية الأمور, خاصة السياسة لأن السياسة التي تأتي بالإكراه ليست بسياسة وليست برشد وإنما غي وبغي, لهذا سمي المسلمون الخلفاء الذين جاءوا بدون إكراه ولم يجعلوها وراثة في أبنائهم سموهم( راشدين)-لأن الفيصل بين الرشد والغي يتبين بالإكراه- ولم يسموا بعدهم أحدا راشدا, ممن جاءوا بالإكراه والوراثة, وعلي قدر الاعتماد علي الإكراه يكون الرشد بعيدا والشرعية ناقصة أو معدومة مطلقا, وهذا أصل عظيم في الإسلام للشرعية السياسية, وأصل السيادة ونظام المجتمع, علينا أن نعض عليه بالنواجذ, إذا أردنا أن نكتب فصل النهاية لعصور الظلمات والاستبداد.
عقد الحرمان
يتفق علماء الاجتماع السياسي علي أن الديكتاتوريات تنشأ عن طريق ما يمكن تسميته ب(عقد الحرمان), والواقع أن أغلب الطغاة عاشوا طفولة معذبة, ومراهقة صعبة- حدث هذا مع نيرون و جنكيز خان وهتلر- الأمر الذي من شأنه أن يمهد السبيل لخضوع شخصية الطاغية إلي مجموعة من العقد, ومرجع ذلك عند أفلاطون هو ضعف الطاغية وفقر نفسه وهزالها, يتم تعويضه عبر مزيد من الطغيان, خاصة عندما يعتلي شعوبا خانعة راضية بالهوان, كأتباع كاليجولا الذين رضوا بأكل التبن والشعير..لكن لا نغفل أن الديكتاتوريات تكشر عن أنيابها, خلال شروط تاريخية معينة, مثل فترات تعرض البنيان الاجتماعي لأزمات تحت ضغط ظروف مختلفة, تسقط مشروعية الحكم في أزمة, ويكف الرأي العام عن الإيمان بها, وقد جرت العادة في بلاد فارس, قديما, عندما يموت الملك, أن يترك الناس خمسة أيام بغير ملك وبغير قانون, لتعم الفوضي والاضطرابات جميع البلاد, والهدف من ذلك هو أن بنهاية هذه الأيام الخمسة, وبعد أن يصل السلب والنهب والاغتصاب إلي منتهاه, فإن من يبقي علي قيد الحياة, بعد تلك الفوضي الطاحنة سوف يكون لديهم ولاء حقيقي وصادق للملك الجديد, إذ تكون التجربة قد علمتهم مدي رعب الحالة التي يكون عليها المجتمع, إذا غابت السلطة السياسية, وهو درس طبقه يزيد بن معاوية والي المدينة عام36 ه لما ثار عليه أهلها, لفسقه وفجوره, وكانت واقعة الحرة الشهيرة بنتائجها المؤلمة.. ومن ثم نستحضر مقولة مبارك قبل التنحي( أنا أو الفوضي), وما أعقبها من انفلات أمني, وتسريب المجرمين والبلطجية من السجون, لإرهاب الشعب وترويعه, ودفعه للنكوص عن ثورته.
الدولة الرخوة وبذرة الطغيان
لكن ما هي بذرة الطغيان وباكورته؟..يجيب عن هذا السؤال جون لوك في كتابه في الحكم المدني بقوله:إن الطغيان يبدأ عندما تنتهي سلطة القانون, أي عند انتهاك القانون وإلحاق الأذي بالآخرين.. ليس للطغيان دستور يعتد به ولا للطاغية مركز رسمي محدد يعترف به, لأن المحور الرسمي هو الاعتراف بتمركز جميع السلطات في يديه, فهو الذي يحيي ويميت كالنمرود, مثلا, وهو الرئيس أو الملك وقائد الجيوش, وكبير القضاة ورئيس الوزراء الفعلي وإليه تنتهي مقاليد الأشياء- هل تذكرون الأخ القذافي ملك ملوك افريقيا الذي امتد جوره إلي كل شيء في ليبيا حتي فاض علي جيرانه, ولم تسلم من بطشه حتي أسماء التواريخ والأزمنة- فلا قانون إلا ما يأمر به حتي لو خالفت أوامره الانفعالية المتقلبة القوانين القائمة.. وكل هذا يقربنا من استعارة وصف الدولة الرخوة من الدكتور جلال أمين, لوصف حال القوانين في دولة الطغيان التي لا بد أن تكون رخوة هشة بطبيعتها آيلة للتداعي والسقوط.
فالطاغية يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم, ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم, ويعلم من نفسه أنه الغاصب والمعتدي, فيضع كعب رجله في أفواه ملايين البشر لمنعها عن النطق بالحق, مثل فرعون وكاليجولا ونيرون والنمرود وأكثر أباطرة الصين وملوك فارس, وجنكيز خان و لينين وستالين وهتلر وموسوليني وعيدي أمين وتشارلز تايلور وبوكاسا آكل لحوم البشر, ومعظم حكام عالمنا العربي المبتلي بهم. والنقطة الأساسية هنا هي أن الحاكم المستبد لا يخضع للمساءلة أو المحاسبة, ولا الرقابة من أي نوع, فالشعب في نظره غير موجود إلا لمرضاته- ومن ثم فهو لا يقدم جردة حساب, ويحسب نفسه آمنا في كل الأحوال.. ومن ثم ينبغي ألا نندهش مع الدكتور إمام عبدالفتاح- عندما نقرأ في كتب التراث أن الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك استفسر متعجبا ذات مرة أيمكن للخليفة أن يحاسب, والسؤال هنا عن الحساب من الله سبحانه وتعالي, دع عنك أن يجرؤ البشر علي ذلك,.. فالنصيحة, مجرد النصيحة للحاكم قد تكون سفيرا للهلاك, مثلما حدث مع الكاتب العظيم عبدالله بن المقفع الذي أرسل كتابا صغير الحجم, عظيم القيمة سماه رسالة الصحابة نصح فيه الخليفة العباسي أباجعفر المنصور, بحسن اختيار معاونيه وحسن سياسة الرعية, فعوقب, لأنه تجرأ علي النصح والإرشاد وليس المديح والإشادة, بتقطيع أطرافه قطعة قطعة وأحمي له تنورا وجعل يقطعه إربا إربا ويلقيه في ذلك التنور, حتي حرقه كله, وهو ينظر إلي أطرافه كيف تقطع ثم تحرق, كما وصف ابن كثير في( البداية والنهاية)- وكان مولد أبي جعفر المنصور سنة95 ه, وهي السنة التي مات فيها الحجاج بن يوسف الثقفي, فكلما مات طاغية, ولد في أثره من هو أعتي منه, حتي لا تنقطع سلسلة الطغاة من تاريخنا, وصولا إلي أنداد صدام والقذافي وبشار- ولهذا وجدنا أبالحسن الماوردي المتوفي540 ه بعد أن وضع كتابه الأشهر الأحكام السلطانية يوصي بعدم نشره إلا بعد وفاته, خوفا من بطش الخلفاء العباسيين.
الاستبداد والفكر
ينقلنا هذا الموقف المرعب إلي استبيان وجه آخر للطغيان, في علاقة الطاغية بالفكر, وهو وجه يبرزه ويلخصه ما فعله الخليفة الفاطمي المعز, أمام العلماء في الأزهر الشريف, عندما شهر سيفه بيد ولوح بدنانير ذهبية في الأخري, قائلا هذا حسبي وهذا نسبي, في إشارة لا يخفي معناها, لذلك يجعل الطاغية من بين بطانته بعض علماء الدين الذين يتنكرون لقيمهم,( هل يجوز أن نذكر رجل الدين في فيلم الزوجة الثانية الذي كان يمنح العمدة ديكتاتور القرية فتوي في كل ما يشتهي), و قد يكون المستبد من الجبروت إلي حد أن يعجز الفكر أمامه مؤقتا- فإذا جلا الطاغية سيفه الصارم, ثم تلا عليك أكاذيبه الباطلة, زاعما, أنه وحده الصواب المحض والصدق الصراح..فماذا أنت فاعل إلا أن تقول نعم وأنت صاغر, حدث هذا مع افلاطون والطاغية ديونسيوس, والمتنبي وكافور الإخشيدي, و علي نحو ما رسمه ببراعة أبوالعلاء المعري بقوله:
جلوا صارما, وتلوا باطلا*** وقالوا صدقنا, فقلنا: نعم
لكن هذا لايحول دون تأكيد أن الفكر في النهاية دائما يستعيد طبيعته وضميره الحي, ويقول كلمة الصدق وشهادة الحق في وجه السلطان الجائر, وكم قدم الفكر من شهداء للحرية من الفلاسفة والمبدعين والمفكرين وأصحاب المواقف, كانت دماؤهم دوما أقوي من سيف الجلاد.. سقراط انتهي بتجرع السم, وطعن سبينوزا بسكين في رقبته, وأحرقت الكنيسة جيوردانو برونو بالنار حيا في ساحة عامة, بوصفه مهرطقا مارقا, وكادت تفعل مع جاليليو الذي أعمل عقله, ولم ينقذه إلا شراكته المالية مع البابا..ونحر سعيد بن جبير بين يدي الحجاج وهو يشخب في دمه, ومات الحلاج صلبا في بغداد بكلمة اختلقت ضده بعد جلده ألفا وقطعت أطرافه, وحبس ابن تيمية حتي الموت في سجن القلعة بدمشق..لكن المفارقة أن هناك فريقا من الكتاب والمبدعين ورجال الفكر عموما- وبالطبع الإعلام الرخيص- يعتمد عليهم الطغاة في تدعيم نفوذهم وسطوتهم وتحكمهم في رقاب العباد, لدرجة تأليههم, مثلما قال الشاعر ابن هانيء الأندلسي للمعز لدين الله الفاطمي:
ماشئت لا ما شاءت الأقدار*** فاحكم فأنت الواحد القهار
وكأنما أنت النبي محمد*** وكأنما أنصارك الأنصار
وهؤلاء علي أتم الاستعداد غالبا- للقيام بدورهم في حياة المستبدين, فهم عبيد التملق والنفاق, والحاكم الظالم تسره المداهنة وينتشي من النفاق, ويضجر ممن لا يري رأيه أو يؤمن بحكمته وسلامة توجيهات سيادته!, لكن إذا مات الطغاة أو فقدوا سلطانهم انهالوا عليهم بالمعاول, بالقوة نفسها التي كانوا يمدحونهم بها وربما أشد قوة وبأسا, إنهم( المتحولون) في كل زمن, عندما تغرق السفينة تهرب الجرذان..!
وعليك أن تراجع مواقف إعلاميين ورجال فكر وأعمال وأموال بارزين يصبون اليوم جام غضبهم المصطنع علي استبداد مبارك ونظامه, في حين أنهم كانوا يدورون في فلكه, وأكثر من انتزع فوائد شخصية منه, لايهمهم إلا أنفسهم في الحالين وركوب موجة الثورة كوسيلة بقاء ومصالح.
وببراعة يوقفنا لابويسيه في كتابه القيم العبودية المختارة علي مآرب ودوافع حاشية الديكتاتور وأعوانه: فهؤلاء التعساء يرون بريق كنوز الطاغية, وينظرون مشاهد بذخه وقد بهرتهم أشعتها, فإذا هذا الضوء يغريهم فيقتربون منه, دون أن يروا أنهم إنما يلقون بأنفسهم في اللهب, الذي لن يتخلف عن إهلاكهم.هكذا صنع( الساتير الطفيلي) الذي تحكي الحكاية أنه شهد النار التي اكتشفها بروميثيوس وهي تضيء, فرأي لها جمالا فائقا فذهب يقبلها فاحترق.مثله مثل الفراشة التي تلقي بنفسها في النار أملا في الحظوة بلذة من نورها, فإذا هي تعرف قوتها الأخري: قوتها الحارقة, كان أعوان الطغاة وبطانة السوء سببا أساسيا دوما في قيام دولة الظلم ثم انهيارها, وقطعا ينالهم ما نالها, أو اشد, علي جرائمهم في حق الشعب, إرضاء لسيدهم, ولو بذلوا جهدا مخلصا في سبيل الله والوطن ما كانوا ليصلوا إلي السقوط المدوي في قبضة العدالة, كأمثال قوم فرعون الذين زينوا له الفجور والظلم, وهم لا يختلفون عن أعوان هتلر, أو شلة جمال مبارك وأمه الذين زينوا له وراثة مصر بوصفها عزبة أو بقرة, حتي يواصلوا حلبها و استنزافها, إلي أن خربت البلاد والعباد بتصرفاتهم, لينالوا جزاءهم في ردهات سجن طرة, غير مصدقين وكأنهم في حلم كابوسي لا ينتهي. لايختلف موقفهم في تقديري- عن كهنة سيوة وبابل الذين أفسدوا الإسكندر الأكبر عندما وصفوه بأنه ابن الألهة( زيوس- آمون), مستشهدين بأن أمواج البحار نفسها تعرفت علي الإسكندر وهو يسير بمحاذاة الشاطئ, فتأكدت أنه سيدها وراحت تسبح بحمده.. ليس غريبا أن يظل شرقنا ساحة خصبة لإعادة إنتاج أعوان الطغاة والطواغيت والقهر.. لكن, تري بماذا يحدث الأعوان أنفسهم الآن وقد لهثوا كثيرا وراء الطاغية ليحققوا مآربهم من ورائه, إن القرب من الطاغية,بالتأكيد, هو البعد عن الحرية والكرامة, فكان الجزاء من جنس العمل, يقول سبحانه وتعالي: يا أيها الناس إنما بغيكم علي أنفسكم.
صور الطغيان
الاستبداد قد يكون سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا, أو فكريا, لكن كل أشكال الاستبداد لا تملك قوة تنفيذية إلا بقدر ما يسمح به الاستبداد السياسي بعد أن يتمكن من السيطرة, فالاغتراب الثقافي, والاستغلال الاقتصادي, والاستلاب النفسي من صنع السلطة السياسية التي تملك القوة وتسعي للسيطرة علي إمكانات الدولة كلها, إذ يتسع الجهاز البوليسي, ويمارس رقابة دقيقة, ويصبح الإعلام وقفا علي النظام, وتصبح كل ثقافة لا تخدم النظام مرفوضة وعميلة, وينعدم الحوار, ويلغي الآخرون,ويكمن خلف هذا الشكل شبكة عنكبوتية من العلاقات الاستبدادية تعصف بوجوده, بالاضطهاد والقمع والتعذيب والتصفية الجسدية والمعنوية, وتدمر قيم الإنسان الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية, وليس السياسية وحدها, حيث يسود الظلم الكامل بغير حياء أو خجل,نظام تراتبي تظهر فيه الرغبة العارمة في اقتناء السلطة والثراء, فتركيز الثروة في أيد قليلة من أهم الظروف الممهدة للطغيان, فيقبض الأغنياء علي الأموال, دون الفقراء الذين تسقطهم الدولة من حساباتها تماما, والغريب أن هذا التهالك علي الثروة والنفوذ يكون في النهاية سببا مباشرا في تدمير نظام الطاغية وإنهائه..
نهايات مستحقة
منذ أن عرفت البشرية نظام الحكم والسلطان وحياة الملوك والرؤساء وتعاملهم مع شعوبهم, ووجد أن من ناصب الشعب العداء واعتمد علي قوته فنهايته تكون بيد حاشيته أو جنده أو شعبه, وكانوا( عبرة) لمن بعدهم, لكن الكثير من الحكام لم يعتبروا بما حصل لمن قبلهم, كاليجولا مات بضرب الأحذية من أعوانه وشعبه الذي ضاق به ذرعا, والملك النمرود حطم رأسه بنفسه بصخرة, بعدما فشل ضرب الحذاء في إخراج( بعوضة) استقرت في جيوبه الأنفية, ولم تختلف نهاية نيرون كثيرا عمن سبقوه فقتل نفسه خوفا من الثوار,بعدما أحرق روما وأهلها لهوا وعبثا, هكذا يرسو مصير الطغاة بين ضربة سيف أو حذاء أو طعنة خنجر, أو طلقة في الرأس مع جرعة سيانيد كما انتهي هتلر, وبين فرعون يغرق في البحر هو وجنوده, أو الامبراطور الروماني دوميتيان الذي يقتله14 من أهل بيته دفعة واحدة طعنا بالخناجر, والحجاج بن يوسف الذي أصابه( خراج) حرمه النوم والطعام والشراب وأخذ يخور كما يخور الثور الهائج شهرا كاملا قبل أن يقبر, والسلطان الغوري الذي داسته سنابك خيول العثمانيين, وبين تشاوسيسكو التي انشقت الأرض من تحت قدميه بوابل رصاص حراسه, وبين من دارت عليه الدائرة بعد طول جبروت ليعلق من قدميه عاريا كالخروف في المسلخ في ساحة عامة كما حصل لموسوليني وعشيقته كلارا بيتاتشي أو امبراطور الحبشة هيلا سيلاسي الذي أودع دورة المياه وردم فوقه بالاسمنت, والإمام يحيي اليمني وصدام حسين وغيرهما من الزعماء العرب الذين بدأوا الآن يتساقطون الواحد تلو الآخر وانطبقت عليه دورة التاريخ. وكذلك سوهارتو الإندونيسي وماركوس الفلبيني.
كان المشهد الختامي في حياة الزعيم الليبي نسخة قاسية تليق بنهاية ديكتاتور- دون شماتة- ومنظر الرئيس السابق حسني مبارك علي سريره في قفص العدالة, وجروح الأخ القائد علي عبد الله صالح, وسفاح بنما مانويل نورييجا عميل أمريكا, في سجنها..كلها رسالة واضحة ليعتبر من هم في مقامهم, فهؤلاء كلهم تشبثوا بالسلطة وأرادوا توريثها, في حين أنهم يمارسون كل أنواع الظلم والديكتاتورية علي شعوب مستضعفة, المهم رضا أمريكا الداعم الأكبر للطغاة في العصر الحديث, لكن واشنطن تستخدم الطغاة ولا تحبهم,وتعرف أن دور الجلادين إذا انتهي رسا مصيرهم حيث ترمي أوراق المهملات.. هكذا يرسم مصير الطغاة في التاريخ بريشة سريالية..وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
المحاكمات أنواع
صحيح أن التاريخ قد يفاجئنا بصورة مبتسرة غير مكتملة, بل أحيانا مقلوبة الظل حيث مات فرانكو طاغية اسبانيا عزيزا كريما ووضع جثمانه بضريح عظيم في مدريد بناه أعداؤه من الشيوعيين المعتقلين, كحال كثير من طغاة الشرق عبر قرون, لكن النهاية الحقيقية الجديرة بالتدبر أنه ما من ديكتاتور إلا ويخضع للمحاكمة, إما معنويا من التاريخ والضمير الإنساني أو فعليا داخل قاعات المحاكم والعدالة التي حرم منها شعبه, فلم يبخل عليه بها, وتتنوع محاكمة الشعوب لحكامها وتتدرج من تهمة الخيانة العظمي كما حدث في محاكمة الجنرال بيتان الذي كان رئيسا لجمهورية فيشي التي أقامتها المانيا النازية, إلي تهمة التحرش الجنسي كما حدث في محاكمة كتساف في إسرائيل. ومنذ محاكمة البرلمان البريطاني لتشارلز الأول عام1649 استحوذ القرن الواحد والعشرون علي أكبر عدد من محاكمة القادة المستبدين, وهو ما يعكس تطورا حضاريا إنسانيا مهما, ولعل استحداث المحكمة الدولية لجرائم الحرب جزء من هذا التطور, وقد حاكمت حتي الآن ثلاثة من رؤساء الدول: ميلوسيفتش( صربيا) وتشارلز تيلور(ليبيريا)ثم باجبو( كوت ديفوار), وعلي قائمتها الرئيس السوداني عمر البشير. وبرغم ذلك فإن هذه المحكمة لاتزال أداة في يد الدول الكبري, فقد أفلت من عقابها مجرم الحرب جورج بوش وتابعه بلير وما اقترفا بحق شعبي افغانستان والعراق من قتل وتشريد, لذلك أنشأ عدد من الناشطين القانونيين والمثقفين ما يسمي( محكمة الضمير) علي غرار محكمة الضمير الاولي التي أسسها المفكر البريطاني برتراند راسل, مع المفكر الفرنسي جان بول سارتر وعدد آخر من المثقفين من جميع ارجاء العالم, لمحاكمة أمريكا عندما شنت حربها العدوانية ضد فيتنام, وتيمنا بها, أسست محكمة بروكسل لجرائم الحرب علي العراق عقب الغزو الانجلو امريكي وتلاها انعقاد12 محاكمة ضمير في جميع ارجاء العالم نجحت في استصدار قرار بإلقاء القبض علي وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني ومعظم قيادات الدولة العبرية, علي خلفية العدوان علي غزه, وتحديد حركة هنري كيسنجر, وإلقاء القبض علي الجنرال التشيلي بينوشيه, وإجبار جورج بوش علي الغاء سفره إلي جنيف بعد صدور أمر بإلقاء القبض عليه للمساءلة بشأن غزو العراق. وربما استلهمت روح محاكمات نورمبرج وطوكيو لزعماء النازية ومجرمي الحرب خلال الحرب العالمية الثانية,لكن أهم جوانب هذا النشاط هو تثبيت مسئولية مواطني جميع البلدان عن حقوق مواطني كل بلد علي حدة, رفضا لاستفراد الدول الأقوي بمصير الأضعف.
الديكتاتور يتقاعد
لأن الطغاة لا يموتون عادة في فراشهم, كما أن التقاعد الناجح يمثل دائما مشكلة بالنسبة لهم ليسوا جميعا قادرين علي ايجاد حل لها, تتكفل الشعوب عندما يفيض بها بمحاكمتهم, حدث لصدام حسين وبن علي, غير أن الأمر لا يخلو من استثناءات, فالديمقراطية تأخذ نصيبها من المحاكمات, ها هو الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك لم يخلع, ولم يهرب, ولم يرتكب جرائم في حق شعبه, يحاكم ديمقراطيا, بتهمة استغلال نفوذه يوم كان عمدة لبلدية باريس في توظيف مقربين من حزبه في بعض دوائر البلدية, وتذكرنا محاكمة شيراك, بإجبار الرئيس الأمريكي نيكسون علي الاستقالة من منصبه, بعد فضيحة ووترجيت, إنها الديمقراطية الحقة بالمعني الذي أشار إليه كارل بوبر, إنها ليست حكم الشعب كما هو رائج ومفهوم خطأ, بل إنها القدرة علي محاكمة الحكومات, والمقدرة علي منع قيام طاغية باسم الشعب أو الأغلبية مهما تكن. هنا قد ننبهر من الديمقراطية في الغرب, لكن لابد من الإشارة إلي أن الحرية عندهم كشمع ينصهر أمام حكاية فرعية من حقبة جزئية من تاريخ اليهود(المحرقة) وبسبب ذلك تظل مأساة الشعب الفلسطيني المروعة مشتعلة هادرة..ولو عدنا إلي حسني مبارك فالأمر مختلف جدا,كان حكمه محاولة وضع يد علي بلد بكامله,وتحويله إلي شركة عائلية يتوارثها الأنجال والأحفاد, علي حساب كل القيم, بعدما قفز إلي الحكم علي جناح المصادفة الحزينة, فاعتقد أنه يتيم عصره وعليه أن يبقي جاثما علي صدر الأمة مادام حيا, قضي ثلاثين عاما, كفرعون, بلا تكليف أو مسئولية أو محاسبة, غير آبه لما اقترفه في حق مصر والمصريين من جرائم وتركيع وتدمير وتقزيم ورهن لمقدرات هذا الوطن الذي أوقد للعالم شعلة الحضارة, من أجل التوريث, وصار الفساد داخل أسرته أكثر علانية وفداحة, وأعد العدة للخلود علي أريكة السلطة الوثيرة, دون إدراك أن الزمن المتحرك لايغلبه غلاب, وأنه لن يسبح في النهر مرتين لأن المياه تجري دائما, وفاجأته النهاية التي كانت نذرها مرسومة في الأفق منذ أمد,بعد أن طفح الكيل وصار الحصول علي رغيف العيش مهمة مريرة شبه مستحيلة, وباتت حياة المصريين لحنا حزينا عاصفا, علي طريقة غناء الفلامنكو, خليط من الشكوي والأنين والأمل الضائع, فالشعب لا قبل له بالسرور ولا جرأة له علي الحزن, أمام الفقر( المعشش) في بيوت المقابر والعشوائيات وفداحة التداعي والسقوط في كل الخدمات, في مجتمع الحرمان والعبارات الغارقة والقطارات المشتعلة في( مصر- مبارك) دولة الثقب الأسود, ومجتمع القلة الفاسدة المنحرفة التي تموت من البطر والرفاه, ومجتمع الكثرة التي يسحقها الجوع الكافر, كما عبر عنه محمد البساطي في روايته( جوع), ومع هذا الانسحاق تآكلت شرعية الابتزاز وهبت عليها( الرياح الشمسية) من( ميدان التحرير), حينما نزل المصريون إليه مصممين علي الخلاص وسداد ثمن الحرية الباهظ, فكان لهم ما أرادوا, في الأيام الأخيرة لمبارك أصيب بهزة قوية, وتمني تغيير الشعب الذي طالب بتغيير النظام, بيد أن للثوار رأيا آخر أدخلوه إلي( القفص) وسقط في امتحان التاريخ, في مشهد سيذكره الطغاة فهو حاكم بلا طعم, فشل حتي في يكون طاغية لكنه أوصلنا لما هو أسوأ من الطغيان,.. ومعلوم أن الثورة تعريفا هي فعل تراكمي لعلل عميقة الجذور, قمع سلطة وإحباط جماهير وقدر يتهيأ للغليان, ثم يحدث أن تأتيه اللحظة, وقد أتت لتعيد المصريين إلي سابق عهدهم في اجتراح المعجزات وصنع العجائب..! لكن لا ننسي أن المحاكمة الوحيدة التي تخرج بنتائج أقل دراماتيكية من محاكمة الطغاة هي المحاكمة التي يعقدها الشعب كل أربع أو خمس سنوات عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة ونتيجتها تجديد البيعة للحاكم أو إرساله معززا مكرما إلي بيته ليكتب مذكراته,.. ولا تقوم ديمقراطية عميقة دون أن يطالعنا مبدأ(سيادة القانون) منقوشا علي كل صفحة من صفحاتها, بتعبير الفقيه الدستوري العلامة السنهوري وإذا كانت السلطة ضرورية لتحقيق أمن المجتمع فإنه ينبغي لها ألا تبتلع حرية الأفراد, السلطة ضرورية والضرورات تقدر بقدرها, و(أحمق) حقا من يظن أن الجنود وأبراج المراقبة تحمي الطغاة,ومخطئ بشكل كبير, فالحرس تصد من لا حول لهم علي اقتحام القصر لا المسلحين بالعزم, ثم إن من قتلهم حراسهم من الطغاة أكثر ممن حماهم حراسهم..لذا يمكن القول: فقيرة هي تلك النفوس التي تبطش بالأوطان والأشياء والأحياء بطش الصبيان, فقيرة- يا أبالعلاء- هي تلك النفوس التي لا تخفف الوطء, لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.